الليتورجية الكنسية

عبادتنا اللِّيتورجيَّة
هي ترتيل عقائدنا الإيمانيَّة (1)
(3)


(1) عقيدة الخَلق في بعض النُّصوص اللِّيتورجيَّة
وعند بعض آباء الكنيسة

(تكوين 1:1، 16، 26، 31 ؛ إشعياء 11:45، 12، 18 ؛ عاموس 13:4 ؛ ملاخي 10:2؛
أعمال الرُّسُل 24:17-28 ؛ أفسس 10:2 ؛ كولوسي 12:1-17؛ عبرانيِّين 8:1-12 ؛
رؤيا 11:4)


تتلخَّص عقيدة الخلق بحسب تعليم آباء الكنيسة فيما يلي:

1: 1 خَلق الكائنات من العدم.

1: 2 خَلق الإنسان على الخلود، وعلى صورة الله ومثاله.

1: 3 تدعيم النِّعمة التي نالها الإنسان في خَلقه، بالوصيَّة.

خاتمة.

1: 2 خَلق الإنسان على الخلود، وعلى صورة الله ومثاله (تكملة)

يقول القدِّيس كيرلُّس الكبير:

[كان الله الآب في البداءة بواسطة كلمته الخاص، قد أخذ ترابًا من الأرض كما هو مكتوب، وجَبَلَ الكائن الحيَّ - أعني الإنسان - وزوَّده بنفسٍ عاقلة، بالطَّريقة التي يعلمها هو، وأناره بشركة روحه الخاص، لأنه «نفخ في وجهه نسمة حياة» كما هو مكتوب] (تفسير يوحنَّا 22:20).

ويقول القدِّيس كيرلُّس الكبير أيضًا:

[كان من الحتمي أن يخلق الله في الأرض كائنًا عاقلًا. لأنَّ كلَّ ما خُلِق قبله، خُلِق لأجل سعادته، حتى أنَّ الله رأى أنه حسنٌ جدًّا، أنه قد خَلق الإنسان. إذًا، طالما أنه خَلق الأرض مُسبقًا بجمال يتناسب معها وكلَّ الموجودات، فقد مضى في خلْق الإنسان، وجعل خلقته أسمى منها جميعًا، على الرَّغم من أنَّ كلَّ المخلوقات الأخرى صنعها بكلمته ... وعلى الرَّغم من أنه قد خلقه من الطِّين، إلَّا أنه كائنٌ حيٌّ عاقلٌ، ونفخ فيه مباشرة روحًا خالدة ومحيية، لأنه مكتوب: «ونفخ في وجهه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية» (تكوين 7:2). وبعد أن وضعه في الفردوس، وأعطاه السِّيادة على كلِّ المخلوقات الأرضيَّة ... وألزمها بنواميس طبيعيَّة أن تهابه، أصبح الإنسان يمثِّل المجدَ الأسمى على الأرض، وصورةً للسِّيادة الملائمة لله] (جلافيرا على سفر التَّكوين، المقالة الأولى).

• ويقول الكاهن في صلوات المعموديَّة المقدَّسة: ”أيها السيِّد الرَّب الإله، ضابط الكُل، أبا ربِّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، الذي خَلق كلَّ شيء، ربَّ السَّماء والأرض، الذي أعطيت معرفتك للكائنين على الأرض، من قِبَل ابنك الوحيد ربِّنا يسوع المسيح ...“.

ويشرح البابا أثناسيوس كيف أنَّ نفس الإنسان خالدة، وكيف أنَّ صورةَ الله في الإنسان كامنة في طبيعة النَّفس، فيقول:

[إن كانت النَّفْس ... تُحرِّك الجسد، الذي لا يتحرَّك بغيرها، فيتبع هذا أنَّ حركة النَّفْس اختياريَّة ذاتيَّة، وهذه الحركة الذَّاتية تستمر بعد دفن الجسد في التُّراب ... وإن كانت (النَّفْس) تحرِّك نفسها، ترتَّب على هذا أنها تحيا بعد الجسد ... لأنَّ حركةَ النَّفْس هي بعينها حياتها ... هذا يمكن تبيانُه بأكثر وضوح - بصفة قاطعة - من فعل النَّفْس في الجسد. لأنها حتى إن كانت وهي متَّحدة بالجسد ومجتمعة به، ليست محبوسة أو محدودة بحدود الجسد الضَّيقة، بل حينما يكون الجسد مضطجعًا في الفراش عديم الحركة مستغرقًا في نوم يشبه الموت، كثيرًا ما ظلَّت النَّفْس مستيقظة بفضل قوَّتها، وفاقت قوَّة الجسد الطبيعيَّة، وراحت تتخيَّل وتنظر أشياء أسمى من الأرض، كأنها تتجوَّل خارج الجسد مع أنها باقية فيه، وكثيرًا ما اتَّصلت بالقدِّيسين والملائكة الذين هُم أسمى من دائرة الوجود الأرضي والجسدي، واقتربت منهم بفضل طهارة قوَّتها العقليَّة.

ألا يحصُل بالأولى حينما تنفصل عن الجسد في الوقت المحدَّد من الله الذي جمعهما معًا أن تزداد معرفتها عن الخلود بأكثر إيضاح؟ لأنها إن كانت وهي مجتمعة بالجسد، كانت تحيا حياةً خارج الجسد، فبالأولى تستمر حياتُها بعد موت الجسد، وتحيا بلا انقضاء بفضل الله الذي خلقها هكذا بكلمته، ربِّنا يسوع المسيح.

لأنَّ السَّبب في أنَّ النَّفْس تُفكِّر وتذكُر ما يتعلَّق بالخلود والأبديَّة، هو أنها هي نفسَها خالدة ... وتحيا للأبد. لأنَّ الآراء والأفكار عن الخلود، لا تفارق النَّفْس أبدًا، بل تلازمُها وتلبث فيها كأنها الوقود لها، ممَّا يؤكِّد خلودَها. إذًا فهذا هو السَّبب في أنَّ للنَّفْس قُدرة على رؤية الله، وهذا هو طريقُها إليه، مستمِدَّة معرفتها وإدراكها عن كلمة الله، لا من الخارج بل من ذاتها ... لأنَّ النَّفْس خُلقت على صورة الله ومثاله، كما تُبين الكُتُب الإلهيَّة حين تقول على لسان الله(2) «نعملُ الإنسانَ على صورتنا كشبهنا»، لذلك أيضًا فإنها حينما تتخلَّص من كلِّ أدران الخطيئة التي تُغطيها وتستبقي فقط شبه الصُّورة في طهارتها، فإنه إذ تستنير هذه الصُّورة، استنارة كاملة، ترى النَّفْس يقينًا - كما في مرآة - صورةَ الآب، أي الكلمة، وبه تصل إلى فكرة الآب، الذي نعلم أنَّ صورتَه هي المُخلِّص.

أمَّا إذا كانت تعاليم النَّفْس غير كافية، بسبب الأشياء الخارجيَّة التي تطمس عقلها، وتعوِّقها عن رؤية ما هو أعلى، فإنها على ذلك تستطيع معرفة الله من الأشياء المنظورة، طالما كانت الخليقة تُعلن بصوت عال - كما في حروف مكتوبة - ربَّها وخالقها، وذلك بنظامها وتناسقها](3).

ويقول البابا أثناسيوس الرَّسولي:

[كما أنَّ كلمتنا هي صورةُ الكلمة الذى هو ابنُ الله، هكذا أيضًا فإنَّ الحكمة الموجودة فينا، هي صورةُ حكمته هو، التي بها يكون لنا المعرفة والفهم، ونصير قابلين للحكمة الخالقة، بل وبواسطتها نستطيع أن نعرف أباها. لأنه يقول: «من له الابن له الآب أيضًا»(4) و «من يقبلني يقبل الذى أرسلني»(5) وحيث أنه قد خَلق فينا بل وفي جميع أعماله مثل هذا الأثر من حكمته، فمن اللاَّئق أنَّ الحكمة الحقيقي والخالق، ينسب لنفسه ما يختص بأثره فينا، ويقول: «الرَّب خلقني لأجل أعماله»(6)] (ضدَّ الأريوسييِّن 78:2)(7).

هذا معناه أنَّ الابن ليس مخلوقًا، وإنما هو الخالق. وإذ أنعم على الكائنات وأعطاها من حكمته عند خَلقها، جاء في ملء الزَّمان، واتَّحد بصورته التي سبق له أن طبعها في الخليقة، فقال: «الرَّب خلقني» معتبرًا أن ما يخص الخليقة، يخصُّه هو أيضًا.

ويقول القدِّيس كيرلُّس الكبير:

[إن كلمة الله يُنير كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم ليس عن طريق التَّعليم، كما يفعل الملائكة مثلًا أو النَّاس، ولكنَّه عن طريق الخَلق كإله يبثُّ في الذين يدعوهم إلى الوجود بذرة الحكمة والمعرفة الإلهية، ويغرس فيهم أصل الفهم، وهكذا يجعل الكائن الحيَّ عاقلًا، وشريكًا لطبيعته الخاصة، إذ يشع في ذهنه إشعاعات من النُّور الأسنى بالكيفيَّة التي يعلمها هو، وأعتقد أنَّ الكلام الكثير غير جائز في هذه الأمور ...] (شرح إنجيل يوحنَّا 9:1).

• ويشرح القدِّيس غريغوريوس النِّيسي (335-395م) أنَّ المحبَّة هي أهم ما يجعلنا على صورة الله ومثاله، فيقول:

[كما أنَّ الرسَّامين ينقلون المعالم البشريَّة إلى اللَّوحات الفنيَّة بواسطة ألوان معيَّنة، فيضعون على الرَّسم صبغات خاصة متوافقة، تجعل جمال الأصل ينتقل بكلِّ دقة إلى الصُّورة؛ هكذا افهم معي أنَّ خالقنا أيضًا، قد زيَّن صورتَنا بخلع فضائله عليها، وكأنها ألوانٌ بهيَّة، حتى تنال جماله الخاص، فيُظهِر فينا أصل كيانه الخاص ... الله محبَّة وينبوعُ المحبة، لأنَّ يوحنَّا العظيم يقول: «المحبَّة هي من الله»، و«الله محبَّة» (1يوحنَّا 7:4، 8). لذلك فالذي جَبَل طبيعتَنا، قد جعل هذه تكون أيضًا سمتَنا الأساسيَّة، إذ يقول: «بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن أحببتم بعضكم بعضًا» (يوحنَّا 13: 35). لذلك إنْ كانت هذه (أي المحبَّة) غائبة، فإنَّ طابع الصُّورة برُمَّته يكون مشوَّهًا] (في خَلق الإنسان: 5).

1: 3 تدعيم النِّعمة التي نالها الإنسان في خَلقه، بالوصيَّة

يقول البابا أثناسيوس الرَّسولي:

[لعلمه (أي لعلم الله) ... أنَّ إرادةَ الإنسان يمكن أن تميل إلى إحدى الجهتَين(8)، سبق فدعَّم النِّعمة المعطاة له، بالوصيَّة التي قدَّمها إليه، والمكان الذي أقامه فيه، لأنه أتى به إلى جنَّته، وأعطاه وصيَّة، حتى إذا حفظ النِّعمة، واستمر صالحًا، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حُزن ولا ألم ولا هَم، فضلًا عن الوعد بعدم الفساد في السَّماء. أمَّا إذا تعدَّى الوصيَّة وارتد، وأصبح شريرًا، فيعلم بأنه يجلب على نفسه الفساد بالموت الذي كان يستحقُّه بالطَّبيعة، وأنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد، بل يُطرد منه من ذلك الوقت، بل يموت ويبقى في الموت والفساد.

وهذا يحذِّر منه الكتاب المقدَّس قائلًا بفم الله: «من جميع شجر الجنَّة تأكل أكلًا. وأمَّا شجرة معرفة الخير والشَّر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت»(9). وماذا يعني بقوله: «موتًا تموت». ليس المقصود مجرَّد الموت فقط، بل أيضًا البقاء إلى الأبد في فساد الموت](10).

ويقول القدِّيس كيرلُّس الكبير:

[ولأنَّ هذا الإنسان الذى وصل إلى مثل هذه الدَّرجة من المجد والسَّعادة، كان يجب عليه أن يعرف جيدًا أنَّ سلطان الله الملك والرَّب يفوق كلَّ ما يمتلكه، وحتى لا ينزلق سريعًا بسبب امتيازاته الكثيرة إلى الاعتقاد بأنه صار حرًّا من سُلطان الله وسموِّه، أعطاه الله على الفور وصيَّة، وبجوارها وضع له تهديد العقاب في حالة مخالفته لها] (جلافيرا على سفر التَّكوين، المقالة الأولى).

• وهنا نذكر الوصيَّة الجديدة التي قالها لنا الرَّب بعد أن أتى إلينا على الأرض. فيقول: «وصيَّة جديدة أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا» (يوحنَّا 34:13). ولكن وصيَّة المحبَّة هذه ليست وصيَّة جديدة(11). ولكن الجديد فيها الآن هو في قول الرَّب: «كما أحببتكم أنا!!».

خاتمة

كلُّ ما سبق ذكره، هو عن الخَلق الأوَّل للكائنات، وعن الخَلق الأوَّل للإنسان الذي جبله الرَّب من تراب الأرض، ونفخ فيه الله نسمة حياة من عنده، فصار آدم نفسًا حيَّة.

أمَّا عن الخَلق الثَّاني الرُّوحاني الذي من فوق، فيقول عنه الكتاب المقدَّس: «مباركٌ الله أبو ربِّنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكلِّ بَرَكَة روحيَّة في السَّماويَّات في المسيح يسوع، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم في المحبَّة، إذ سبق فعيَّننا للتَّبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته» (أفسس 3:1-5). ويقول أيضًا: «لأنَّ الذين سبق فعرفهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشابهين صورة ابنه» (رومية 29:8). وأيضًا: «وتلبسوا الإنسان الجديد، المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أفسس 24:4). ويقول أيضًا: «نتكلَّم بحكمة الله في سرٍّ، الحكمة المكتومة، التي سبق الله فعيَّنها قبل الدُّهور لمجدنا» (1كورنثوس 7:2).

إنَّ الخَلق الأوَّل للإنسان من تراب الأرض، لم يأتِ كخطأ في حسابات الله، ولكنَّه خطأ الإنسان الذي استغل حريَّة إرادته التي خُلق عليها، ليسيء استخدامه لهذه الحريَّة. وهكذا تدرَّج الإنسان في خَلقه من خليقة ماديَّة إلى خليقة روحانيَّة، وانتقل من حالة الضَّعف والفساد، إلى حالة الكمال والبر.

ولم يحدث ذلك إلاَّ بعد أن سقط الإنسان من مرتبته. فكيف حدث هذا السُّقوط؟ وهو السُّقوط الذي أدَّى إلى تجسُّد الابن الوحيد، وموته على الصَّليب، وقيامته من بين الأموات، ليغرس فينا خليقة روحيَّة جديدة، هي أسمى وأعظم من كلِّ خليقة أُخرى.

(يتبع)

__________________________________

(1) المقال مأخوذ عن كتاب: محاضرات في ليتورجية كنيسة الإسكندرية، للراهب أثناسيوس المقاري.

(2) تكوين 26:1.

(3) الرِّسالة إلى الوثنيِّين 33، 34.

(4)1يوحنَّا 23:2.

(5)متى 40:10.

(6)أمثال 22:8

(7)PG 26, 312.21-42.

(8)أي الخير والشَّر.

(9)تكوين 16:2، 17.

(10)تجسُّد الكلمة 4:3، 5.

(11)انظر: 1يوحنَّا 7:2-10.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis