من تاريخ كنيستنا
- 185 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا يوأنس التاسع عشر
البطريرك الثالث عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1928 م - 1942 م)
- 1 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)


استكمالًا لما كتبناه في (عدد مارس 2021):

أوضاع سياسية مصرية صعبة تستقبل البابا الجديد:

انتقل مثلث الرحمات البابا المعظَّم كيرلس الخامس إلى الأخدار السماوية يوم 7 أغسطس 1927م بعد أن قضى فوق كرسي البطريركية اثنين وخمسين عامًا وتسعة أشهر وستة أيام، حيث كانت أطول فترة زمنية لبطريرك في تاريخ الكنيسة القبطية. كان زمانًا حافلًا بأحداث عالمية جسام، وصراعات محلية مصرية من كل نوع. من خلال تلك الصعاب قاد البابا الأمور بحكمة الروح القدس.

الاحتلال البريطاني شكَّل عبئًا ضخمًا على المصريين. أمَّا الأقباط فقد تعرَّضوا لاضطهاد مضاعف من المستعمر بسبب ما كانوا عليه من وعي وطني وتفوُّقٍ ثقافي ومعرفي. لقد منع الاستعمار الأقباط من تقلد وظائف الدولة الجديرين بها، ولما لم يجد كفايته من المصريين المسلمين كان يستبدل الأقباط بسوريين استحضرهم لذلك الغرض. وأسوء ما عمله المستعمر أن قام بنشر الوقيعة وبث الفتن الطائفية بين الأقباط والمسلمين حتى يُحكِم قبضته على مصر، مستخدمًا ضعاف النفوس لنشر الفرقة وبث التعصب الديني. وشكَّلت الحرب العالمية الأولى عبئًا إضافيًّا أرهق الشعب المصري، ما دفعه لثورة وطنية قادها سعد زغلول بمجرد انتهاء الحرب. وكان للأقباط النصيب الأوفر في تلك الثورة. بسبب الضغط الشعبي ضد المستعمر اضطر مرغمًا إلى أن يصدر تصريح 28 فبراير 1922، الذي أعطى مصر استقلالًا منقوصًا بتحفظاته الأربعة التي تُعوِّق جوهر الاستقلال! وصف سعد زغلول ذلك التصريح من منفاه ”بالنكبة الوطنية“. وبالرغم مما به من خداع، قبله الوطنيون حتى يمكن من خلال ما أتاحه من فرص التحرك بخطوات أكبر نحو الاستقلال الحقيقي. تشكلت لجنة صياغة الدستور التي أصدرت دستور 1923 المليء بالثغرات، حتى إنه وضع السلطات الثلاث في يد الملك ليتحكم في سياسة مصر وقتما شاء. فلم يمكن إصدار دستور حسب إرادة الشعب، إلا وبه ثغرات تُمكِّن الملك من حكمه المطلق كما تُمكِّن المستعمر من التحكم في سياسة مصر.

السلطان فؤاد كان متعاونًا مع الإنجليز في البداية حيث كانت بريطانيا تريد إعلانه خليفة للمسلمين بعد انهيار الخلافة العثمانية، التي كانت تعتمد عليها بريطانيا في بث الفوضى وفرض نفوذها الاستعماري في كل منطقة الشرق الأدنى. إلَّا أن الوعي الشعبي المصري كان قويًّا جدًّا لدرجة أنه لم يتمكَّن من تحقيق هذا الهدف الاستعماري الخطير، الذي لو تحقق لرجع بمصر لعصور سحيقة من القهر والتخلف والإرهاب لمدى زمني قد يطول جدًّا! ولمَّا فشلت بريطانيا في قيام الخلافة الإسلامية في مصر، قامت بترقية السلطان فؤاد ليصبح الملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان!

وبالرغم من كل تلك الحرب العنيفة التي شنَّها الاستعمار من ناحية والملك من ناحية أخرى ضد القومية المصرية، المتمثلة في حزب الوفد، فقد حقق الوفد نجاحًا ساحقًا في أول انتخابات برلمانية عام 1924 فانتخب سعد رئيسًا لمجلس النواب! وبموجب الدستور تعيَّن سعد زغلول أول رئيس للوزراء. ولم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى نجح الإنجليز في إسقاط سعد من رئاسة الوزارة باستخدام عوار الدستور. واستمرت الأمور السياسية متوترة في صراعات مستمرة بين الملك والإنجليز وحزب الوفد الذي كان يمثِّل الشعب. وكان العبث بالدستور وبنوده التي كانت تعطي الملك حقًّا مطلقًا في إقالة الوزارة وحل البرلمان وتعطيل الدستور نفسه متى شاء بإعلان الأحكام العرفية على البلاد. وأقام الاستعمار البريطاني حزب الأحرار الدستوريين ليحارب به الوطنية المصرية، فكان يتهم الوفد بأنه حزب الأقباط حتى يبث الفرقة الدينية وبذلك يضرب العمل الوطني، فكان كل نجاح للوفد يَصِمَهُ حزب الأحرار الدستوريين بوصمة عنصرية ليثير النعرة الدينية والتعصب المقيت ليخفي حربه ضد الوطنية المصرية في صالح الاستعمار.

وما زاد الأمر سوءًا أن قام الملك فؤاد بإنشاء حزبين جديدين للعمل ضد الوطنية المصرية من ناحية، ومن ناحية أخرى ليقاوم التسلط البريطاني المقاوم لسلطانه! المؤرخ يونان لبيب رزق يقول في كتابه ”فؤاد الأول المعلوم والمجهول“: إن الملك فؤاد أقام حزبي الاتحاد والشعب لمواجهة المد الوفدي وانتهز الفرصة لحل الحكومات الوفدية وحاول السيطرة على مجلس الشيوخ والحد من سلطات مجلس النواب. ولقد اتَّبع الحزبان نفس سياسة حزب الأحرار الدستوريين في محاربة حزب الوفد بتلك النعرة الدينية العنصرية والتعصب الشديد ضد الأقباط بهدف محاربة الوطنية المصرية. بذلك بدأت ظاهرة جديدة من التعصب الديني بهدف سياسي نفعي، تسبب فيما تعانيه مصر من متاعب حتى الآن!

وبالرغم من كل ذلك كان وعي الشعب أكبر من كل تلك الحروب حتى إن حزب الوفد كان يحقق نجاحًا ساحقًا في كل الانتخابات البرلمانية، حتى بعد وفاة سعد. كان ويصا واصف وكيلًا لمجلس النواب المنتخب من الشعب فى حياة سعد زغلول ورئيسًا للبرلمان في حياة مصطفى النحاس، مما كان سببًا في ضيق الملك والإنجليز. وكان ذلك من أسباب الخلاف الدستوري بين الملك والنحاس، فأقاله في 30 يونيو 1930 مع حكومته وأصدر قرارًا بتعطيل البرلمان وأغلق أبوابه بالسلاسل وأمر بإطلاق النيران على المتظاهرين وحاصر الجيش كل الطرق المؤدية للبرلمان.

أمَّا الاستعمار البريطاني فقد اتخذ إجراءً عنيفًا ضد القومية المصرية بقيام جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 فبدأ حربًا إرهابية ضد القومية المصرية مع نشر التعصب الديني ضد الأقباط الذي تزايد جدًّا خلال عصر الملك فؤاد.

اختيار الأنبا يوأنس مطران البحيرة للبطريركية:

في تلك الظروف السياسية الصعبة انتقل البابا كيرلس الخامس يوم 7 أغسطس عام 1927 ولحق به سعد زغلول يوم 23 من نفس الشهر.

الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية، كان أقرب المطارنة لقداسة البابا كيرلس الخامس، فعيَّنه وكيلًا للكرازة المرقسية بالإسكندرية. وكانت له مواقفه الوطنية المُشرِّفة ونشاطه الكبير مما أكسبه ثقة قداسة البابا ومحبة الآباء المطارنة. وعندما تقدَّم السن بالبابا كيرلس كان الأنبا يوأنس هو من يباشر كل أعمال البطريركية في السنوات الأخيرة من حياة البابا. واختارت الحكومة الأنبا يوأنس مُمثِّلًا للأقباط في عدَّة مجالس نيابية كمجلس شورى القوانين والجمعية العمومية ولجنة وضع الدستور نظرًا لِمَا امتاز به من حنكة، وبُعد نظر. وبعد نياحة البابا تم اختياره قائم مقام بطريركًا.

كان الملك فؤاد يثق في الأنبا يوأنس ثقة كاملة حيث تعامل معه عدَّة مرات، وكان محبوبًا بسبب تواضعه الجم وحسن تسييره للأمور بهدوء وحكمة. لذلك بعد نياحة البابا كيرلس الخامس أراد الملك ألَّا يحدث أي تغير في السياسة الكنسية إذ كان يخشى جدًّا الأقباط بسبب مواقفهم الوطنية, وكان الملك يخشى أن يختار الشعب القبطي الرافض لسياسته بطريركًا يعارضه. لذلك أراد الملك أن يفرض الأنبا يوأنس بطريركًا خَلَفًا لمثلث الرحمات البابا كيرلس الخامس، دون اعتبار للقانون الكنسي، أو حق الشعب في انتخاب البطريرك.

استدعى الملك فؤاد توفيق دوس باشا وزير المواصلات وأعطاه أمرًا ملكيًّا بعمل انتخابات صورية لتعيين الأنبا يوأنس بطريركًا. وصدر الأمر الملكي رقم 84 لسنة 28، يحدِّد لائحة جديدة لانتخاب البطريرك، بما في ذلك تحديد الناخبين بالاسم الذين بلغوا 96 ناخبًا، اختارهم الملك بنفسه من المطارنة وأراخنة الشعب، لتنفيذ أمره الملكي بانتخاب الأنبا يوأنس للبطريركية، وبذلك منع الشعب لأول مرة من الانتخاب بالمخالفة للقوانين الكنسية. [صدر بسراي المنتزه في 19 جمادي الثانية سنة 1374ه. أول ديسمبر سنة 1928 م.].

في ذلك الوقت قام الشعب القبطي كالمعتاد بترشيح الراهب حنانيا الأنطوني والأرشدياكون حبيب جرجس للبطريركية. بينما الأقلية القبطية الموالين للإنجليز قاموا بترشيح القمص يوحنا سلامة المحرقي وكيل مطرانية الخرطوم (كان متزوجًا ولما توفت زوجته ترهَّب).

عندما عُرِض أمر ترشيح الأنبا يوأنس للبطريركية على آباء المجمع المقدَّس عارضه جميع المطارنة بالمجلس، وتشهد بذلك مضبطة المجمع المقدَّس لذلك الاجتماع(1). ثم اجتمع المجمع المقدَّس صباح يوم الخميس 18 يوليو 1928 برئاسة الأنبا يوأنس وحضور 11 مطرانًا، حيث تقرَّرت أول مخالفة للقانون الكنسي، بإجازة ترشيح الآباء المطارنة للكرسي البطريركي. القرار كان رضوخًا لأمر ملكي يصعب رفضه! وإذ كانت تعوزهم المقدرة على المجاهرة بالحق عللوا ذلك بالآتي:

1- جاء بالمجموع الصفوي نقلًا عن مجمع نيقية ص 47 من الطبعة الثانية في باب الأساقفة:

[فإن تعرض للأسقف علة تطرده من بلده حتى لا يجد بدًّا من التحول عنها، فهو إذًا معذور وليوجَّه إلى بلدة أخرى إذا عُلِمَ عنه عفَّة وحسن سياسة ودين، ولا يُعيَّر لذلك، وإن استحق لينقل لِمَا هو أرفع لأنه ليس بهواه تحوَّل عن موضعه].

2- لأنه سبق أن كان الأنبا بطرس الجاولي البابا التاسع بعد المائة في عداد البطاركة مُعيَّنًا مطرانًا على الحبشة، ولمَّا خلا كرسي البطريركية وقع عليه الاختيار ورقي لرتبة البطريرك.

3- إنه سبق أن رُسم الأنبا كيرلس الرابع البابا العاشر بعد المئة مطرانًا على القاهرة (صحتها مطرانًا عامًّا على الكرازة المرقسية) ونائبًا بطريركيًّا، وبعد رسامته مطرانًا بسنة وشهرين رُقِّي بطريركًا.

4- أن جميع الكنائس الطقسية الأخرى تقبل انتخاب البطريرك من بين الأساقفة.

تعيين الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية بطريرك للأقباط:

بناءً على الأمر الملكي رقم 84 لعام 1928 الخاص بطريقة انتخاب بطريرك الأقباط الأرثوذكس، تم إجراء الانتخاب يوم 7 ديسمبر عام 1928. وبناءً على محضر الانتخاب صدر القرار الملكي بتعيين الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية بطريركًا للأقباط الأرثوذكس.

وعلى الرغم من القرار الملكي بقصر الترشيح على الأنبا يوأنس، كان هناك مرشحين آخرين للمنصب هم: القمص حنانيا الأنطوني، والقمص يوحنا سلامة المحرقي، والأرشدياكون حبيب جرجس ناظر المدرسة الإكليريكية. وأن عدد الناخبين 96 حضر منهم للانتخاب 85 ناخبًا، وحصل الأنبا يوأنس على 70 صوتًا!

***

المراجع:

+ قصة الكنيسة القبطية جـ 6- إيريس حبيب المصري.

+ سلسلة تاريخ البطاركة جـ3 - كامل صالح نخلة.

+ كتاب سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية، بقلم الأستاذ بشارة بسطوروس.

(يتبع)

م. فؤاد نجيب يوسف

__________________________________________

(1) كتاب ”سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية“، ص 38

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis