الشهادة للمسيح لا تكتمل إلاَّ بحمل الصليب، إذا دعا الداعي للشهادة. والمسيحية عاشت ونَمَت وانتشرت بشهادة المسيحيين لصليب المسيح. فإذا كانوا من عامة شعب الكنيسة، فهم أفضل مَنْ حَمَل الصليب في حياته اليومية وسط الناس والمجتمع. فعبء الشهادة للصليب وقع - أول ما وقع - على المسيحيين المنتشرين في كل نواحي المجتمع. وهم أحسنوا الشهادة، أولاً بالسيرة الحسنة وجوهرها المحبة لله والآخرين، وبطهارة الجسد والنفس. وكان - وما زال - سندهم آية الشهادة للمسيح: «أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم... فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي يَرَوْا أعمالكم الحسنة، ويُمجِّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 13-16). + والاختبار الأول للأعمال الحسنة هذه التي يشهد بها المسيحي للعالم عن صليب المسيح، هو طاعة وصية المسيح: «لا تُقاوموا الشر، بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً». وقالها المسيح مناقضاً لقانون اليهود قديماً: «عينٌ بعين، وسِنٌّ بسنٍّ» (مت 5: 39،38). ويا لسعادة مَن أطاع هذه الوصية الصعبة السهلة، وقد نفَّذها المسيح أولاً، إذ حوَّل - ليس فقط خدَّه الأيسر - بل حياته كلها سلَّمها للموت. ثم نفَّذها القديسون من بعده بصور شتَّى، إما بالاستشهاد، أو بالطاعة الحرفية كما في قصة الراهب البسيط الذي لطمه الإنسان الحامل للشيطان في داخله على خدِّه الأيمن، فلما حوَّل له الراهب خدَّه الأيسر، احترق الشيطان في داخل هذا الإنسان وصرخ خارجاً منه. ولكن يا لشقاء الإنسان الذي يتململ ويتحايل على هذه الوصية بشتَّى التفسيرات وأخيراً بالرفض، فهو يكون أقرب إلى العائشين بوصية «عينٌ بعين، وسِنٌّ بسنٍّ» من كونه مسيحياً. وأمامنا مَثَل للذين سلكوا بهذا القانون النقيض لوصية المسيح، فعاشوا في شقاء دائم، وما زالوا يعيشون في رُعْب الحروب عليهم التي لم ولن تنتهي. والتاريخ الحديث أمامنا شاهدٌ على ذلك. + أما الاختبار الثاني للشهادة بصليب المسيح فهو تنفيذ وصية المسيح التي هي أعظم آية للشهادة: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم»، وقد جعلها المسيح بديلاً مناقضاً لقانون اليهود في العهد القديم: «تحب قريبك (أي الذي من دينك)، وتُبغض عدوك (حسب المَثَل: عدوك عدو دينك)». وقد وضع المسيح مكافأة أو هدف تنفيذ هذه الوصية هكذا: «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات» (مت 5: 43). ويا لسعادة مَن يقبل هذه الوصية ويُنفِّذها فهو في الحال يتمتع حقاً ببنوَّة أبيه الذي في السموات، ويكون قد بلغ الملكوت والسعادة الأبدية حتى وهو حيٌّ الآن، وهو لن يموت أبداً حتى ولو مات. ولكن يا لشقاء مَنْ يتذمَّر على هذه الوصية ويرفضها، فهو يرفض بالتالي بنوَّته لأبيه السماوي وبهذا يكون أقربَ إلى الموت منه إلى الحياة الأبدية في المسيح حتى وهو حيٌّ الآن. + وقد عاش مسيحيو مصر على هذه الوصية المزدوجة التي من المسيح، فشهدوا حسناً لصليب المسيح، فأحبُّوا كل مَن اتخذ نفسه عدوّاً لهم وأساء إليهم وأبغضهم بل وكفَّرهم وحلَّل دمهم. فكانت - وما زالت - محبتهم وبركتهم وصلاتهم وإحسانهم لهؤلاء أعظم شهادة لصليب المسيح، وبرهاناً دامغاً على قيامة المسيح من بين الأموات، لأن الدماء التي سُفِكَت صارت بهذا - حتى من وراء ظهر معانديهم - بذاراً أحيت الإيمان بالمسيح في نفوس معانديهم، وانتشر الإيمان بالمسيح وبصليب المسيح وقيامته في كل مصر. + هذا الاختبار المزدوج حيٌّ هو، قديماً وحديثاً. وتاريخ الكنيسة القبطية يُجدِّد في كل عصر استعلان إيمان الأقباط وطاعتهم لوصايا المسيح وتمسُّكهم بها، إذ بهذا شهدوا - وما زالوا يشهدون حسناً - لصليب المسيح وقيامته. وكل يوم صرنا نقرأ الإنجيل حيّاً في شهادة الأقباط هذه لصدق وصايا المسيح ومصداقية وعوده. فأقباط مصر هم بحق أبناء أبيهم الذي في السموات، وبمحبتهم وبركتهم وصلاتهم وشفاعتهم لأجل الجميع، يكرزون ويُبشِّرون بملكوت الله لينضم الجميع معهم إلى أهل بيت الله، بإشراق الله في قلوبهم لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (2كو 4: 6). + وطوبى للآباء الكهنة الذين جمعوا أبناءهم وهم في وسط المحنة إلى داخل الكنيسة ليُصلُّوا إلى أبيهم الذي في السموات، فأدخلوهم في الحال تحت الحماية الأبويَّة الإلهية، طالبين رحمة الله عليهم والمغفرة للمعتدين والمُسيئين إليهم. وهم بهذا جعلوا رؤوس الأقباط مرفوعة إلى فوق بالصلاة والمحبة والاحتمال. في هذا اليوم استُعلِنَت الكنيسة بالصلاة والمحبة المحتمِلة ككارزة حقاً بصليب المسيح الفادي وبقيامته المجيدة. فطوباكم أيها المحزونون الشاهدون لصليب المسيح. وطوباكم أيها الرعاة الصالحون الذين كنتم صورة حسنة وجليَّة لراعي نفوسكم وأسقفها الرب يسوع المسيح، وتمَّمتم عمله. |