عظة آبائية


مع تلميذَي عمواس
من اليأس إلى الإيمان،
والفرح بالرب القائم
للقديس أُغسطينوس
(354-430م)

القديس أُغسطينوس

+ «فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا... فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ» (لو 24: 31،29).

مُرافقة الرب لتلميذَيه في طريق الحياة،لكي لا يضلا الطريق(1):

يذكُـر مرقس الإنجيلي، باختصار (مر 16: 12-13)، حادثـة تتبَّعها لوقـا (الإنجيلي) بأكثر تفصيل (لـو 24: 13-34)، تلك هي حادثـة التلميذَين اللذين، رغم أنهما لم يكونا مـن الاثني عشر، إلاَّ أنهما كانا مـن عداد التلاميذ؛ مُبيِّناً أنَّ الربَّ ظهر لهما وهما يمشيان مُنطلقَيْن في رحلة (اليأس إلى قريتهما عمواس)، فـرافقهما وسـار معهما(2).

ظهر يسوع لهما، وكانـا ينظرانـه بأعينهما، ولكنهما لم يعرفاه. سار معهما السيِّد في الطريق، وفي الحقيقة أنه كان هو "الطريق" الذي لم يكونا بعد سائرَيْن فيه؛ ولكنه وجدهما وقد ضلاَّ مسافةً ما عن الطريق(3)!

وبينما كانـا منطلقَيْن على الطريـق، كانـا يُناقشان تلك الأحداث التي وقعت في أورشليم، أَلا وهي جريمة اليهود وموت المسيح.

وبينما كانا يسيران، كانـا يتطارحان الحديث وهما مُتكدِّران محزونان لأجل ذاك الذي حسباه قـد مـات، وهما غافلان تماماً عـن كونه قـد قام أيضاً.

ظهر لهما (الرب يسوع)، وصار كأنه مسافرٌ ثالـث معهما، وانضمَّ إليهما في حـديثٍ ودِّي، «وَلكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَـنْ مَعْرِفَتِهِ» (لو 24: 16)، لأنـه كـان مـن الملائم أن يتعلَّم قلباهما ما هو أفضل لهما...!

استفسر منهما الرب عمَّا كانا يتناقشان فيه، لكي يُصارحـاه بما كـان يَعْلَمه بـالفعل. وكما سمعتم، فقد أَخذا يتعجَّبان من سؤاله، إذ بَدَا لهما أنه لا يعرف شيئاً عن حدثٍ كان معلوماً للجميع. «وَقَالَ لَهُ (أَحَدُهُمَا الَّذِي اسْمُهُ كِلْيُوبَاسُ): "هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟" فَقَالَ لَهُمَا: "وَمَا هِيَ؟" فَقَالاَ: "الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيًّا مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ..."» (لو 24: 18-19).

أيها التلميذان، هل كـان المسيح رب الأنبياء، مجرَّد نبيٍّ؟... إنهما يرجعان إلى كلام الآخريـن (عـن المسيح)... فـإنكم تذكرون، عندما سأل يسوع نفسه تلاميذَه قائلاً: «"مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟"»، فأجابوه عـن رأي الآخرين فيه، قائلين: «"قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ"» (مت 16: 13-14). هـذا هـو كلام الآخرين وليس التلاميذ.

حينئذ سمع التلاميذ هـذه الكلمات عينهـا: «"وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟"» (مت 16: 15). "لقد أخبرتموني برأي الآخرين فيَّ، ولكني أرغب أن أسمع عقيدتكم فيَّ". ولمَّا كـانت وحدة الرأي سائدة بينهم، تكلَّم بطرس وحده قائلاً: «"أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ"» (مـت 16: 16). "لستَ أي واحدٍ مـن الأنبياء مهما كان، بل أنت ابن الله الحي، مُتمِّم النبوَّات وخالق الملائكة...".

حينئذ سمع بطرس ما يحقُّ له أن يسمعه بعد نُطقه بهـذا الإقـرار: «"طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَـا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ"» (مت 16: 17).

فالإيمان وليس الإنسان، هـو الذي استحقَّ أن يسمع هذا الكلام (وهذا التطويب)(4)...

أمَّـا التلميذان اللـذان ظهـر لهما الرب في الطريق، اللذان «أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ»، فإنَّ كلماتهما تدلُّ على الحالة التي كـان عليها قلباهما... فقد كانا يتكلَّمان معاً عن موته. فطالما كان ميتاً في نظرهما، فكان رأيهما فيه أنه مجرَّد نبيٍّ، ولم يكونا قـد تعرَّفـا عليه بعد كربٍّ ليس للأنبياء فقط، بل وللملائكة أيضاً(5)!!

يا له من سرٍّ عظيم!

انظروا، يـا أحبَّائي الأعزَّاء، كيف أنَّ الربَّ يسوع أراد لهذيـن اللذين «أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ» أن يتعرَّفا عليه عند كَسْر الخبز.

إنَّ المؤمنين يعرفون المسيح عند كَسْر الخبز، ليس أي خبز؛ بـل ذاك الذي يتقبَّل بركة المسيح ليصير جسد المسيح(6).

والآن، يـا أحبَّائي الأعزَّاء، تعالوا نستمع إلى هذا السرِّ العظيم الذي يُتعجَّب له!

لقد سار (الرب يسوع) معهما، وقَبِلَ ضيافتهما (له)، وكَسَرَ معهما خبزاً، ثم تعرَّفا عليه.

إننا لا نقـول إننـا لم نتعرَّف (بعـد) على المسيح، فنحن نعرفه إن كُنَّا نؤمن. ولكن لا يكفي أن نقول إننا نعرفـه إن كُنَّا نؤمن؛ بـل إن كنَّا نؤمن، فنحن نمتلكه.

كان لهما المسيح على مائدتهما، ونحن لنا المسيح في نفوسنا. وهذا أعظم، أن يكون المسيح في قلب الإنسان من أن يكون في بيته، لأن القلب جزءٌ صميمي فينا أكثر من بيتنا...

هأنذا اليوم أُنهض بالتذْكِرة ذهن محبتكم، أنَّ المسيح قائمٌ فينا إن كنَّا نسلك حسناً، وإذا كانت حياتنا الشريرة السالفة ميتة، وحياة جديدة تنمو فينا يومياً...

ولكن، ماذا أعمل؟ إذ قد صرتُ لكم كأغنية لا تستحقُّ اهتمامكم، مُكرِّراً توسُّلي: "غيِّروا أنفسكم، غيِّروا أنفسكم"! نهاية الحياة غير معروفة. أَلا تخافون الموت الفُجائي؟!...

أنا أشتهي أن أفرح، لا أن أحصل على مالٍ من أعمالكم الصالحة. لأن الذي يسلك حسناً لا يجعلني غنياً، إلاَّ أنه بحياته الصالحة، يُسعدني ويُغنيني. فثروتي هي لا شيء إنْ لم يكُن رجاؤكم هو المسيح(7)!

«عرفاه عند كَسْر الخبز»:

آه، أيها الإخوة، إنه لم يشأ أن يتمَّ التعرُّف عليه إلاَّ عند كَسْر الخبز، من أجلنا نحن الذين لم يُتَحْ لنا أن نراه في الجسد، ولكننا مع ذلك نأكل جسده.

لذلك، فكلُّ مَن هو مؤمن منكم، أنتم الذين لكم لقب المسيحي، ليس كمجرَّد اسم أجوف، أنتم الذين لا تدخلون الكنيسة بلا سبب، الذين تسمعون كلمة الله بمشاعر المخافة والرجاء؛ دَعوا كَسْر الخبز يجلب لكم التعزية. فإنَّ غياب الرب ليس غياباً حقيقياً. فليكُن لكم إيمانٌ، وذاك الذي لا تَرَوْنَه يكون معكم!

عندما تكلَّم الرب مع التلميذَين، لم يكُن لهما إيمانٌ، لأنهما لم يُصدِّقا أنه قام، ولم يكُن لهما رجاءٌ في أنهما يمكن أن يقوما مرَّةً أخرى.

لقد فَقَدَا الإيمان، وفَقَدَا الرجاء. كانا كمائتَيْن يسيران مع الحي؛ بل كمائتَيْن يسيران مع الحياة نفسها.

الحياة كانت تسير معهما، ولكن الحياة لم تكن قد تجدَّدت بعد في قلبيهما!

ضيافة التلميذَيْن للرب:

فإذا أردتم أن تكون لكم حياةٌ، افعلوا كما فعل التلميذان لكي تتعرَّفوا على الربِّ.

لقد استقبلاه عندهما بكرمٍ ولُطفٍ. لأن الرب لمَّا أَبدى أنه يقصد مكاناً أبعد، أَلزماه (أن يدخل عندهما في بيتهما)، فبعد أن أَقبلا إلى الموضع الذي كانا ذاهبَيْن إليه، قالا: «امْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ» (لو 24: 29).

أَلْزِمْ ضيفك إذا أردتَ أن تتعرَّف على المخلِّص. فإنَّ كَرَم الضيافة قد عوَّض ما ضيَّعه عدم الإيمان. ولهذا أَظْهَر الرب نفسه عند كَسْر الخبز!

تعلَّم أيـن تطلب الرب، وأين تمتلكه لنفسك؟ تعلَّم أين تتعرَّف عليه؟ أي عندما تأكل جسده!

حقّاً إنَّ المؤمنين في قـراءتهم (للإنجيـل) يفطنون إلى أمـورٍ يفهمونها أفضل مـن أولئك الذين لا يُدركون(8).

أَلا تعلمون أنكم إذا قبلتم أي مسيحي، فـإنكم تقبلون المسيح؟

أليس هـو القائل: «كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي»؟ وعندما سألوه (الأبرار الذين عن يمينه): «وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ...؟». أجـاب: «بِمَـا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ» (مت 25: 35-40).

فعندما يَقْبَل المسيحي مسيحياً، فـإنَّ الأعضاء تخـدم بعضها بعضاً، فيفرح الرأس ويَعتَبِر أنَّ ما قد ناله أحد أعضائه، قد أُعطِيَ له شخصياً...

لـذلك ففي رحلتنا في الحياة، يجب أن نعيش حيث يكون المسيح في احتياج. وهـو في احتياجٍ في أتباعه؛ وأمَّا في نفسه، فهو ليس في حاجةٍ إلى شيء(9)!

أَخفى الربُّ وجوده الجسدي،

لكي يُبنَى الإيمان:

بعـد أن تعرَّف التلميذان على الربِّ، لم يَعُد يُرَى في أيِّ مكان!

لقد أخفى (الرب) وجوده الجسدي عـن الذين امتلكوه الآن بإيمانٍ.

وفي الحقيقة، إنَّ الربَّ قـد أَخفى وجـوده الجسدي عـن الكنيسـة كلها وصَعِدَ إلى السماء، وذلك لكيما يُبنَى الإيمان!

لأنه إن كنتَ لا تقبل إلاَّ ما تراه، فأين إيمانك؟ ومن الناحية الأخرى، إن كنتَ تؤمن بما لا تراه، فستفرح عندما تراه.

شَدِّد إيمانك، إذن، لأن بصيرتك ستتجدَّد. فإنَّ مَـن لا نراه الآن سيأتي، سيأتي - يا إخوتي - حتماً سيأتي؛ ولكـن اهتمُّوا بالكيفية التي سيجدكم فيها عندما يأتي(10)!

(1) مُقتبسة مـن العظات: 236،235،234،232؛ عن كتاب: The Fathers of the Church, Vol. 38.
(2) من العظة 234: 1.
(3) من العظة 235: 1.
(4) من العظة 232: 3.
(5) من العظة 236: 2.
(6) من العظة 234: 2.
(7) من العظة 232: 7-8.
(8) من العظة 235: 2-3.
(9) من العظة 236: 3.
(10) من العظة 235: 3.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis