بمناسبة أسبوع البصخة وعيد القيامة


أسبوع البصخة
وعيد القيامة*


قبل مجمع نيقية كان لدى الكنيسة موسمان للقيامة: موسم الفصح الذي تشارك فيه الكنيسة رأسها في آلامه وقيامته، وموسم الخمسين الذي تفرح فيه الكنيسة بقيامته وصعوده وحلول روحه عليها، وهو يبدأ من عيد القيامة وينتهي بعيد العنصرة. وكان هذان الموسمان متصلين ببعضهما، كما هو الآن، في احتفالات متواصلة حيث تمزج الكنيسة بين أعمق الأحزان وأعظم الأفراح، ومن هنا جاءت كلمة "بصخة" باليونانية Πάσχα التي جاءت من الكلمة العبرية pesach = to pass over = العبور أو الفصح. وهي التي تُستعمل في أوسع معانيها لتعبّر عن موسم القيامة.

لقد كان موت المسيح مثمرًا في القيامة، فهو بدون القيامة ليس له قوة الخلاص. وكلمة "بصخة" لها ثلاثة معانٍ في السبعينية في العهد القديم: الأول: عيد الفصح ويسمى أيضًا ”عيد الفطير“ ويُحتفل به في 14 - 20 نيسان تذكارًا لنجاة أبكار إسرائيل ولخروجهم من مصر. والثاني: الحمل الفصحي الذي كان يُذبح بين العشاءين (حوالي الساعات 3 - 5 مساءً حسب توقيتنا الحالي) في 14 نيسان (لا 23: 5). والثالث: العشاء الفصحي في مساء نفس اليوم حيث يبدأ يوم 15 نيسان أو اليوم الأول من عيد الفصح.

وفي المعنى الأول يقابل هذا العيد عيد القيامة المسيحي مثلما يقابل النموذج الجوهر الذي يمثله. وقد صار يوما الجمعة والأحد هما اليومان المقدسان في الأسبوع الليتورجي في الكنيسة تذكارًا لآلام الرب وقيامته. والفصح المسيحي هو بمثابة شجرة كانت بذرتها هي الفصح اليهودي، كما أن يوم الرب كانت بذرته هي يوم السبت. والحمل الفصحي يُعتبر رمزًا نبويًّا للمسيح، حيث إن حمل الله ذُبح من أجل خطايانا (1كو5: 7 و8)، كما يُعتبر التحرر من عبودية مصر كمثال للتحرر من سلطان الخطية.

ويقع يوم ”السبت العظيم“ بين الاحتفالين بموت وقيامة المسيح. كما أن الصوم الإنقطاعي كان يمتد من الجمعة العظيمة حتى ليلة عيد القيامة حيث ينتهي بنهاية قدّاس العيد الذي كان يمتد حتى صياح الديك(1) ويوم السبت العظيم - يوم رقاد الرب في القبر ونزوله إلى الجحيم - كان هو اليوم المفضّل في السنة كلها لتعميد الموعوظين لكي بمشاركتهم في موته بالتغطيس في المعمودية هكذا أيضًا ينضمون إلى عضوية جسد الرب: الكنيسة التي تشارك الرب في موته في هذا اليوم ثم في قيامته في اليوم التالي: «فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ» (رو6: 4و5).

وكانت سهرة العيد تنتهي قرب الفجر بسبب الاعتقاد بأن مجيء الرب الثاني سيكون في تلك الليلة. أما الصلب فقد ظلت الكنيسة تحتفل به يوم الجمعة العظيمة الذي يسمى باليونانية Μεγάλη Παρασκευή. وكان عيد الفصح يسبقه ويمهد له موسم توبة وصوم يبلغ ذروته في أسبوع البصخة المقدس الذي يبدأ من أحد الشعانين وينتهي بقداس عيد القيامة. وكان هذا الصوم المقدس يختلف من قطر إلى آخر، ولكنه استقر بعد القرن الخامس وتحدد بأربعين يومًا على مثال صوم المسيح وتشبُّهًا بمثالين للصوم في العهد القديم هما النبيان موسى وإيليا، وهو الذي يسبق أسبوع الآلام. ويشكّل عيد القيامة العبور من حزن التوبة العميق بمشاركة الرب في آلامه وموته من أجل خطايانا إلى فرح الإيمان بقيامة رئيس الحياة. وبعد قداس العيد كانوا يقبّلون بعضهم بعضًا فرحين بالتهنئة التقليدية "إخرستوس آنستي" لكي يختموا بهذه القبلة الأخوية على حبّهم لبعضهم في المسيح. وكان الاحتفال بالقيامة يستغرق أسبوعًا كاملاً ينتهي بالأحد التالي الذي تسميه كنيستنا منذ القرون الأولى "الأحد الجديد" أو "أحد توما". وفيه يظهر المعمَّدون بملابس بيضاء وينضمون بخشوع إلى الكنيسة. وتمتد أفراح القيامة خمسين يومًا تنتهي بعيد العنصرة أي عيد حلول الروح القدس.

أقوال الآباء في ذلك:

قال ق. سيزاريوس أسقف "أرلز" عن عيد الفصح: [افرحوا يا أحبائي لأن ثمن فدائنا قد دُفع. لقد كلّفنا ذلك مقدارًا عظيمًا حيث إن ذاك الذي فدانا أصبح هو ثمن تلك الصفقة. لقد وُلد المسيح ربنا ومخلصنا بطريقة يعلّمنا بها، وقد مات بتلك الطريقة لكي يشفينا، ثم قام مرةً أخرى لكي يكافئنا. لقد جلب الصليب الموت للمسيح ولكنه جلب خلاصًا للمسيحيين. ثم ظهر المخلّص مظهرًا كل علامات لاهوته، لأن نجمًا تتبّعه بعد ميلاده ومجدًا بعد دفنه. والملاك الذي أعلن أنه يولد راقب خروجه من الحياة. لقد استقبلته السماء منتصرًا لأنه بموته وطأ الموت تحت قدميه. لقد استرجع من الجحيم إنسانًا كان قد خلقه، وعلى صليبه يتوقف كلٌّ من ثمن فدائنا ونعيمنا الأبدي].(2)

وقال أيضًا: [إن المخلوق الذي كان قد شملته الظلمة بسبب الخطية، رجع مع الرب إلى النور، لأنكم استحققتم أن تنالوا من النور نورًا كنتم قد فقدتموه عندما أغلق المسيح عينيه. فلتطرح السماء الظلمة التي طرحها مخلصنا حتى إلى الجحيم. والعناصر التي كانت قد ارتدت ثوب الحداد ينبغي أن تفرح بأن المسيح لم يفقد شيئًا من جلاله عندما حرر الإنسان الذي كان قد خلقه].(3)

وقال أيضًا: [إن اليهود الخونة ختموا حجر القبر حتى لا يجد المسيح منفذًا يخرج منه. ولكن إن كان العالم لا يقبله فكيف يمكن لقبر أن يحافظ عليه؟ كيف يمكن لذاك الذي يتحكم في كل مكان أن يحتجزه قبر؟ ولو لم يكن قد أقام آخرين إلى الحياة قبل أن يقوم لكان من الصعب أن يقوم هو من الموت. وكيف يمكن أن يفشل في مغادرة القبر بينما هو خرج من رحم غير دنس من خلال بتولية عفيفة؟ لقد خدع الحراس وغادر القبر وظهر للتلاميذ رغم أن الباب كان مغلقًا. لقد غادر القبر رغم أنه كان مغلقًا بإحكام ودخل من الباب رغم أنه كان مغلقًا بإحكام. وحتى في الموت استعلن سر جلاله المخفى وغير المحدود. إن ذاك الذي صُلب رجع من الجحيم منتصرًا].(4)

وقال أيضًا: [يا توما: ”هات يدك وضعها في جنب مخلصك“ (يو20: 27)، والمس الجروح التي سببتها خطايانا، وافحص مكان تدفق الدم حتى يمنحنا كأس الدواء الشافي. انظر يا توما إلى ثمن اقتنائنا ولاحظ باهتمام علامات المسامير، وفي هذه الجروح تعرّف على الدواء الذي هو كنز الجنس البشري. فلو لم يكن قد ثُبِّت في تلك الخشبة لما أمكن بأي حال إزالة خطية صلبه عليها. ولهذا السبب أراد أن يُطعن حتى لا تصيبنا الخطية فيما بعد، فقد أنقذ البريء حتى أمكنه أن يحرر المذنب. ومن ذا الذي أمكنه أن يصف بجدارة هذا الصلاح العظيم؟ إن شخصًا بريئًا قد ضُرب حتى يُطلَق الأكثر ذنبًا حُرًّا، فقد قُتل الابن حتى يُفدَى العبد. إنه ينجز خدمة ملك طيب وشجاع جدًّا في حين أنه يُظهر آثار الجروح التي أصابته من أجل خلاص شعبه].(5)

وأكمل قائلاً: [ انظروا أيها الفريسيون إلى القبر الفارغ وتعلّموا عن شر جريمتكم. إننا نتعرّف على المسامير التي سمّرتم جسده بها ونعبد ذاك الذي قتلتموه. أترون ذاك الذي آذيتموه؟ لقد أمكن للرب في قيامته أن يُغلق آثار مساميركم، ولكنها حُفظت مفتوحة لهذا الغرض، حتى يراها أولئك الذين ارتكبوا هذا التدنيس للمقدسات ويخزون. أيها الفريسيون، نحن نرى أنكم أشرار ومدبّرون للإثم، والموت قد دُبّر لإنسان واحد حتى يُنزَع من الجميع. وهكذا فعندما قبل المسيح ربنا الموت لم يشعر بتأثيراته المهلكة، تمامًا كما أن البتولية لم تفقد كمالها عندما وُلد هو. أسرعوا أيها التلاميذ، وحيث إنكم أخذتم سلطانًا تفرّقوا بين جميع الأمم. واجعلوا أولئك الذين وُلدوا من الجسد أن يولدوا مرةً أخرى بالروح، اجعلوا ماء المعمودية يُنقّي ما نجسته الخطية. اجعلوا جميع الأمم يتعمّدون باسم الآب والابن والروح القدس لتحققوا ما كُتب: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (يو3: 5)].(6)

ثم قال: [ إننا أنفسنا، أيها الأحباء، الذين أصبحنا مستحقين أن نتحرر من سجن الجحيم ومن الظلمة الأبدية بدون أي استحقاقات تخصنا مسبقًا، ينبغي أن نصارع لنعيش باعتدال وبعفّة وبتقوى حتى نحافظ على رداء معموديتنا بلا عيب وخاليًا من أي وصمة خطية. وحينئذٍ يمكننا أن نأتي بكل سعادة إلى مسكن العريس الأبدي وإلى وليمة العرس السماوي مُشعَّين بالمحبة ومزينين بلآلئ الأعمال الصالحة بمعونة ذاك الذي يحيا ويملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد آميـــــن].(7)

وقال أيضًا: [ فصح المسيح، أيها الأعزاء، هو ملكوت السماء، خلاص العالم، إبادة الهالكين، مجد الذين في السماء، حياة المؤمنين، قيامة الموتى، شهادة للرحمة الإلهية، ثمن الفداء البشري مع أن فيه حزن الموت الذي أُبيد. هذا العيد الإلهي الذي تكرس في سر وتعرفنا عليه في سر كنسي، وفيه أعلن الملائكة قوة قيامة الرب، ثم أظهره الرسل وازداد من خلال قلوب المؤمنين البارة. وهكذا، أيها الأحباء، فإن «هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ» (مز118: 24). فهو يوم أكثر سموًّا للجميع ومفرحٌ بالأكثر للجميع. وفيه أقام الرب من الموت أجساد المباركين واكتسب لنفسه شعبًا جديدًا بروح الولادة الثانية. وقد ملأ أذهان الجميع بالفرح والتهليل وزيَّن وجه الأرض بالجمال في المواسم وأنواع الخليقة. حقًّا إن يوم قيامة الرب إنما يُنبئ مقدمًا عن القيامة الأبدية، لأن قيامة المسيح هي حياة للموتى ومغفرة للخطاة ومجد للقديسين. فهو يرفع البشر من الأعماق بتأثير الفضيلة، ويرفعهم من الأرضيات ويؤسس حياتهم في الأعالي ويكمّل الأبرار ويشدد الشكاكين ويهلك غير المؤمنين. لهذا الهدف قام الرب اليوم حتى يُظهر لنا مثالاً لقيامتنا العتيدة. كما أن شعب الله بقيامته اليوم من خلال المعمودية المعطية للحياة يُضيء كنيستنا بالقيامة ببهاء الجمال الأبيض كالثلج].(8)

اليوم الثامن للخليقة الجديدة:

وقال ق. أوغسطينوس: [ يوم قيامة الرب هو اليوم الثامن الإسخاتولوجي الذي يقود إلى الخليقة الجديدة ممثلة بالأسبوع الجديد، لأن به يتحول صلب الرب يسوع ورعب الموت إلى قيامة ويُغلَبان كما يلاشي النور الظلام في فجر هذا اليوم الجديد، اليوم الأول لعهد الخلاص الجديد. إن ذلك اليوم الذي هو الثامن والأول يمثل الأبدية. إنه ذلك اليوم الذي نبذناه في البدء بالخطية بواسطة والدينا الأولين وهكذا هبطا إلى هذه الحالة المائتة. وهو أيضًا الأخير وكأنه هو اليوم الثامن الذي نتطلّع إليه بعد القيامة بمجرد أن تحطّم الموت عدونا الأخير (1كو15: 26). وحينئذٍ فقط سوف يلبس الفاسد عدم الفساد ويلبس المائت عدم الموت. إنَّ الابن الضال الراجع إلى أبيه سوف يأخذ الثوب الأول الذي ينبغي أن يُعاد إليه في اليوم الأخير والثامن، إنْ جاز القول، بعد أتعاب منفاه البعيد ورعايته للخنازير والأمور البائسة الأخرى للحياة المائتة والدوران المضاعف سبع مرات لعجلة الزمن].(9)

وقال ق. كيرلس عمود الدين: [حيث إن الملائكة ظهرت عند ميلاده، هكذا أيضًا تظهر الآن عند قيامته. ويسوع غير موجود في القبر لأنه هو الحياة. لقد جلبت الملائكة الأخبار السارة للرعاة عن التجسّد في بيت لحم، والآن تخبر قوات السماء عن قيامته رغم أنه في الجسد. من أجل حب النسوة للمسيح وغيرتهن اعتُبرن مستحقات أن يرين الملائكة الذين بشروهن بالخبر المفرح كبشيرات للقيامة بقولهم: «لمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ ههُنَا لكِنَّهُ قَامَ!» (لو24: 5). إن كلمة الله حي على الدوام، ولكنه عندما اتضع وأخلى ذاته خاضعًا ليكون مثلنا، فقد ذاق الموت، ولكن ذلك برهن على أنه هو الموت للموت لأنه قام من الموت ليكون هو الطريق لرجوعنا إلى عدم الفساد].(10)

رسالة المرأة في القيامة:

وقال ق. ذهبي الفم: [ أترون أنهن لم يدركن شيئًا عن القيامة؟ فقد قال الإنجيلي: ”لأنهم لم يعرفون المكتوب أنه ينبغي أن يقوم من الموت“ (يو20: 9)].(11) وقال ق. أوغسطينوس: [ كما أن سقوط البشرية كان بواسطة امرأة، هكذا أُعلن تجديد الحياة الآن أولاً بواسطة نسوة. وخبر قيامة الرب يسوع قد بدا كأنه هُراء على ضوء رعب موته على الصليب. هذا هو تدبير الرب: لأنه ينبغي أن جنس المرأة هو الذي يعلن أولاً أنه قام. لقد سقطت البشرية بواسطة جنس المرأة، وتجدّدت البشرية بواسطة جنس المرأة. لقد ولدت المسيح عذراء، وأعلنت امرأة أنه قام. الموت بواسطة امرأة والحياة بواسطة امرأة. ولكن التلاميذ لم يصدقوا أقوال النسوة بل ظنوا أنهن يهذين في حين أنهن كنّ يعلنّ الحق].(12)

وبخصوص تلميذي عمواس قال ق. أوغسطين: [لقد أُرجئ تعرّفهما على الرب حتى يحصلا على وقت في الطريق لتعليمهما. وقد أُمسكت عيناهما من التعرُّف عليه حتى يعرفاه عند كسر الخبز. لقد ظهر حزنهما لأنهما أُعثرا من صلبه رغم أنه تنبّأ عن ذلك. وقد أوضح لهما ما قيل عنه في الأسفار المقدسة لكي يُظهر لهما أنه إن لم يتألم ويموت لَمَا كان هو المسيَّا].(13)

__________________________________

* Philip Schaff, History of the Christian Church, Vol. II, p. 206

(1) انظر ترتليان Ad. Uxor, 11.4 وتاريخ يوسابيوس 6: 34؛ القوانين الرسولية 5: 18؛ 7: 23.

(2) The Fathers of the Church, On the Lords Pascha, vol. 66. p. 71.

(3) Ibid.

(4) Ibid.

(5)Ibid.

(6) Ibid.

(7) Ibid.

(8) On the Liturgical Seasons, vol. 38, p. 223.

(9) Commentary on the Gospel of John, vol. 2, p. 270.

(10)Commentary on John, The Fathers of the Church, vol. 41, p. 48.

(11) On the Liturgical Seasons, vol. 38, p. 220.

(12) Ibid., p. 239.

(13)Ibid.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis