|
|
|
تبدأ أحداث أسبوع الآلام المُقدَّسة بهُتاف تمجيد: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!» (مت 21: 9). واليوم أيضاً (في أحد الشعانين(1))، يرفع الشعب المؤمن أغصان النخيل والسَّعف المجدول في هذه المناسبة العُظمى، ويهتفون مع أطفال أورشليم: «أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي»! فهذا هو يوم الانتصار. وها المسيح يدخل راكباً على أتان إلى أورشليم، وهو يُعظَّم كمَلِك. وهو آتٍ ليُكمِّل الخلاص الذي من أجله جاء إلى الأرض وتجسَّد. وحيث إنَّ أورشليم هي المدينة المُقدَّسة التي فيها الهيكل والمذبح، وبما أنه لا ينبغي أن تُقدَّم ذبيحة عن الشعب خارجاً عن الهيكل في أورشليم؛ لذلك جاء الرب يسوع ليُقدِّم نفسه ذبيحة بإرادته عن خطايا العالم أجمع في أورشليم. وأورشليم هنا ترمز أيضاً إلى الكنيسة، وحيث إنه لا خلاص خارج الكنيسة؛ لذلك جاء المسيح إلى كنيسته ليصنع خلاصاً لشعبه.
? وفي هذا يقول القديس ميثوديوس (وهو أسقف ”أوليمبيوس“ في ”ليكيَّة“ جنوب آسيا الصغرى. استُشهِد عام 311م ببلاد اليونان):
[«مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»، لأنه هو الرب الذي سيرحم كل خلقة يديه... «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»، لأنه هو الرب الذي سيُخلِّص جميع البشر الذين ضلُّوا طريقهم بالآثام، بأن يرفع عنهم آثامهم، ويُرسل إلى النور أولئك الذين ضلُّوا طريقهم في الظلام... «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»، لأنه هو الذي سيُعطي ذاته لنا جميعاً: فيُخلِّص الفقير من أيدي ظالميه، ويسكب خمراً وزيتاً على ذاك الذي وقع بين اللصوص ورآه كثيرون وجازوا مُقابله... «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»، لأنه هو الرب الذي سيُخلِّصنا بنفسه، فلا سفيرَ عنه ولا ملاك؛ بل الرب بنفسه هو الذي سيُخلِّصنا.
دَعْنا، مع الأطفال، نرفع فروع الأغصان عالياً، ومعهم نُهلِّل بفرح، لكي يَهُبَّ الروح القدس علينا نحن أيضاً، حتى نقدر أن نُرتِّل بطريقتنا الخاصة مُتعلِّمين من الله نفسه، ونقول: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»... فاليوم، مَلِك المجد يُسبَّح في كل العالم، ويدعونا أن نشترك في وليمته السمائيَّة. وبهذه الطريقة يَظهر لنا أنه ربُّ السماء والأرض، بما أنه أعطى الذين على الأرض أن يُسبِّحوه اليوم بنفس تسبيح السمائيين](2).
لقد وُلِدَ ابن الله للمملكة: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (مت 2: 2)، الذي «يَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ» (لو 1: 33)؛ وها هو يدخل اليوم أورشليم كمَلِك، ولكنه سيملك وهو على خشبة الصليب على قلوب البشر، ويأسر قلوب كل الذين فداهم من الموت واشتراهم بدمه إلى محبته!
والرب قد مَلَك لنملك نحن أيضاً معه. وكما أنه مَلَك على الصليب، فهو يدعونا أن نحمل الصليب ونتبعه. وإن شاركناه صليبه وموته، فسوف نُشاركه أيضاً في مجد قيامته وملكوته. وعلى قدر استجابتنا لآلام المُخلِّص ومُشاركتنا له في أحزانه؛ على قدر اشتراكنا في مجده: «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ» (رو 8: 17).
? ويحضُّنا القديس أُغسطينوس اليوم بنفس الكلمات التي قالها يوماً ما لشعبه في كنيسة ”هيبو“ منذ قرونٍ مضت:
[مع أنه ينبغي على المسيحيين أن يكونوا دائماً مُتفاضلين في كلِّ مواسم السنة بالصلوات والأصوام والصدقات، إلاَّ أنَّ هذه المناسبة يلزم أن تُنهِض حتى أولئك المتوانين في سائر الأوقات، وكذلك أولئك المُتيقِّظين، للقيام بهذه الأعمال في كلِّ وقت؛ فعليهم أن يُمارسوها الآن بأكثر حرارة وغَيْرة. فهذه الأيام التي فيها تُجدَّد آلام المسيح، ينبغي أن تُذكِّرنا أن حياتنا في هذا العالم هي فرصتنا لمُزاولة الاتِّضاع كل حين...](3).
? وهذا الاتضاع، الذي هو حجر الزاوية في الحياة المسيحية، هو الشرط الضروري للمُشاركة المُثمرة في أحداث هذا الأسبوع العظيم. فالمسيح هو مَثَلُنا الأعلى في اتِّضاعه. فرغم أنه دخل أورشليم كمَلِك، إلاَّ أنه دخلها وديعاً مُتواضعاً راكباً على جحش. وبسبب تواضعه انتُزِع قضاؤه: «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إش 53: 7). فلنتمثَّل باتِّضاعه الذي لَبِسَه كثوبٍ منذ تجسُّده، لنَحْظَى بنصيبٍ عظيم في ملكوته. فهوذا القديس أُغسطينوس يُصوِّره لنا قائلاً:
[أَيَّة رحمة أعظم من هذه، بالنسبة لنا نحن الخطاة المساكين، من تلك التي أَحدرت خالق السموات من السماء؛ وأَلبست صانع الأرض لباساً أرضيّاً (بتجسُّده)؛ وجعلت ذاك الذي هو مساوٍ للآب في أزليته وخلوده، مُساوياً لنا في الموت؛ ووضعت على رب المسكونة شكل العبد؟ فذاك الذي هو غذاؤنا، جاع؛ وذاك الذي يروينا، عَطِشَ؛ وذاك الذي هو قوَّتنا، صار ضعيفاً؛ وذاك الذي هو شفاؤنا، تألَّم؛ وذاك الذي هو حياتنا، مات](4).
? كما أننا لن نتمكَّن من الدخول إلى عُمق روح هذه الأيام المُقدَّسة، مُسبِّحين الرب المَلِك الذي جاء ليملك على حياتنا كلها؛ إنْ لم نطرح عنَّا جانباً كل هموم العالم التي تُثقِّل القلب. فواضحٌ أنه ليس بقوَّتنا أو بحكمتنا وحدنا نستطيع أن نُدبِّر أمورنا. وفي هذا ينصحنا القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً:
[تفكَّروا في مَن هو ذاك الذي صار شديد الالتصاق بكم في هذه الذبيحة العُظمى، ومع مَن أنتم مدعوُّون للتقرُّب إلى الله... فإنَّ هذا سوف يُساعدكم على أن تصيروا مُنجمعين في أرواحكم، عندما تُدركون أنه بالرغم من كونكم محبوسين في جسمٍ بشري ولابسين جسداً؛ فقد صرتم أَهلاً أن تُسبِّحوا رب الكل مع سُكَّان السماء. فلا تشتركوا، إذن، في هذا التسبيح المُقدَّس، في هذه الأسرار المهيبة، بذهنٍ مُشتَّت. ولا تَدَعوا أفكاركم تنشغل في هذه الأيام بأمورٍ عالمية؛ بل بالحري اطرحوا عنكم كل الأمور الأرضيَّة من أذهانكم... وقدِّموا تسبيحكم الطاهر لله من أجل كل ما صنعه لكم](5).
إنَّ ملكوت الله ملكوتٌ أبدي سماوي، فيجب أن نطلبه باشتياقٍ ولهفة تليقان بمجد هذا الملكوت الذي لا يَفْنَى، صارخين كل حين ومن عُمْق قلوبنا: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ»، طالبينه أولاً وقبل كل شيء: «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (مت 6: 33،10).
إننا نؤمن أنَّ المسيح الذي جاء أولاً في ضعفٍ آخِذاً صورة العبد لكي يُكمِّل خلاصنا؛ سيأتي ثانيةً بقوَّةٍ ومجدٍ عظيمَيْن ليجمع مُختاريه من أربعة أركان المسكونة، لكي نرث معه في ملكوته الأبدي. والقديس بولس الرسول يدعونا أن ننتظر دائماً مجيئه الثاني، ونُعزِّي بعضنا بعضاً بهذا الكلام (1تس 4: 16-18). ويوحنا الحبيب رأى في رؤياه: «الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا»؛ وسمع صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ» (رؤ 21: 3،2).
? على هذا الرجاء الراسخ نحن نعيش مُنتظرين «سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً، وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ» (2بط 3: 13)، لأنه «إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ» (1كو 15: 19). ولكننا نؤمن أننا كما قلنا الآن عند دخول الرب أورشليم: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»، وكما نقولها دائماً عند كل قراءة للإنجيل في الكنيسة المُقدَّسة؛ فسوف نقولها أيضاً بهُتاف الانتصار العظيم في مجيئه الثاني. وفي هذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي في إحدى عظاته للموعوظين:
[... في مجيئه الأول، لفُّوه بأقماطٍ في مذود؛ وفي مجيئه الثاني، يكتسي بالنور كثوبٍ (مز 104: 2). في مجيئه الأول، احتمل الصليب مُستهيناً بالخِزي (عب 13: 2)؛ وفي (مجيئه) الثاني، يأتي مُحاطاً بجيشٍ من الملائكة يُقدِّمون له المجد. إننا لا نركن فقط إلى مجيئه الأول؛ بل ننتظر أيضاً مجيئه الثاني. وكما قلنا في مجيئه الأول: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»؛ سنُكرِّر نفس هذا القول ثانيةً في مجيئه الثاني. فعندما نلتقي بربِّنا مع ملائكته، سوف نعبده قائلين: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ». سيأتي المُخلِّص، لا لكي يُدان ثانيةً (ويُصلَب)، ولكن ليَدين هؤلاء الذين دانوه (قبلاً). فذاك الذي قبلاً حفظ صمته عندما حوكِم، سوف يُذكِّر المُخالفين الذين فعلوا تلك الأفعال الجسورة عند الصليب، وسيقول لهم: «هذِهِ صَنَعْتُم وَسَكَتُّ» (مز 50: 21 حسب السبعينية). فحينذاك (في مجيئه الأول) جاء لتدبيرٍ إلهي، ليُعلِّم البشر بقُدوته؛ ولكن في هذه المرَّة سيقبلونه - بالضرورة - مَلِكاً لهم، حتى ولو لم يشاءوا ذلك...](6).
(1) ”الشعانين“ مُشتقَّة من ”هوشعنا“ أي ”خلِّصنا“. هذا هو النداء الذي كان يصرخ به أبناء العبرانيين يوم دخول الرب أورشليم. (2) عن كتاب: Death & Resurrection, V. A. Yzermans. (3) Ibid. (4) Ibid. (5) Ibid. (6) NPNF, 2nd Series, Vol. VII, p. 104. -