من تعاليم الآباء


حضور الرب
هو فصحنا الدائم
للقديس أثناسيوس الرسولي
(295-373م)



العيد هو الفرح الحقيقي بالخلاص من الشر:

1 - فرحنا وبهجة عيدنـا، يا أحبائي(1)، هـو دائماً في متناول أيدينا، ولـن يُخفق مَـن أراد أن يُشارك فيه. فالكلمة الذي صار لنا كـل شيء، هو قريبٌ منا، ربنا يسوع المسيح الذي وعدنـا بإقامته الدائمة معنا حسبما نادَى قائلاً: «ها أنـا معكم كـل الأيـام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20). ومع كونـه هـو الراعي والكاهـن الأعظم، والطريق والباب، وكل شيء معاً لنا؛ كذلك فقد استُعلِنَ لنا أيضاً وليمةً وعيداً (فصحياً) كبيراً، طبقاً لِمَا يقوله الرسول المغبوط: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبِحَ (لأجلنا)» (1كو 5: 7). وهـو المقصود في صلاة صاحب المزمور الـذي دعـاه قائـلاً: «أنت بهجة خلاصي، فلتُـنجِّني من المُحدقين بي» (مز 31: 7 - بحسب السبعينية)، هـذا هـو في الواقع الفرح الحقيقي والعيد الخالص: النجاة من الشر، عندما يبلغ المـرء تماماً إلى التخلُّق بالسيرة المستقيمة، وحينما ينحاز بوعيٍ تام إلى الخضوع لله.

هكذا كان القدِّيسون طوال أيام حياتهم، يتهلَّلون كما بعيدٍ دائم. فمنهم مَن وجد راحته الحقيقية في الصلاة لله، كالمغبوط داود الذي كان ينهض للصلاة بالليل، لا مرَّة واحدة، بل سبع مرات(2). وآخر كان يُسبِّح بأناشيد الحمد، مثل العظيم في الأنبياء موسى الذي تغنَّى بأُنشودة الحمد مـن أجـل النصرة على فرعون ومُسخِّري الشعب (خر 14). وآخرون أدَّوْا العبادة بـاجتهادٍ لا يتوقَّف، مثل العظيم صموئيل والمغبوط إيليا، اللذين أكملا سعيهما على الأرض، والآن هما يُعيِّـدان في السماء ويَنْعَمان بمـا سبق وتعلَّماه من خلال الظلال، إذ أنهما قد تعرَّفا على الحق من (رؤيتهم) للمثالات.

اتِّباع الرب والتعييد له لا يتمُّ بالكلام بل بالأعمال:

2 - ولكن إذا كان هذا هو عيد فصحنا، فأيُّ نوعٍ من ”الرَّش“ سنضعه على بيوتنا حتى تَعْبُر عنَّا ضربة الهلاك (انظر خر 12)؟ ومَنْ يا تُرَى سيكون قائدنـا (بدلاً مـن موسى) ليُسرِع بنـا للاحتفال بهذا العيد؟

لا أحد، يا أحبائي، يمكنه أن يقوم بهذا إلاَّ ذاك الذي ندعو باسمه كلنا معاً: ربنا يسوع المسيح، الذي قال: «أنـا هـو الطريق»، لأنه هـو - كما يقول الطوباوي يوحنا (المعمدان) - «الذي يرفع (أو يحمل) خطية العالم» (يو 1: 29؛ 1: 36)، وهو الذي يُطهِّر نفوسنا، كما يقول النبي إرميا في موضعٍ ما: «قفوا على الطريق وانظروا واسألوا عن السُّبُل القديمة: أين هـو الطريق الصالح، وسـيروا فيه، فتجدوا تطهيراً لنفوسكم» (إر 6: 16 - حسب السبعينية)!

وقديماً كان دم تيوس ورماد عِجْلة يُرَشُّ على المُنجَّسين وكان مُعدّاً فقط لتطهير الجسد (عب 9: 13)، ولكـن الآن بنعمة الله الكلمة يمكن لكـلِّ إنسان أن يتطهَّر كُلِّيةً جسداً ونفساً وروحاً. ونحن إذ نتبعه يمكننا منذ الآن كما مـن على عتبة أورشليم السمائية أن نتفكَّر مُسْبقاً في العيد الأبدي وحضور الوليمـة السماويـة، كما فعل الرسـل الطوباويون، الذين لمَّا تبعوا معاً المخلِّص الذي كـان قائداً لهم، صاروا مَثَلاً يُحتَذَى لمثل هذه النعمة، فهُم الذين قالوا: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» (مر 10: 28).

فاتِّباع الرب والتعييد له، لا يتمُّ بالكلام فقط بل بالأعمال، وكل تشريع للناموس وكل مطلب يقتضي ضمناً القيام بعمل واضح. فكما كان يفعل موسى حينما كان يُسلِّم الشرائع المقدَّسة، فقد طلب من الشعب تعهُّداً يتعلَّق بأمر ممارستها، حتى إذا وَعَدُوا بذلك، لا يمكنهم (بسهولة) أن يهملوها، وإلاَّ أَضْحوا من الحانثين؛ وهكذا أيضاً الاحتفال بعيد الفصح لا يطرح سؤالاً ولا يتطلَّب إجابة، وإنما عندما تُعطَى الكلمة تتبعها الممارسة، فهو يقول عن الفصح: «كل جماعة إسرائيل يصنعونه» (خر 12: 47). يعني بذلك أنه ينبغي أن يكون هناك استعدادٌ حاضر لعمل الوصية؛ أما الوصية (ففيها قوَّة ذاتية) من شأنها أن تُمكِّن المرء من أدائها. ولكن بالنسبة لهذه الأمور فأنا واثقٌ من فطنتكم وحرصكم على التعليم، فمثل هذه المسائل قد ناقشتها معكم مراراً في رسائل متعددة.

لنكن مستعدِّين دائماً للرحيل إلى وطننا الحقيقي كما كان الإسرائيليون في فصحهم القديم:

3 - أما الآن فما هو من الضرورة بمكانٍ وقبل كل شيء آخر، أن أُذكِّركم وأُذكِّر نفسي معكم، كيف أن الوصية تدعونـا للإتيـان إلى العيد الفصحي، ليس بلا لياقة وبلا استعداد، بل بطقوس سرائرية وشعائر قانونية بحسبما تقتضيه العقيدة المسيحية.

وكما يشرح لنا ذلك، في الواقع، التاريخ المقدَّس (الذي كـان يتكلَّم عـن مثال الحقيقة): «كل إنسان غريب، أو مُبتاع بفضة، أو غير مختون، لا يأكـل من (خروف) الفصح» (خر 12: 43). ولا ينبغي أن يؤكل في أيِّ بيت كيفما اتفق، ولكن يؤكل بعَجَلةٍ، بقدر ما كـان أنيننا في السابق وحُزْنُنا من جراء عبودية فرعون وأوامر القائمين على التسخير.

ففي القديم عندما كان بنو إسرائيل يُمارسون هذه الأمور بدقة كانوا يُحسبون جديـرين بتقبُّل المثال الذي كان رمزاً لفصحنا الحالي، فنحن لا نُقيم عيدنا الآن احتفالاً بالمثال (بل بالحقيقة).

وكما اشتهى أيضاً كلمة الله هـذا عندما قـال لتلاميذه: «شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم» (لو 22: 15).

ومما قد يندهش له الإنسان في ذلك الوقت هو عندما كان يراهم (بني إسرائيل) متجهِّزين كما لو كانوا على أُهْبَة الاستعداد للاشتراك في موكب أو حفلة عُرس، حاملين عِصِيَّهم ولابسـين صنادلهم ومعهم خبز غير مختمِر (فطير). هـذه الأمور التي حدثت من قبل في مثالات كانت رموزاً لحقائق آتية. أما الآن فالحق نفسه قد صار قريباً منا «صورة الله غير المنظور» (كو 1: 15)، ربنا يسوع المسيح النور الحقيقي، الذي بدلاً من العصا صار صولجان مُلْكِنا، وبدلاً من الفطير صار لنا الخبز النازل من السماء، وبدلاً من الصنادل (استعداداً للهروب من طغيان فرعون ورجاله) أمدَّنا بعُدَّة البشارة المُفرحة (أف 6: 15). وقُصارى القول إنه قادنا بكل هذه إلى معرفة أبيه.

وإذا كان هناك أعداءٌ يُضايقوننا ويضطهدوننا، فإنه بدلاً مـن موسى صار يُحفِّزنا بكلامٍ أفضل بقوله لنا: ”تشجَّعوا لأنني قد غلبت (يو 16: 33؛ وانظر أيضاً 1يو 2: 13) الشرير (لحسابكم: كما انتصر موسى على فرعون لا لنفسه، ولكن لأجل بني إسرائيل)“، وإذا كان بعد عبورنا البحر الأحمر يُضايقنا حَرُّ (القفر) أو تصيبنا مرارة المياه (كما حدث لبني إسرائيل قديماً)، فحينذاك أيضاً سيظهر لنا الرب مُفيضاً علينا عذوبته وينبوعه المُحيي حاثّاً إيَّانـا بقوله: «إنْ عطش أحدٌ فليُقبل إليَّ ويشرب» (يو 7: 37).

عيدنا وليمة عُرْس دائمة، والذي يدعونا إليها هو المسيح نفسه:

4 - فلماذا نتوانى ولِمَ نتعوَّق، ولا نأتي بكلِّ تلهُّف واجتهاد إلى هـذا العيد واثقين أن يسوع نفسه هـو الذي يدعونا؟ الذي صار كل شيء لنا وتحمَّل الآلامات العديدة من أجل خلاصنا؛ الذي جاع وعطش لأجلنا، مع أنـه هـو الذي يمنحنا الطعام والشراب بهباته الخلاصية. لأن هـذا هو مجده، وهذه هي عجيبة لاهوته: إنَّ تحمُّله آلامنا صار مسرَّتـه. فلكونه هـو الحياة، مات لكي (لا نموت نحن)، بل نصير دائمي الحياة؛ ولكونه الكلمة، صار جسداً لكيمـا يُقيم الجسد بالكلمة؛ ولكونـه ينبوع الحياة، عطش عطشنا لكي بهذا يُنبِّهنا إلى الإتيان للعيد (الفصح الحقيقي) قائـلاً: «إنْ عطش أحدٌ فليُقبل إليَّ» (يو 7: 37).

في ذلك الزمان أعلن موسى بدء العيد قائلاً: «هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور» (خر 12: 2)؛ أما الرب الذي قد نزل إلينا في نهاية (في كمال) الدهور فقد أعلن عن يوم آخر، لا كمَن يُبطِل الناموس، حاشا، بل ليُثبِّت الناموس، ويكون هـو غايـة الناموس: «لأن المسيح هـو غايـة الناموس لكل مَن يؤمن بالبر» (رو 10: 4) كما يقول المغبوط بولس: «أفنُبطِلُ الناموس بالإيمان؟ حاشا! بل نُثبِّت الناموس» (رو 3: 31).

فهذه الأمور (التي أعلنها الرب) قد أدهشت حتى أولئك الخُدَّام المُرسلين مـن اليهود، وفي تعجُّبهم قالوا للفرِّيسيين: «لم يتكلَّم قط إنسانٌ هكذا مثل هذا الإنسان» (يو 7: 46). فما هـو الذي أذهل أولئك الخدَّام؟ أو مـا الذي أثَّر في هؤلاء الناس وأثار تعجُّبهم؟ إنه لم يكن شيءٌ آخر سوى قدرة مخلِّصنا وسلطانه. ففي القديم عندما كـان الأنبياء والكَتَبَة يدرسون الأسفار الإلهية فهموا أنَّ ما يقرأونه لا يختصُّ بهم هم أنفسهم بل بآخرين. وهـا موسى على سبيل المثال يقـول: «... نبيّاً مثلي سيُقيم لكم الرب من إخوتكم، فاسمعوا له في كـل ما يوصيكم بـه» (تث 18: 15). وإشعياء أيضاً يقول: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعون اسمه عمانوئيل» (إش 7: 14). وآخرون تنبَّأوا بطُرُقٍ متنوعـة شتَّى عـن الرب. ولكنهم تنبَّأوا بواسطة الرب وعنه هـو نفسه، وليس عـن آخر تُنُبِّئ بهذه الأمور، وهو قـد جعل نفسه غاية لهذه النبوَّات جميعاً عندمـا قال: «إنْ عطش أحدٌ فليُقبل إليَّ»، وليس إلى شخصٍ آخر، ولكن ”إليَّ“.

فـالإنسان يمكنه أن يسمع مـن أولئك عـن مجيئي (كأنـه عـن لسان المسيح نفسه)، ولكن (الآن بعد أن أتيتُ) لا ينبغي لأحدٍ أن يستقي من آخرين بل مني.

ليس العيد فرصة للانغماس في ملذات الجسد، بل لتجلِّي الفضيلة:

5 – ونحـن كذلك عندما نأتي إلى هـذا العيد، لا ينبغي أن نأتي بعد كما إلى الظلال القديمة لأنها قد تمَّت (أُكمِلَت)، ولا كما إلى أعياد اعتيادية؛ بل لنُسرع الخُطَى ”بعَجَلة“ كما إلى الرب الذي هـو نفسـه عيـد فصحنا (انظـر 1كو 5: 7)، غـير ناظريـن إلى العيد كفرصـة للانغماس في ملذات الجسد بـل لتجلِّي الفضيلة. لأن أعياد الأُمم (التي لا تعرف الله) مُفْعَمَة بالشراهة والتراخي التام، لأنهم يَعتَبِرون الاحتفال بالعيد هـو فرصة للبطالة عـن العمل النافع، بينما نجدهم في الوقت نفسه يُمارسون الأعمال التي تؤدِّي بهم إلى الهلاك (الأبدي).

أمـا أعيادنـا (فينبغي) أن تقوم على ممارستنا الفضيلة والتعفُّف كمـا تُشير لنا كلمـة النبي في موضعٍ ما قائلةً: «هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيِّبة» (زك 8: 19)، ولأن هـذه المناسبة لمُمارسة التقوى قـد وافتنا، ومثل هـذا اليوم قـد حضر، والصوت النبوي قد أَعلن أنه ينبغي الاحتفال بالعيد؛ إذن، فلنُعطِ كـل اهتمامنا ونُصغي لهـذا الإعلان السار، ومثل مَـن يركضون في السباق، هَلُمُّوا بنا نتبارَى في تقديس الصـوم (انظر 1كـو 9: 24-27)، بـالسهر في الصلوات، والتأمُّـل في الأسفار المقدسة، وتوزيـع الصدقات على المساكين، ولنكن في سلامٍ مع خصومنا، ولنجمع شتات المتفرِّقين خارجـاً (عـن الكنيسة)، ونطرح عنَّـا الكبريـاء ونرجع إلى تواضُع القلب، عائشين في سلامٍ مـع جميع الناس حاثِّين الإخوة على المحبة.

وهكذا كـان المغبوط بولس مُلزِماً نفسه مراراً بأصوامٍ وأسهار. وكان يودُّ أن يكون محكوماً عليه باللعنة (محروماً من المسيح) من أجل إخوته (رو 9: 3). والمغبوط داود أيضاً الذي إذ أخضع نفسه بـالصوم تجاسـر على القول: «أيها الرب إلهي إن كنتُ فعلتُ هذا، إن وُجِدَ ظلمٌ في يديَّ، إن جازيتُ مَـن يُعاملونني بـالسوء؛ فليُطارد الأعـداء نفسي وليُدركوها فأصير كإنسانٍ لا قيمة له» (مز 7: 3 - حسب السبعينية).

إذا تمسَّكنا بهـذه الأمور، فسنهزم الموت وننال عربون ملكوت السموات (انظر أف 1: 14،13).

لنُعيِّد أيضاً (ولنفرح) بـالروح القدس الذي قـد صار الآن أيضاً قريباً منَّا في يسوع المسيح الذي به ومعـه للآب المجـد والسلطان إلى أبـد الآبديـن. آمين.

(1) من الرسالة الفصحية الـ 14 (342م).
(2) ربما يقصد قيامه في منتصف الليل إلى الصباح، وهذا قد يكون من الساعة 12 إلى الساعة 7 صباحاً، فيكون المقصود بسبع مرات سبع ساعات.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis