|
|
|
+++
|
||
تهنئة بعيد القيامة المجيد لعام 2020م يتقدَّم مجمع رهبان دير القديس أنبا مقار وأسرة تحرير مجلة مرقس بخالص التهنئة إلى صاحب القداسة البابا أنبا تواضروس الثاني بمناسبة حلول عيد قيامة مخلِّصنا الصالح وندعو إلهنا الصالح أن يُديم رئاسته للكنيسة سنين عديدة وأزمنة سلامية مديدة كما نتقدَّم بالتهنئة إلى أصحاب النيافة آبائنا المطارنة والأساقفة الأجلاَّء وجميع الإكليروس وشعب الكنيسة المقدَّسة في بلادنا العزيزة وكل بلاد المهجر |
(من مذكِّرات في حياة التوبة)
للأب متى المسكين
منظر المسيح خارجاً من أورشليم حاملاً الصليب وحوله بعضٌ من أقربائه وتلاميذه يُشيِّعونه حيث تعيَّن أن يُصلَب، منظر كله عار وفضيحة، ولكن المسيح احتمله من أجل السرور الموضوع أمامه (عب 12: 2).
هـذه كانت أحرج ساعة في حياة المسيح، ساعة الخروج مـن أورشليم وعلى أن لا يعـود إليها. هـذه الساعة الحرجة كانت معروفة مُسْبقاً لدى السماء كلها، وكانت موضوع حديث بين أرواح قدِّيسي العهد القديم المنتظرين فداء العالم وخلاصه: «وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، اللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ» (لو 9: 31،30).
كان خروجه من أورشليم بمثابة خروجه من العالم المنظور، وكان الصليب آلة العبور من العالم إلى خارج العالم. فالخروج مـن العالم لا يتمُّ طبيعيّاً بالنسبة للذين أبغضوا العالم وجحدوه، فلابد أن ينتقم العالم من الذين يحتقرونه ويستهزئون بـه: «إِنْ كَـانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِـنَ الْعَالَمِ، بَـلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. اُذْكُرُوا الْكَلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِـنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَـدِ اضْطَهَدُونِي فِسَيَضْطَهِدُونَكُمْ» (يو 15: 18-20).
هذا الكلام قاله يسوع قبل الصليب، وقبل المحاكمة، وقبل انكشاف خطة القبض عليه وتلفيق التُّهَم واستحضار شهود الزور، وقبل ظهور بوادر الخيانة التي اضطلع بها تلميذه، كصورة للعالم حينما يُسخِّر أقرب المقرَّبين لتعذيب نفوس القدِّيسين. فالمسيح كان يَعْلَم تماماً ماذا أُعِدَّ له من العالم من بُغضة وحقد وخطة مُحكَمة لتعذيبه والتنكيل به قبل التخلُّص منه:
+ «وَأَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ، وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ...» (لو 18: 31-33).
+ «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يو 18: 4).
فالذي يهمُّنا أن نَعْلَمه تماماً، هو أنَّ المسيح لم يكن يستغرب سلوك العالم ضده، بل هو نفسه أَعْلَمَ تلاميذه أنه لابد أن يصطدم العالم بكل مَن يخرج عليه، ولابد أن يحتقر العالم كل مَن يحتقره، ويستهزئ بكل مَن يستهزئ به. هذا هو عار الخروج الحتمي.
هذا العار حمله المسيح وهو راضٍ عنه كل الرضا، لأنه قد وَضَعَ في نفسه منذ البدء أن يقف ضد العالم ويُبغض أعماله الشريرة، وقد عَلِمَ ماذا ينبغي أن يدفع ثمناً لهذا السلوك!
فالعار الذي كان يرمز إليه الصليب الذي حَمَلَه المسيح، وهو خارج من العالم، كان ثمناً حتميّاً لخروجه من العالم. وهكذا صار العار الذي في الصَّلْب، أي الموت العلني مع التعرية الكاملة مـن كل كرامة، مع الإضافات الجانبية إن أمكن لتكميل الهُزء والتَّشَفِّي مـن جَلْد وبُصاق ولطم الوجه والضرب على الرأس؛ هو ما يمكن أن ينتظره الإنسان الخارج على العالم، الذي نَوَى أن يطلب المسيح فقط وعَزِمَ أن يتبعه!!
وهذه الحقيقة قد جعلها المسيح قاعدة عامة ينبغي أن توضع في الاعتبار الأول عند كل مَن ينوي أن يخرج من العالم ليأتي إليه: «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً» (لو 14: 27)، «اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ» (مر 10: 21)، «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (مر 8: 34)، «وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: ”إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعَنِي“» (لو 9: 23).
هذا هو ما يعنيه الرسول بولس بقوله: «فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْهِ... حَامِلِينَ عَارَهُ» (عب 13: 13). عار المسيح كان نموذجاً مستوفياً لكلِّ أنواع المهانة والمذلَّة، غير أن لكلِّ إنسان صليباً مُعيَّناً. أي أن لكلِّ إنسان عاره الذي يتفنَّن العالم كيف يُصيغه له من كل صنوف الهوان التي يكرهها!
والذين يُريدون أن يتبعوا الرب، لا يستعفون من صليبهم؛ بل يزيدون عليه ويُزيِّنونه بأنواع أخـرى مـن الحرمان والتقشُّفات وبالصوم لإذلال النفس الإرادي: «أَمَّا أَنَا... أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي» (مز 35: 13). لأنه معروفٌ مـن قول الرسول ومـن حياة القدِّيسين ومن الاختبار، أنه بقدر ما يُذلَّل الإنسان، ويموت بغير إرادته وبإرادته معاً؛ بقدر ما يحسُّ بالحياة الأبدية تنبعث في أعماقه ويعيشها يوماً فيوماً.
أتبعك، يا رب، فقط عرِّفني إلى أين أنت ذاهبٌ؟
+ «قَالَ لَهُ تُومَا: ”يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟“» (يو 14: 5).
لم يكن توما يَعْلَم أنه مدعوٌّ للصليب والموت. كان يظنُّ أنه مدعوٌّ للملكوت مباشرةً، طالما هو يتبع المسيَّا؛ ولكن الحقيقة التي كان ينبغي أن يعرفها توما، والتي يتحتَّم أن يقبلها كل مَن يتبع المسيح، أنَّ الصليب أولاً ثم الملكوت. الموت الاختياري مع المسيح أولاً ثم الحياة معه:
+ «وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: ”إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعَنِي“» (لو 9: 23).
المسير وراء المسيح لا يُقتَحَم اقتحاماً، ولا يُنَال بحياة الليونـة والتَّرَف، ولا بمجـرَّد الصلاة وممارسات العبادة الطقسية؛ ولكنه يستلزم أولاً إنكاراً للنفس، أي تجريداً للذات مـن كلِّ عوامل الظهور والمجد الباطل وحرمانها من تمتُّعاتها التي تزيدها التصاقاً بالدُّنيا وباللحم والدم وتراب الأرض.
هذه كلها بمثابة الموت الداخلي، الذي هو الموت الإرادي، ثم اللاإرادي، ثم بعد ذلك يتفرَّغ الإنسان ليحمل الصليب كل يوم، أي يُباشِر احتمال إهانات العالم المحيط ومظالم البيئة والظروف وعتوِّ الأشرار، وخيانة الأقرباء والأصدقاء والتلاميذ، والأمراض المؤلمة واضمحلال الجسد، والمِحَن؛ تلك التي يتفنَّن الشيطان ويسوقها على الإنسان في أحرج ظروفه، جاهداً، لعلَّه يطرحه في الشكِّ وجحود الإيمان. هذه كلها بمثابة الموت الخارجي، الذي هو الموت غير الإرادي.
ولكن بدون الموت الداخلي، أي الموت الإرادي، أي إنكار الذات؛ يستحيل على الإنسان أن يَقْوَى على حَمْل صليبه كل يوم ويتبع الرب، أي يستحيل عليه أن يحتمل الموت الخارجي الذي هو الموت اللاإرادي. لذلك فإن الرب، بحكمةٍ، قدَّم في وصيته إنكار الذات قبل حَمْل الصليب.
فلكي يتبع الإنسانُ الربَّ، عليه أولاً أن يُباشِر الموت الإرادي، أي إنكار الذات، حتى يستطيع أن يحمل الصليب الاضطراري.
الموت الداخلي شاقٌّ، أشقَّ من الموت الخارجي. إنكار الذات وجَحْدها وإماتتها أصعب من احتمال الإهانات والمظالم والمِحَن. ولهذا فالذي يستطيع أن يُنكر نفسه ويجحد ذاته، يستطيع أن يحتمل أصعب الإهانات؛ بل ويفرح بالمظالم والمِحَن! أمَّا الذي يحب نفسه ويُدلِّل ذاتـه، فربما يحتمل الإهانة مـرَّة ومرتين، ولكنه لا يحتمل الإهانـة كل يوم!!
الذي يجوز الموت الداخلي وينجح، يسهل عليه أن يحمل الصليب كل يوم مهما ثقل، ويتبع الرب ليس إلى المُحاكمة كيوحنا، بل إلى الجلجثة، ثم إلى الملكوت، ليكون حيث يكون المسيح. مُمارسة الموت الداخلي للنفس، هي بالحقيقة مُمارسة حياة إنسان ميت!!
لأن المطلوب أن يُمارِس الإنسان كل فكر وكل عمل وكل شيء في الحياة، كميت بالنسبة لنفسه وبالنسبة للناس، وكحيٍّ فقط بالنسبة للمسيح: «كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ» (2كو 5: 15).
أمَّا مُمارسة الموت الخارجي اللاإرادي، إنما يأتي تأكيداً للموت الداخلي واكتشافاً لصحته: هل قد مات الإنسان فعلاً عن ذاته وعن جسده وعن العالم؟ فإن تطابَق الموت اللاإرادي على الموت الإرادي، كان هذا أعظم برهان للإنسان أنه يعيش مع المسيح!!!
ما أعظم ما يناله الإنسان بقبوله الموت اللاإرادي، إنه جوهر الحياة المسيحية، إنه القيامة: «اتبعني».
+ «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً... أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ (الموت الداخلي)... وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ (قبول الموت الأخير الخارجي)» (في 2: 5-8).
(أبريل 1971)