بحث تاريخي


دير أبو حنس
الأثري بملوي

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي

أستاذ الآثار والفنون القبطية

ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

شُيِّد دير أبو حنس The Monastery of Abu Hinnis على الضفة اليمنى من نهر النيل (الشكل رقم 1/ أ - ب) في قرية دير أبو حنس الواقعة إلى الشمال من دير البرشا بخمسة كيلومترات تقريباً، في المركز الإداري ملوي، في جنوب محافظة المنيا بمصر الوسطى أي على بعد ما يقرب من 270 كم من مدينة القاهرة (الشكلان رقم 2 و3).

وبصفة عامة، تعد محافظة المنيا من أهم المحافظات المصرية، لشدة اتساع عرض النيل بها، مما جعلها تتميز بكثرة الأراضىي الزراعية وتنوُّع محاصيلها ومنتجاتها الزراعية، ولكثرة ما بها من مواقع أثرية فريدة من نوعها منذ أقدم العصور حتى الوقت الراهن، كآثار بني حسن وتل العمارنة وتونا الجبل والأشمونين والبهنسا والشيخ عبادة، منذ عصر المصريين القدماء ثم من العصرين اليوناني والروماني. كما أن بها كمٌّ هائل من الأديرة والكنائس القبطية التي بُنيَت وكرِّست لأهم الشهداء والقديسين الأقباط اعتبارًا من القرن السادس الميلادي، مثل دير السيدة مريم العذراء Virgin Mary بجبل الطير، ودير أبو فانا Saint Veni/Beni ودير القديس صموئيل المعترف Saint Samuel the Confessor ودير السنقورية ودير الجرنوس ودير البرشا وغيرهم الكثير. كما يوجد بمحافظة المنيا حاليًّا متحف المنيا والذى شُيِّد في عام 2001. وقد خرج من هذه المحافظة بعض أعلام المجتمع المصري في القرن العشرين، مثل الدكتور طه حسين والمشير عبد الحكيم عامر والسيد فاروق سيف النصر وزير العدل الأسبق وغيرهم.

شكل 1/ أ موقع دير أبو حنس فى ملوي

شكل 1/ ب موقع دير أبو حنس فى ملوي

وتعد مدينة ملوي من أقدم المدن المصرية تاريخيًّا، ويُعتقَد أن اسمها "مرو" مأخوذ من اللغة المصرية القديمة، حيث ويٌقصَد به مستودع الأشياء. ثم تُرجِم هذا الاسم المصري القديم ليُنطق في اللغة القبطية باسم "منلوي" وأصبح في اللغة العربية "ملوي". وربما كان اسمها في اللغة القبطية أيضًا "مري" وتعني المخزن. ووفقًا لرواية علي باشا مبارك في الجزء الحادي عشر من خططه التوفيقية الجديدة، كانت ملوي بمثابة المدخل الشرقي لعاصمة الأشمونين. كما أصبحت حيًّا من أحياء مدينة "أخيتاتون" التي أسسها الملك إخناتون Akhenaten في عصر الأسرة الثامنة عشر في عصر الدولة الحديثة في مصر القديمة. ويَرى البعض أيضًا أن سبب تسمية مدينة ملوي بهذا الاسم يرجع إلى أن نهر النيل يأخذ عندها شكل منحنى.

دير أبو حنس في كتابات المؤرخين والرحالة والباحثين

وترجع تسمية دير أبو حنس بهذا الاسم في الأصل نسبة إلى القديس يحنس القصير Saint John the Little / the Short. وقد أشار المؤرخ المملوكي تقي الدين المقريزي إلى هذا الدير الأثري الهام وأطلق عليه اسم دير أبو النعناع. كما ذكره بعض الرحالة الذين وفدوا إلى مصر مثل الرحالة الشهير فانسليب Vansleb سنة 1678 وسيور جرانجر Sieur Granger سنة 1745 إضافة إلى بعض العلماء الفرنسيين أمثال جومار E. F. Jomard سنة 1821 وجوليان M. Jullien فى عام 1894.

ومن أهم علماء المصريات والقبطيات الذين أمدونا بتفاصيل عن التاريخ والفنون والنقوش والكتابات الأثرية في دير أبو حنس، تجدر الإشارة إلى جون كليدا Jean Clédat وكرام W.E. Crum (1902)، لوكلارك H. Leclerq (1903)، لوففر G. Lefebvre (1907)، دارسي G. Daressyومالون A. Mallon(1914)، إيفلين وايت H.G. Evelyn White (1932)، دوراس J. Doresse (1952)، فينيول M. Fenoyl (1964)، فريند W.H.C. Frend وجاري J. Jarry (1969، 1971-1973)، جودرون G. Godron (1970) وففرييه A. Février (1975).

وكتب أيضًا عن عمارة دير أبو حنس بعض العلماء الألمان والفرنسيين والمصريين مثل بيتر جروسمان P. Grossmann ومارتان M. Martin في سنة 1971 ثم في 1977 وميناردس Otto F. Meinardus أيضًا في نفس العام وS.Timm في عام 1984.

وأشار جودت جبرة Gawdat Gabraإلى هذا الدير عندما نشر المشط العاجي المكتشف به (الشكل رقم 5 / أ - ب) في سنة 1996، وكذلك الأنبا صموئيل Anba Samuel أسقف شبين القناطر في عام 2002 حيث قدم لنا وصفًا عامًا عن كل دير من أهم الأديرة القبطية في مصر.

عمارة دير أبو حنس:

يقع هذا الدير جنوب شرق قرية الشيخ عبادة وفقًا للخرائط التي رسمها كل من جون كليدا ومارتان. ففي جنوب شرق هذه البلدة، توجد الكنيسة الأثرية المؤرخة من القرن السادس الميلادي، وكان سقفها خشبي في البداية غير أنه تم استبداله فيما بعد بالقباب والقبوات أثناء أعمال الترميم والتجديد.

ويوجد المدخل الرئيسي لهذه الكنيسة في واجهتها الغربية (الشكل رقم 4). وهو يؤدي إلى صالة مستعرضة narthex يتبعها ثلاثة أروقة. وفي الناحية الشرقية من الكنيسة، توجد الهياكل وأهمها الهيكل الأوسط والذي عُثر في محيطه على حنيات يكتنفها أكتاف وتيجان تزينها بعض العناصر الزخرفية النباتية من نفس العصر تقريبًا. وفي منتصف الهيكل الشمالى للكنيسة، يوجد مذبح عليه لوح رخامي يزخرفه نص كتابي محفور باللغة القبطية. وتوجد المعمودية في الناحية الشمالية من الكنيسة الأثرية التي تعتبر من أهم معالم الدير.

كما تنتشر الأيقونات الأثرية المختلفة التي تزينها موضوعات زخرفية دينية متنوعة ومقتبسة من الكتاب المقدس أو أشكال لبعض الشهداء والقديسين ورؤساء الملائكة في مختلف أرجاء الكنيسة الأثرية مثل أيقونات رئيس الملائكة ميخائيل The Archangel Michael والقديس يحنس القصير الذي كرس له الدير.

كما يوجد بالكنيسة الأثرية مجموعة نادرة من المخطوطات المختلفة حيث برع رهبان الأديرة القبطية في كتابة وتزيين المخطوطات بأحجامها المختلفة بدقة ومهارة فائقة لتدوين تفاصيل التاريخ الكنسي والليتورجية والرهبنة القبطية وحياة الآباء بطاركة الكنيسة المصرية.

وتنوعت زخارف هذه المخطوطات لتتضمن كثير من الموضوعات الدينية المقتبسة من العهدين القديم والجديد إضافة إلى الأشكال الآدمية والحيوانية وأشكال الطيور وبعض الزخارف النباتية والهندسية والمعمارية والرموز المسيحية. كما كتبت المخطوطات التي عثر عليها في الأديرة والكنائس القبطية بلغات ولهجات عديدة مثل اليونانية والقبطية والسريانية والأثيوبية والنوبية والعربية وربما كان ذلك بسبب توافد كثير من الرهبان من دول مختلفة للعيش في الأديرة القبطية بمصر لكي يتعلموا أسس وأهم قواعد الحياة داخل هذه المنشآت الدينية الهامة.

الشكل رقم 2

الشكل رقم 3

الشكل رقم 4

الشكلان رقم 2 و3 دير أبو حنس الأثري بملوي، نقلًا عن الأنبا صموئيل دليل الكنائس والأديرة في مصر، القاهرة 2002، ص 154

الشكل رقم 4، مسقط أفقي لكنيسة دير أبو حنس بملوي، نقلًا عن الأنبا صموئيل، شرحه، ص 155.

أهم المكتشفات الأثرية بدير أبو حنس:

وأمام باب الكنيسة من الخارج، وضعت بعض تيجان الأعمدة الأثرية والمؤرخة أيضًا من القرن السادس الميلادي. وبالقرب من هذه الكنيسة الأثرية، توجد كنيسة أخرى صخرية نحت في الجبل المجاور، ويتطلب الأمر لزيارتها الحصول على تصريح من وزارة الدولة لشئون الآثار. وتعتبر هذه الكنيسة، التي ما زال بداخلها بقايا بعض الرسومات الجدارية القديمة المنفذة بأسلوب الفريسكو، أقدم من الكنيسة الأثرية الأولى. وفي القرن العشرين، تم تشييد ما يطلق عليه "بيت النساء" Women’s area في الناحية الجنوبية.

وتعد القلايات واللورات المنحوتة في هذا الجبل من أهم أجزاء الدير التي حرص كثير من الرحالة والباحثين والعلماء على زيارتها ووصفها مثل فانسليب وكلود سيكاردC. Sicard سنة 1982 وجرانجر وجومار وجوليان. كما اكتشفت بقايا مدينة مسيحية قديمة بالقرب من قرية أبو حنس، حيث عَثرَ فيها الباحثون على كثير من التحف الأثرية والفنية لاسيما الخشبية والعاجية.

وفي دير أبو حنس الأثري، عُثر على مشط عاجي صغير الحجم ومكون من صفين من الأسنان الواسعة والضيقة لتصفيف وتنظيف الشعر (الشكل رقم 5/ أ- ب). ويُلاحظ تهشم بعض الأسنان الضيقة للمشط الذي يُعد من أهم روائع التحف الأثرية المعروضة حالياً بالمتحف القبطى Coptic Museum بالقاهرة.

وعلى المنطقة الوسطى الفاصلة بين صفي الأسنان لهذا المشط، تظهر موضوعات زخرفية دينية هامة على الوجهين. فعلى الوجه الأول، نقش منظر دخول السيد المسيح منتصرًا على ظهر ابن آتان منتصر إلى أورشليم داخل إكليل نباتي كبير الحجم يمسك به اثنين من الملائكة المجنحة التى تُرى من ثلاثة أرباع. ويعتقد البعض أن هذا المنظر هو منظر لقديس فارس يمتطي جواده ويرفع كلتا يديه إلى أعلى، ربما في وضع العابد. وفي الفن القبطي، يُعتبر شكل القديس الفارس هو الهيئة التي يظهر بها كثير من الشهداء والقديسين الأقباط أمثال القديس تاوضروس Theodorus واقلوديوس Claudius وفيكتور ابن رومانوسVictor son of Romanus ومار مينا العجايبي Saint Minas وآخرون؛ ولكن وهم يطعنون تنين أو ثعبان أو أحد الأعداء أسفل جيادهم، ليُرمز بذلك إلى انتصار الخير على الشر أو انتصار الكنيسة على جميع المعتقدات الوثنية.

شكل رقم 5/ أ مشط عاجي من القرن 5/6 م بالمتحف القبطي

شكل رقم 5/ ب مشط عاجي من القرن 5/6 م بالمتحف القبطي

نقلًا عن جودت جبرة، المتحف القبطي وكنائس القاهرة القديمة، القاهرة، 1996، ص 80-81 شكل رقم 27

وعلى الوجه الآخر لنفس المشط العاجي، تظهر معجزتان من أهم معجزات السيد المسيح. وهما: معجزة إقامة لعازر Resurrection of Lazarus ومعجزة شفاء الأعمى Curing of the Blind. ففي المعجزة الأولى، يظهر لعازر خارجًا من باب القبر يقف بجواره السيد المسيح بملابسه الطويلة والواسعة، ذات الطيات المتعددة، وهو ممسكًا بصليب في يده اليمنى. وفي النصف الآخر من المشط وعلى نفس الوجه، نقشت المعجزة الثانية وهي معجزة شفاء الأعمى الذي يسير وهو يتكىء على عصاه في اتجاه السيد المسيح الذي بدوره يرفع يده اليمنى في اتجاه الشخص الكفيف ليلمس عينيه. كما يظهر القديس يوحنا الحبيب خلف السيد المسيح وهو ينظر إليهما. وفي كل هذه الموضوعات الزخرفية المنقوشة على وجهي المشط العاجي، تظهر كل الأشكال الآدمية بدون هالات دينية كما هو الحال بالنسبة للأشكال الآدمية التي تظهر في زخارف العتب الخشبي مستطيل الشكل الذي عثر عليه في الفناء المكشوف الذي يتقدم الكنيسة المعلقة للسيدة العذراء بمصر القديمة والمحفوظ حاليًّا في المتحف القبطي بالقاهرة. وهو ما يؤكد أن هذا المشط يؤرخ من منتصف القرن الخامس الميلادي حيث لم تظهر الهالات الدينية إلا في النصف الثاني من هذا القرن.

وجدير بالذكر، أن كل هذه المناظر الزخرفية الدينية نقشت نقشًا بارزًا على أرضية المشط الغفل من الزخرفة. وتوجد أمثلة من الأمشاط الخشبية المشابهة لشكل وحجم هذا المشط في متحف الفن الإسلامي بباب الخلق Museum of Islamic Art، ومتحف الإسكندرية القومي Alexandria National Museum ومتحف الآثار Antiquities Museum بمكتبة الإسكندرية Bibliotheca Alexandrina إلى جانب بعض المتاحف الأثرية العالمية مثل متحف اللوفر في باريس Musée du Louvre à Paris بفرنسا حيث عثر على أعداد كثيرة من هذه الأمشاط في بعض المقابر اليونانية والرومانية ثم المسيحية ثم الإسلامية. وقد استحدث الإغريق هذا الشكل من الأمشاط المكون من صفين من الأسنان والتي ربما كانت توضع في المقابر على صدور المتوفين، حيث كانت تستخدم لطقوس دينية. كما أن هذا النوع من الأمشاط التي يطلق عليها "فلاية" في اللغة العربية ما زال شائعًا استعماله في كثير من الأحياء الشعبية والقرى المصرية حتى الآن.

وعلى بعد حوالى 300 متر شمال هذا الدير، توجد المنطقة المعروفة بخرائب أنصنا Ansina ويحيط بها سور كبير من اللبن. واكتشف فيها العاملون بمصلحة الآثار كنيسة أثرية ترجع أيضًا إلى القرن السادس الميلادي. وقد أجرى أعضاء البعثة الأثرية الإيطالية عدة حفائر في هذه المنطقة الأثرية الهامة.

الخاتمة:

مما سبق، يبدو جليًّا أننا بصدد الحديث عن واحدًا من أقدم وأهم الأديرة القبطية في مصر نظرًا لارتباطه باسم واحدًا من أهم القديسين في الكنيسة القبطية وهو القديس يحنس القصير، بالإضافة إلى تشييده في أهم المحافظات المصرية في مصر الوسطى وفي وسط أقدم المواقع الأثرية والتاريخية والدينية النادرة.

وقد زادت أهمية هذا الدير على مر العصور لمَّا أضيف إليه من توسيعات تضمنت عناصر معمارية وأثرية متعددة ورسومات جدارية متميزة في موضوعاتها الزخرفية وأساليبها الفنية إلى جانب الاكتشافات الهامة التي عكف أهم علماء الآثار في مصر وخارجها على دراستها ووصفها.

وبذلك يمكن القول بأن دير أبو حنس يعتبر من أهم المزارات السياحية القبطية في المنيا التي تتمتع بتراث ثقافي كبير يُلقي الضوء على تاريخها وتاريخ مصر العريق والحضارة القبطية قديمًا وحديثًا بكل إنجازاتها التي علَّمتها للبشرية والتي من أهمها الرهبنة القبطية بأشكالها المختلفة.

* * *

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis