للأب متى المسكين



ما بين القيامة والصعود(1)

للأب متى المسكين

أربعون يوماً بعد القيامة أمضاها المسيح بين تلاميذه «الذين أراهم نفسه حيّاً ببراهين كثيرة بعدما تألَّم وهو يظهر لهم... ويتكلَّم عن الأمور المختصَّة بملكوت الله» (أع 1: 3).

هذه الفترة الزمنية المحدَّدة التي عاشها المسيح على الأرض بجسده الذي عَبَرَ به الموت والقبر وقام حيّاً، تُعتَبَر أعظم وأثمن موهبة وهبها المسيح لطبيعتنا البشرية.

فإمكانية القيامة من بين الأموات، والحياة مرَّةً أخرى بجسدٍ من‍زَّه عن الآلام والموت والفساد، لم تكن من طبيعة الإنسان أصلاً. فالإنسان معروفٌ أنه أصبح مائتاً بطبيعته بعد أن أخرجته الخطيئة من جنة الحياة مع الله، وهو وإن أُقيم من الموت أحياناً بأَمْر الله، فهو إنما كان يقوم ليموت أيضاً كلعازر، ولكن أن يقوم الإنسان ليحيا إلى الأبد مع الله بجسدٍ لا يَفْنَى ولا يتدنَّس ولا يضمحل؛ فهذه عطية المسيح الفائقة الوصف والكرامـة التي منحها لنا لما قام بالجسد الذي أخذه منَّا.

إذن، فكلُّ مَن آمن بقيامة المسيح من بين الأموات، يكون قد آمن تلقائياً بقيامته هو نفسه. فالإيمان بالقيامة هو قيامة بحدِّ ذاته، لأن كلَّ ما للمسيح قد وهبه المسيح لكل مَن آمن به!

ولكن كيف نأخذ فعلاً روح القيامة ليسكن فينا الآن ويُعطينا في أيدينا أو بالحري في قلبنا عربون الحياة الأبدية؟ أو بمعنى آخر: كيف نعيش الآن بروح القيامة أو كيف نحيا وكأننا قائمون من الموت مع المسيح، فنحس إحساساً يقينياً أنه لا الموت ولا الآلام ولا كل الأمور الحاضرة لها سلطان علينا؟

هذا السؤال يمكن وضعه بصيغةٍ أكثر خطورة ليكون هكذا: كيف يعيش الإنسان عدم موته؟ أو بمعنى آخر: كيف يحيا الإنسان الأربعين المقدسة لا كأربعين يوماً طقسية، بـل حياةً تخلو ن‍هائياً مـن خشية الموت وسلطانه؟ حياة ما بعد القبر، حياة تؤهِّل للصعود؟!!

الجواب هنا فوق طاقتنا، لابد من الرجوع إلى الإنجيل.

يقول إنجيل يوحنا:

+ «ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع (عشية الأحد)، وكانت الأبواب مُغلَّقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط، وقال لهم: ”سلامٌ لكم“. ولما قال هـذا أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. فقـال لهم يسوع أيضاً: ”سلامٌ لكم. كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا“. ولما قال هـذا نفخ وقال لهم: ”اقبلوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت“» (يو 20: 19-23).

كلُّ ما استطاع المسيح أن يعمله لتلاميذه لكي يؤمنوا بقيامته، هو أنه أراهم يديه المثقوبتين من أَثَر المسامير، وجنبه المفتوح من أَثَر الحربة، فكان هـذا كافياً جداً للتلاميذ - حتى لتوما وهو أكثرهم شكّاً - أن يؤمنوا بالقيامة، غير أن كلَّ ذلك مع إيمان‍هم أيضاً لم يكن كافياً أن يهبهم روح القيامة وقوت‍ها! فلكي يؤمن الإنسان بأَمرٍ فائق على حدود معرفته وتصوُّره واختباره، كالقيامة من بين الأموات، يلزمه البرهان. ولكن أن يأخذ الإنسان ما يفوق طبيعته وما يفوق خبرته وإحساساتـه ومنطقه، أي يأخذ قوة القيامة وطبيعتها؛ يلزمه حتماً هبة روحية.

لذلك فالمسيح بعدما قدَّم لتلاميذه برهان قيامته فآمنوا وفرحوا، نجده يتقدَّم منهم وينفخ فيهم ليُعطيهم ما هو فوق طبيعتهم وإمكانيات‍هم، أي قوة القيامة ذات‍ها، لا مجرَّد القيامة من الموت بل القيامة بروح الله كطبيعة جديدة للإنسان تؤهِّله لحياةٍ جديدة أخرى روحانية، حياة بروح الله مع الله لا يتسلَّط عليها خطيئة أو موت، ولا تخضع للجهل أو للآلام.

هنا ”النَّفْخ“ الذي نَفَخَه المسيح في تلاميذه يُعيد إلى الذاكرة النَّفْخ الذي نَفَخَه الله في آدم عند خلقته الأولى: «وجَبَل الرب الإله آدم تراباً مـن الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيَّة» (تك 2: 7). النفخ في الحالتين عملية خلقة وإحياء:

النفخ الأول: خلقة جسدانية لحياةٍ زمنية أرضية؛

النفخ الثاني: خلقة روحانية لحياةٍ أبدية سماوية.

آدم استقبل النفخة الأولى، فصار ب‍هذه النفخة رأس الخليقة البشرية كلها الذي منه تسلسلت حياة الإنسان على الأرض، وبقيت هذه النفخة فعَّالة في الطبيعة الآدمية حتى اليوم.

والتلاميذ المتَّحدون بـالإيمان، استقبلوا ككنيسة، النفخة الثانية مـن المسيح، فصار المسيح للكنيسة مصدر الخليقة الروحانية الجديدة، ونَفْخته هذه بقيت في الكنيسة مصدر حياة جديدة سماوية دائمة.

بولس الرسول يُقدِّم لنا مقارنة واضحة لهاتين الحياتين فيقول:

+ «صار آدم، الإنسان الأول، نفساً حيَّة، وآدم الأخير (المسيح) روحاً مُحيياً. لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني، وبعد ذلك الروحاني. الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الربُّ من السماء. كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابي (آدم)، سنلبس أيضاً صورة السماوي (المسيح)» (1كو 15: 45-49).

نفخة المسيح، إذن، كانت بمثابة خلقة جديدة للطبيعة الآدمية أورثتها طبيعة روحانية جديدة لم تكن فيها أصلاً، إذ أعطتها إمكانية القيامة من الموت والحياة الأبدية مع الله. المسيح هنا اعتُبِرَ أباً جديداً للإنسان لأنـه ولده ولادة أخرى بروحه من بعد ميلاده الجسدي، إذ أعطاه حياةً جديدة يبدأ فعلها وظهورها بعد الحياة الأرضية أو فوقها، تبدأ من بعد الموت، تبدأ بالقيامة، والقيامة تبدأ من الآن سرّاً حينما نقبل بعد الميلاد الجسدي الميلاد الجديد من الماء والروح، ونقبل روح القيامة الذي تنفخه الكنيسة في كياننا.

فنحن الآن جُزنا الميلادَيْن وتعمل فينا الحياتان: حياة من فوق حياة، الروحانية جاءت بعد الجسدانية، ولكن واحدة تضمحل لتملك الأخرى شيئاً فشيئاً: «إن كان إنساننا الخارج يَفْنَى (صورة الجسداني)، فالداخل يتجدَّد (صورة السماوي) يوماً فيوماً» (2كو 4: 16).

ولكن الخطير هنا أنه في حين أنَّ الحياة الجسدية تضمحل حتماً وتلقائياً، شئنا ذلك أو لم نشأ، نجد أن الحياة الروحانية أو طبيعة القيامة لا تملك فينا إلاَّ بإرادتنا وبمقتضى شوقنا. لذلك نجد المسيح حينما نفخ في تلاميذه الروح القدس ليُعطيهم طبيعة القيامة وقوَّت‍ها يقول لهم: «اقبلوا» الروح القدس. «اقبلوا» هنا فعل يعتمد على مقدار استعداد الإنسان وشوقه. المسيح لا يُعطي الروح القدس لطبيعتنا بدَفْعٍ ميكانيكي أو بصورةٍ تلقائية مُلْزِمة. فهبة الحياة الأبدية وطبيعة القيامة تستقبلها طبيعتنا البشرية بناء على سَعْي وشوق وقبول إرادي عميق من كلِّ النفس والقلب والفكر.

النفخة الأولى للخلقة الجسدية كانت لاإرادية، كانت عامـة، وهكذا صارت الحياة البشرية حقّاً مكتَسَباً لكلِّ ذي جسد.

النفخة الثانية للخلقة الروحانية استقبلها التلاميذ بفرح من بين ألوف وملايين الناس. لذلك اعتُبِرَ التلاميذ أن‍هم باكورة الروح، ولكـن يُلاحَظ أن الإنجيل يقول: «ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب». هنا فرح الإيمان بقيامة المسيح هو السر الذي أهَّل التلاميذ مباشرةً لقبول نفخة روح القيامة.

إذن، فروح القيامة وطبيعتها لا تُمنح عامةً لكل إنسان، شاء أو لم يشأ. الذين يؤمنون ويفرحون بقيامة الرب هم المدعوون لقبول روح القيامة. فالفرح دائماً أعظم دلالة لاستعداد الإرادة: إما إرادة القيامة، أو إرادة الحياة مع المسيح؛ فهي ليست مجرَّد تَمَنٍّ أو أحلام أو تأملات، ولكنها عمل وجهاد وتطبيق: «إن كنتم قد قُمتُم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق» (كو 3: 1).

إذن، فطلباتنا وسعينا وجهادنا اليومي ومصدر سرورنا، يكشف عن صِدق موقعنا من القيامة. هذا يعني أنه يلزمنا أن نُطابق كل يوم بل كل ساعة بين اتِّجاهات فرح إرادتنا وبين متطلبات الحياة مع المسيح، أي حياة القيامة، حتى نقبل فعالية نفخة الروح القدس لتجديد الطبيعة أولاً بأول.

ولكن السؤال هنا هو: كيف نبدأ نحيا منذ الآن حياة مُقامة من الموت، حياة أبدية مع الله، ونحن لا زلنا نعيش بالجسد الرازح تحت ثقل الخطية؟ أليس من المؤكد والمحتَّم أن الموت يملك على الجسد بالخطية؟

الإجابـة تأتي مـن الإنجيل، إذ نجد المسيح بعدمـا نفخ في تـلاميذه الفرحين روح القيامـة، يقول لهم مباشرةً: «مَـن غفرتم خطايـاه تُغفر له، ومـن أَمسكتم خطاياه أُمسِكَت» (يو 20: 23).

هنا، ولأول مـرَّة في حياة البشر، تقع الخطيئة تحت سلطان الإنسان، بعد أن كـان الإنسان واقعاً تحت سلطان الخطيئة. هكذا تبدو نفخة الروح القدس التي منحها المسيح لتلاميذه ذات فعلٍ تجديـدي خِلْقي لصميم طبيعة الإنسان. هنا حَدَثٌ انقلابي عميق وخطير في حياة الإنسان.

هذا السلطان الجديد الذي تسلَّمه الإنسان بنفخة الروح القدس من فم المسيح يكشف بصورة واضحة وأكيدة أنه قد حدثت قيامة فعليَّة، إنما سرِّية وغير منظورة للتلاميذ، لأنه مَن ذا الذي يستطيع أن يغفر الخطيئة وهو مائت أو تحت سلطان الموت؟ فإن كان التلاميذ قد أصبحوا ذوي سلطان على مغفرة خطايا الناس، فهذا معناه أن‍هم بنفخة الروح القدس الذي قبلوه من فم المسيح قد حطَّموا وأزاحوا عن أنفسهم سلطان الخطيئة، وبالتالي قد تجاوزوا سلطان الموت نفسه، أي قاموا من الموت بنصرة روحانية فائقة. وليس ذلك فحسب، بل وأصبحوا ب‍هذا الروح القدس الذي سكن فيهم قادرين أن يُحطِّموا عن الآخرين سلطان الخطيئة، وبالتالي سلطان الموت أيضاً، أي أن يهبوا بقيامتهم في المسيح روح القيامة للآخرين أيضاً، إن كان هؤلاء الآخرون مستحقِّين للقيامة: «مَن غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت» (يو 20: 23).

هكذا نرى أنَّ الصلة بين روح القيامة الذي نفخه المسيح في تلاميذه وبين حياة الإنسان فوق سلطان الخطيئة والموت، أصبحت حقيقة واقعة بسرِّ الغفران، وهو سرٌّ غاية في الدقة والعمق. إنه سرُّ حياة المسيح الفعَّالة بعد قيامته من بين الأموات، الذي بموته داس الموت والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية!!

ولكن هل من علاقة بين نفخة المسيح للروح القدس في التلاميذ بعد القيامة، وبين حلول الروح القدس عليهم يوم الخمسين؟

العلاقة قوية وكل واحدة مترتِّبة على الأخرى. فنفخة المسيح في التلاميذ أعطتهم القيامة والحياة الأبدية، فالطبيعة البشرية هنا نالت قوة القيامة من بين الأموات واستقرَّت فيها الحياة الأبدية.

أما حلول الروح القدس يوم الخمسين، فقد أعطى الطبيعة البشرية قوة روحية من الأعالي للالتئام ولاتِّحاد الإنسان بالإنسان من خلال الروح القدس، سواء بالمخاطبة الروحية أو بالتأثير القلبي أو الخدمة السرائرية أو الآيات والمعجزات أو المثل الحي الجاذب والمؤثِّر، وذلك كله لتكوين وحدة إنسانية متكاملة ومتَّحدة مع المسيح وبالمسيح، تؤهَّل ب‍ها الطبيعة البشرية عامة - ككنيسة - للحياة مع المسيح في السماء.

إذن، فنفخة الروح القدس في التلاميذ بعد القيامة كانت لإعطاء طبيعة الإنسان روح القيامة وقوَّت‍ها.

أمَّا حلول الروح القدس بعد الصعود على التلاميذ، فكانت لإعطاء الإنسان روح الصعود وقوَّته. ومـن أجل ذلك قام المسيح كبِِكْر مـن بين الأموات، ثم صعد إلى السموات ودخل إلى الأقداس كسابقٍ من أجلنا.

فلولا أن المسيح قام بجسدنا، ما قُمنا وما عرف الإنسان قط الحياة الأبدية؛ ولولا أنه صعد أيضاً إلى السماء بجسدنا، ما أمكن للإنسان أبداً أن يصعد إلى السماء حتى ولو قام من بين الأموات؛ حيث المسيح يُعطي هاتين القوَّتَيْن: أي القيامة والصعود، بواسطة الروح القدس الذي يأخذ مِمَّا للمسيح ويُعطينا.

لذلك يقول القديس بولس الرسول مؤكِّداً ومتأكِّداً أن المسيح «أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويَّات» (أف 2: 6).

فالآن نحن قد قُمنا مع المسيح ونحيا قيامتنا بنفخة روحه القدوس، وإذ قد حلَّ علينا روح يوم الخمسين فنحن مهيَّأون للصعود منذ الآن أيضاً، ولا يحجزنا عن السماء إلاَّ مجيئه الذي أصبح على الأبواب: «... آتي أيضاً وآخذكم إليَّ» (يو 14: 3).

(1970)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis