الافتتاحية


فلسفة الصوم وتجربةالمسيح(1)


للأب متى المسكين

واضح أن الأناجيل المتناظرة جميعًا التزمت بوضع عماد المسيح مع التجربة كعملَين أساسيين لبدء الخدمة. هكذا التزم ق. لوقا أيضًا في إنجيله، مما يكشف لنا كشفًا وثيقًا أن الكنيسة الأُولى سجَّلت في وعيها وفي تقليدها الشفاهي والمكتوب هذا التقليد الموروث الذي التزمت به الأناجيل. كذلك نجد أن الحادثتين مرتبطتان معًا ارتباطًا سريًّا قويًّا، إذ بمجرَّد أن حلَّ الروح القدس على المسيح، للوقت قاده وهو متقوٍّ به إلى عمله الجديد لمصارعة الشيطان والصمود أمام محاولته لزعزعته عن خضوعه لله كابن له، وبالتالي تعويقه عن رسالته المسيَّانية التي وضعها عليه الله. وقد باءت كل محاولات الشيطان بالفشل، وخرج المسيح من هذا الصراع المكشوف بقوة أكبر لبدء خدمته التي انحصرت في بدايتها في ملاحقة الشيطان والأرواح الشريرة التابعة له وهزيمتها، وإخراجها عنوة من الذين استحوذت على أشخاصهم، بعد أن ربطتهم وأذلَّتهم وطرحتهم مرضى ومجانين.

وهكذا نجد أن المعمودية وحلول الروح القدس ودخول المسيح إراديًّا في التجربة على الجبل، كانت هي البداية الصحيحة والمدخل المدبَّر من الله لبدء رسالة الخلاص، بتأمين دحر الشيطان أولًا وربطه قبل أن ينزع سلاحه الذي اعتمد عليه في قتله للناس، ألا وهو الخطية، تمهيدًا لبدء افتتاح ملكوت الله:

+ «وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ (أنا) بِإِصْبِعِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. حِينَمَا يَحْفَظُ الْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحًا، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ. وَلكِنْ مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزِعُ سِلاَحَهُ الْكَامِلَ الَّذِي اتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ» (لو 11: 20-22).

ولكن لم يكن عمل المسيح في العماد والتجربة عملًا منفردًا خاصًّا به وحده، ولكنه قدَّمه بكل دقائقه وملابساته وانتصاراته القائمة على القوة التي باشرها بالروح القدس، والخضوع الكلِّي للمكتوب أي وصايا الله، نقول قدَّمها من أجل احتسابه كنموذج يتعيَّن علينا أن نعيه لأنفسنا تمامًا. فهو الطريق المرسوم من قِبَل الله لكي يسيره الإنسان معتمدًا على المسيح والروح ووصايا الله لغلبة الشيطان ليتهيأ للدخول إلى ملكوت الله؛ بل وبالأكثر جدًّا فقد تمَّم هذا العمل ابنُ الله وهو حامل بشريتنا فيه ليكون هذا العمل وهذا الفعل - بهذه القوة الروحية وهذا الخضوع لله وسلطان الاقتدار بكلمة الله لغلبة الشيطان - جزءًا حيًّا من نصيبنا الذي ورثناه في المسيح. بمعنى واضح وقوي وصريح أننا في المسيح اعتمدنا وفي المسيح نلنا قوة الروح القدس وفي المسيح نُقتاد إلى التجربة كل يوم غير هيَّابين؛ بل وبنفسية وإيمان مَنْ هم أعظم من منتصرين بإحساس الخضوع الكلي لكلمة الله، عالمين أن المسيح انتصر لنا ونحن فيه كابن الله.

ولو لاحظنا منهج المسيح في مقاومة الشيطان معتمدًا على كلمة الله المكتوبة نجده يستخدم سفر التثنية بوضوح:

+ «وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لاَ. فَأَذَلَّكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ الْمَنَّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ وَلاَ عَرَفَهُ آبَاؤُكَ، لِكَيْ يُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ» (تث 8: 2و3).

+ «الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي. إِيَّاهُ تَعْبُدُ، وَبِهِ تَلْتَصِقُ، وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ» (تث 6: 13).

+ «لاَ تُجَرِّبُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ كَمَا جَرَّبْتُمُوهُ فِي مَسَّةَ» (تث 16: 16).

+ «فَالآنَ يَا إِسْرَائِيلُ اسْمَعِ الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَنَا أُعَلِّمُكُمْ لِتَعْمَلُوهَا، لِكَيْ تَحْيَوْا وَتَدْخُلُوا وَتَمْتَلِكُوا الأَرْضَ الَّتِي الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكُمْ يُعْطِيكُمْ» (تث 4: 1).

وواضح هنا أمام القارئ كيف اتخذ المسيح من وصايا الله وأحكامه سلاحه البتَّار الذي صرع به العدو، ملتزمًا بدقة متناهية بكلام الله، مما يكشف لنا كشفًا مُلزمًا بأن نفتح عقلنا لنفهم أن وصايا الله لم توضع للحفظ والاستذكار وإنما للعمل بها كأسلحة في حربنا مع العدو، والمسيح استخدمها لنا ومن أجلنا بحذق ووعي ومجابهة قوية لتصبح أسلحتنا لحياتنا.

وللأسف هذه المدَّخرات الإلهية الثمينة التي ادّخرها الله لإسرائيل لتغلب وتحيا أهملتها واستهانت بها، ففقدت قوتها، وباتت معلَّقة على صفحات التوراة للزينة والفخار بلا أي قوة أو فائدة.

وهكذا جاء المسيح ليفتح أول صفحة في منهجه الخلاصي باستخدام التوراة نفسها وبنفس الوصايا لكي يهزم عدوًّا ماردًا لينحِّيه عن طريق خلاصنا وحياتنا.

وقد امتاز ق. لوقا في سرده لتجربة المسيح عن القديس متى والقديس مرقس كونه جعل التجربة الأخيرة في أُورشليم لكي يُحرز المسيح فيها نصرته الأخيرة، كما أكملها على الصليب.

ولكن الذي نستخلصه أيضًا من قصة تجربة المسيح على الجبل، أن المسيح يعتبر الشيطان شخصًا حقيقيًّا ذا قوة تخريبية سلبية ضد كلمة الله والخضوع له، معاندًا للتدبير الإلهي، ومعطِّلًا لطريق الخلاص والحياة. وهو بهذه التجارب يكشف ما بداخل الشيطان من فكر وحيلة ومراوغة بصورة مأساوية مدمِّرة. وواضح أيضًا أن المسيح بخروجه من التجربة سلَّمنا منهجًا مدروسًا مطبَّقًا وعدوًّا مغلوبًا ونصرة روحية باقية واعتمادًا مستميتًا على الآب السماوي.

1:4 «أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ».

واضح أن هذه الآية جاءت لربط المعمودية بالتجربة بعد أن اعترضت جداول الأنساب بين العملين. وتفيد هذه الآية أنه بعد أن اعتمد المسيح وحلَّ الروح القدس عليه كان دائمًا على منتهى الملء من الروح القدس. مع ملاحظة أن إصرار ق. لوقا على لقب ”يسوع“ فقط هو لكي يوضِّح البشرية فيه وقد استُعلن فيها الملء الدائم من الروح القدس. على أن المسيح لم يكن في وقت ما منذ أن حُبل به في البطن غير ممتلئ من الروح القدس، بل وكان حتى وهو في بطن العذراء قادرًا أن يهب الروح القدس للمعمدان وهو جنين، ولأمِّه أيضًا. على أنه لا ينبغي أن ننسى أن المسيح هو ”الرب الروح“ وليس من دونه.

وعمل الروح القدس في المسيح بعد العماد لم يكن مجرَّد قوة مرافقة بل التحام المثيل بالمثيل ليصير ”يسوع“ هو بالفعل المسيح ابن الله، بكل عمل الله واقتداره. فيسوع واجه الشيطان كابن الله المتجسِّد الأمر الذي حيَّر الشيطان وجعله يراوغ ليتحقَّق من هذه الحقيقة.

وعبارة: «يُقْتَادُ بِالرُّوحِ» تفيد أن ”يسوع“ دخل في عمق التدبير الإلهي لتكميل رسالة الابن. أمَّا قوله: «في البرية ἐν τῇ ἐρήμῳ» فالقديس لوقا يأخذ بالتقليد الذي أخذ به القديس متى والقديس مرقس، الذي أُحبِك أصلًا من الله لإظهار المسيح كإسرائيل الجديد الذي قضى الأربعين يومًا على غرار الأربعين سنة التي أُخرج فيها إسرائيل العتيق إلى برية صين إلى قفر أعوزه فيه الماء والطعام. وكان أصلًا ليجرِّبه بحسب الآية (تث 8: 2و3) التي ذكرناها أعلاه. والإحكام هنا في الأماكن والأرقام ملفت للنظر جدًّا، ويوجِّه الفكر العميق نحو تطابق التدبير لتجديد العهود ولخروج البشرية الخروج الأخير والنهائي من ضيق العالم إلى رحب الله والسماء.

2:4 «أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مَنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا».

«يُجرَّب»: πειραζόμενος

تعني الفحص والاختبار، وهي على وزن ما عمل الله لإسرائيل في البرية فعلًا: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ. فَيَخْرُجُ الشَّعْبُ وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا. لِكَيْ أَمْتَحِنَهُمْ، أَيَسْلُكُونَ فِي نَامُوسِي أَمْ لَا» (خر 16: 4)، «فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: لَا تَخَافُوا لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَاءَ لِكَيْ يَمْتَحِنَكُمْ، وَلِكَيْ تَكُونَ مَخَافَتُهُ أَمَامَ وُجُوهِكُمْ حَتَّى لاَ تُخْطِئُوا» (خر 20: 20).

أمَّا تحديد التجربة بأربعين يومًا فهي شديدة الصلة بالأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية تحت التجربة. أمَّا اختزال الأربعين سنة إلى أربعين يومًا فهي تتوافق مع اختزال تجربة شعب إسرائيل وهو أُمة مكونة من ستمائة ألف رجل إلى تجربة إسرائيل الواحد يسوع الرب، باعتباره قائد الأُمة في معركتها الفاصلة. وهذه الأربعين يومًا تكاد تكون الصورة الأوضح لصوم موسى الأربعين يومًا: «وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَكَتَبَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ كَلِمَاتِ الْعَهْدِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرَ» (خر 34: 28). وبهذا يتطابق الوضع كنموذج باهر من إعداد الكلمات محفورة على لوح من حجر لكلمات محفورة على صفحة السماء تعكسها القلوب لتُضيء طريق الحياة الأبدية (2كو 3: 3). وأمَّا الصوم هنا سواء عند موسى أو عند المسيح فكان حرمانًا كليًّا من أعواز الجسد لتتفرغ الروح حرَّة من مجاذبات الجسد، لتواجه عند موسى مستويات الوحي الإلهي ليترجمها صحيحة قوية مضيئة إلى معرفةٍ لتدبير الحياة مع الله، أمَّا عند المسيح فكان الصوم المطلق سلاحًا خفيًّا لصد هجمات العدو باتجاه الجسد إن في أعوازه أو مشيئاته.

ومن هنا دخلت فلسفة الصوم في الكنيسة على شقَّيها الاثنين: صوم موسى لانفتاح الوعي الروحي في غيبة إلحاحات الجسد لقبول صوت الله ومشوراته وتدبيره، ونوال قوة من الروح والنعمة لتوازن ثقل الجسد ورذالته وجموحه المخرِّب للروح، أمَّا الشق الثاني في صوم المسيح فقد أعلنه المسيح صراحة: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مر 9: 29). فالصوم المسيحي ولو أنه منظور جسديًا ولكنه حقـًّا سلاح روحي مُرْهِب رادع لإلحاحات الجسد المعيبة ودافع لهجمات الشيطان التي يركزها على الجسد ويزيد من عنفها على الأهواء والشهوات، حتى إذا انهزم الجسد أذلَّ الروح واستعبد النفس.

ولا يغيب عن القارئ أن صوم المسيح الأربعيني المقدَّس لم يكن للمسيح فيه شيء، فالروح فيه للملء والفيض والقوة بسلطانها الإلهي حاضرة قبل الصوم وفي الصوم وبعد الصوم. ولكن إن كان المسيح قد دخل تدبير الصوم الأربعيني فلكي يكسب خبرته وجهاده وحركاته وردوده وصدوده للعدو لتدخل في صميم خزانة تقليد الكنيسة كقوة تعيشها وتمارسها في المسيح لتستظهر دائمًا وأبدًا على عدو الخلاص والمعكِّر لصفاء الحب والسلام. فصوم المسيح الأربعيني المقدَّس ميراث إلهي قبلته الكنيسة من يد الرب وروحه وفي صميم جسده ودمه، أخذته كوديعة وتوزعه كميراث لأبنائها يتسربلون به كل عام كثوب يقيهم من سهام العدو الحارقة، يخرجون منه إلى نصرة على الموت وقيامة في بهاء المجد. فالذي يمارس حقَّه الإلهي في صوم الأربعين مع المسيح يعيش بروح الغلبة ويذوق معنى الدوس على الخطية ووطأة رعبة الموت. فصوم الأربعين يحمل في أعماقه قوة القيامة بعد اجتياز الموت الإرادي. وبقدر ما تنهزم خبرات وملذات الجسد في عمق الصائم، بقدر ما تذوق الروح خبرات السماء وملذات الروح فيقتنع الإنسان قناعة الاختبار والرضى أنه روح قبل أن يكون جسدًا وفوق أن يكون جسدًا.

ولكن لنا مع القارئ كلمة من جهة اقتياد الروح للمسيح ليُجرَّب من إبليس، فهنا نودُّ أن ينتبه القارئ أن التجربة داخلة بوضوح في تدبير رضى الله ومشيئته، وإن كان برضى الله أن يُسلَّم ”يسوع“ للتجربة من الشيطان، إذن، فالتجربة داخلة تحت مشيئة الله. أمَّا فرحة الشيطان بتسليم يسوع لمثل هذه التجارب فقد فتحت شهيته لكي تكون له الفرصة لاقتناص الهزيمة لابن الله بحيله ودهائه، فاستخدم أكثر ما عنده من الحيل والدهاء. ولكن ما كان أملًا عند الشيطان في هزيمة ابن الله كانت مقابله الثقة عند الله إلى أقصاها بالانهزام للعدو في كَسْرَةٍ أدَّتْ به عند الصليب إلى القبض عليه متلبِّسًا بجريمة قتل ابن الله التي أرسلته إلى الهاوية فاقدًا كل هويته محكومًا عليه بالإعدام!

ومن هذا نفهم أن أولاد الله داخلون تحت هذه المشيئة الإلهية عينها، ولكن استحالة أن يدخل واحد من أولاد الله المؤمنين باسمه تجربة أيًّا كانت دون أن يكون الروح القدس واقفًا بالمرصاد، حتى إذا انحاز الإنسان إلى الله وكلمته في مواجهة الإغراء والدفع والمحاورة والدهاء من الشيطان؛ فإن سيف النعمة يهوى على رأس الشيطان ليخرج من المعركة مهزومًا ومضروبًا: «سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ» (1كو 13:10). كما أنه لا يمكن أن تتجرَّبوا فوق ما تستطيعون! لأن قوة الشيطان بالرغم من أنها أعلى من قامتنا إلَّا أن المسيح أحنى ظهر الشيطان وجعله أضعف من طفل إزاء اسم المسيح والصليب.

ويُلاحِظ القارئ المدقِّق أن تجربة المسيح دامت على مدى الأربعين يومًا، ولكنها تركَّزت في الأيام الأخيرة حينما جاع الجسد وصار في متناول شد الشيطان وجذبه.

ولكن كما سبق وقلنا في شرح إنجيل ق.مرقس(2) الذي لم يتعرَّض قط لأنواع التجارب ولا ظروفها ولا إجابات المسيح عليها جملة، إذ قلنا إنه من الصعب للغاية أن يدخل الفكر البشري مهما علت إمكانياته ومواهبه في دائرة صراع يتم بين فكر ابن الله الفائق الإدراك مع فكر الشيطان القوة المخرِّبة شديدة الدهاء والمكر والخداع. فالذي حدث بين المسيح والشيطان في هذا الصراع الرهيب البالغ حدًّا أقصى قوة الله لمواجهة أقصى حد لقوة هذا المارد المعاند الشرير لا يمكن أن يصلنا منه إلَّا مجرَّد صورة لأحد التشبيهات التي شبَّه بها ابن الله أمور الله. فالذي تسجَّل في إنجيل ق. متى وق. لوقا من هذا الصراع الرهيب يكفي حقـًّا ليغطِّي فكرنا بمفهوم صراع ابن الله مع الشيطان، ولكن صعب أن يكون هو على مستوى الحقيقة الكاملة في مستواها الفائق لقدرات العقل البشري.


الأب متى المسكين

__________________________________________

(1) من كتاب: ”الإنجيل بحسب القديس لوقا - دراسة وشرح“ صفحة 185 - 190.

(2)راجع كتاب: “شرح إنجيل القديس مرقس” للمؤلِّف، الآية 12:1و13 صفحة 138و139.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis