تأملات في شخص المسيح الحي
- 56 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (24)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (2)

الحَدَث الزمني يُعلِن المعنى المخفي

لنهاية تاريخ العالم:

المسيحيون يفهمون قيامة المسيح من الموت جنباً إلى جنب مـع فَهْمهم للصليب، باعتبارهما أهم حَدَثَيْن في تاريخ البشرية.

واليأس الـذي جَثَم على قلـوب البشـر في التاريخ القديـم، انقلب بحـدوث قيامـة المسيح مـن بعد موتٍ.

والرجاء في كـلِّ التاريخ التالي يبدأ بقيامة المسيح. وهكذا فإنَّ عظمة قيامة المسيح أيضاً تكمن في أنها جعلت البشر يفهمون معنى القيامة منذ تجسُّد ابن الله وحتى نهاية هذا العالم، حيث القيامة العامة لكلِّ البشر في اليوم الأخير.

+ «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ» (لو 24: 34)، هذه "الحقيقة" صارت منذ ذلك اليوم موضوع الكرازة والبشارة المسيحية لكلِّ البشر.

وبعد يوم القيامة بَدَأَت ظهورات المسيح في أماكن وأزمنة مختلفة: ابتداءً من خبر «... قَبْرٌ جَدِيـدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَـدٌ قَطُّ» (يو 19: 41)، وإلى مـا بعد الأربعين يوماً. "وقد صارت ذات أهمية عالمية"(1)، ولكلِّ الأجيال القادمة.

+ إنها قيامة للبشريـة كلها: بالقيامة مـن القبر، أقـام الرب معه أيضاً الطبيعة البشرية، وهكذا كرَّم معه الإنسانية بطريقةٍ لا نظير لها (يو 15: 1-6؛ رو 5: 15-19؛ أع 2: 24؛ 1كو 15: 20-23).

+ وبهذه القيامة من الموت، فإنَّ حَدَث مجيء الله إلى الأرض، استَعْلَـن انتصـار الله الآتي في الجسد، وقد بَلَغَ ذرْوة الحَدَث المُذهل للجميع بالقيامة.

+ لقد علَّمنا آباء الكنيسة، نقلاً عن فم ابن الله المُتجسِّد نفسه: «أَنَـا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ» (يو 10: 34)، بـأنَّ الله قـد صار إنساناً ليصير الإنسان إلهاً! وهكذا كانوا يُعلِّمون بأنه باتِّحادنا بالمسيح، فإن البشرية قد نالت نعمة "التأليه"، ليس بمعنى أننا لم نَعُدْ بشراً مخلوقين، أو أننا فَقَدنا بشريتنا؛ بل بأننا – صرنـا بالإيمان – شركـاء الطبيعة الإلهية كنعمةٍ، وأعضاء في جسد المسيح القائـم من بين الأموات. "فإنَّ قيامته قد صارت تُشير إلى ما سوف نصير عليه، وما سيكون مُمكناً لنا مـن رِفْعة وكمال إنسـانيتنا"(2). وإيماننا بهـذه العقيدة، هو الذي يجعلنا نؤمن بقيامتنا الأبدية مع المسيح.

+ شهودٌ بما فيه الكفاية: إنَّ شهود قيامة المسيح كانوا عديدين وأَكْفَاء، وكانوا مُستعدِّين أن يتألَّموا من أجل شهادتهم بقيامة المسيح. وشهادة الرسل صاحَبَها شهادة الله نفسه في يوم الخمسين (أي بعد قيامة المسيح بخمسين يوماً) (أع 2: 4،3) بعد حلول روح الله القدوس على المؤمنين بقيامـة المسيح: «وظهرتْ لهم ألسنةٌ كأنها مـن نارٍ، فانقسمتْ ووقفَ على كلِّ واحدٍ منهم لسانٌ. فامتلأوا كلُّهم من الروح القدس» (أع 2: 4،3 – الترجمة العربية الجديدة).

+ وهكذا ظلَّ الروح القدس يحمل في قلوبنا الشهادة للحقِّ عن أحداث الخلاص (رو 8: 11-17): «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ».

+ في كـل يـوم أحـد تُرفـع صلـوات الليتورجيـا شـهادة لقيامـة المسيح مـن بـين الأمـوات: إنَّ الاحتفـال الأسـبوعي للمـؤمنين المسيحيين هو يوم الأحد الـذي هـو يـوم قيامـة المسيح، كشـهادة أسبوعيـة مستمرة مـن الكنيسة لذكرى يوم قيامة المسيح من الموت.

فالاحتفال الليتورجي بقيامة المسيح كل أسبوع هو شهادة أساسية ومستمرة للكنيسة بقيامة الرب من بين الأموات يوم الأحد.

والاحتفال بيـوم قيامة المسيح لا يقتصر على يومٍ واحد في السنة فقط؛ بل في كـل يوم أحد، ويُسمَّى: "يـوم الرب"، حيث يُجـدِّد المؤمنون اتِّحادهم بالمسيح القائم من بين الأموات.

+ وكان هذا اليوم يُسمَّى بحسب التقويم اليهودي قديماً: "اليوم الأول مـن الأسبوع"، ولكنه قديماً لم يكن ذا شأنٍ عند اليهود. ولكن بعد أن قام المسيح في يـوم الأحد، ذَكَره كاتبـو الأناجيل الأربعة والرسل (مت 28: 1؛ مـر 16: 9،2؛ لـو 24: 1؛ يـو 20: 9،1؛ أع 20: 7؛ 1كو 16: 2).

+ صَلْبُ المسيح وقيامتـه ليسـا حَدَثين مُنفصلَـيْن، بـل يُعتَبَران معـاً حَدَثـاً مُتكامـلاً معاً.

فإنـه لابدَّ أن نعتَبِر موت المسيح وقيامته ليسا مجرَّد حَدَثين مُنفصلَيْن؛ بل كحَدَثٍ واحدٍ مُرَكَّب، مـن حَدَثين مُتكاملَيْن، وذلك حسب قول الرسول بولس: «أُسْلِمَ مِـنْ أَجْـلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رو 4: 25).

+ وهكذا فَهِمَ القديس كيرلس أسقف أورشليم بأنَّ المؤمـن صار يرى مـوت المسيح كعَدَسة مُكبِّرة نرى بها القيامـة: "إني أعترف بالصليب، لأني أعترف بالقيامة"(3)، أي ليس مُنفصلاً عن القيامة، ولا القيامة مُنفصلة عن الصليب.

على رجاء القيامة

إنَّ ما يُفسِّر العهد الجديـد الذي أتى بالقيامة العامة للبشـر في نهايـة الأيـام، هـو التفسير الـذي أتـى بـه العهـد الجديـد عـن قيامـة المسيح:

قيامة المسيح، والقيامة العامة للبشر في "الزمان الأخير"

اليوم الأخير للبشرية:

+ إنَّ الكثير من وثائق القرن الأول تشهد على توقُّعات كثيرة بـأنَّ القيامة العامـة للبشر كانت موضوع تداوُل بين علماء القـرن الأول، وكانت تُسمَّى أحياناً باسم: "نهاية التاريخ"، وأنها على وشك الحدوث.

وقد وُجِدَت مثل هـذه التوقُّعات في لفائف مخطوطات منطقة "القمران" بفلسطين عند البحر الميت. وكذلك كانت هـذه التوقُّعات مُتداولة في القرن الأول الميلادي.

+ وفي النصـف الأول مـن القـرن الأول الميلادي كـان القديس بولس الرسول يتوقَّع بـأنَّ القيامة العامة (أي نهاية التاريخ) يمكن أن تحدث في حياته (القرن الأول الميلادي): «فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَـاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ» (1تس 4: 15-17)، «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّـهُ سَيُبَـوَّقُ فَيُقَـامُ الأَمْوَاتُ عَـدِيمِي فَسَـادٍ، وَنَحْـنُ نَتَغَـيَّرُ» (1كـو 15: 52،51).

كيف حوَّل الرب يسوع

توقُّعات آخر الزمان؟

+ خدمة الرب يسوع كانت تُشير دائماً إلى النهاية: كان الرب يسوع، من خلال خدمته على الأرض، يُشير إلى نهاية الزمان. ولكنه لم يستسلم للذين حاولوا أن ينتزعوا من فمه تحديد موعدٍ زمنيٍّ مُحدَّدٍ لهذه النهاية.

+ وحينما طلب الفرِّيسيون من الرب يسوع علامةً من السماء، قاوَمَ طلبهم، ليس لأنه لم يكن عنده زمنٌ مُحدَّدٌ لهذه النهايـة، ولكن لأنه كان دائماً يُعلِّمهم بأنَّ تحديد الزمن سوف يُستَعْلَن في أحـداثٍ مستقبلية غير مُحدَّدة بتاريخ: (مر 12: 38-42؛ 16: 1-4؛ لـو 11: 16، 29-32؛ 12: 54- 56).

وفي تلك المرحلة، كان الرب يسوع يُشير فقط إلى أعماله كإثباتٍ أَوَّلي لسلطانه الإلهي (وذلك في إجاباته على أسئلة تلاميذ يوحنا المعمدان): «اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُـونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّـرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُـونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُـونَ، وَالْمَسَاكِـينُ يُبَشَّرُونَ» (مت 11: 5)، «لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كذلِكَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ» (لو 11: 30)، وأيضاً: «وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ بِإِصْبِعِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ» (لو 11: 20).

+ ولكـن تأكيد الـرب يسوع النهائي كـان مـا قاله عـن انتظـار القيامـة العامـة للبشر والدينونـة الآتية التي سيتولاَّها هـو. لقـد تكلَّم المسيح عـن المستقبل وعمـل الله في ملكوتـه الأبـدي، وعـن نفسه، كعلامـةٍ لقُرْب مجيئـه الثاني.

+ ماذا كانت تعني قيامة المسيح من الموت للتلاميذ؟ إنَّ قيامة المسيح كانت تعني للتلاميذ أنها نهاية الزمان، وأنَّ الأيام الأخيرة قد بَدَأَت!

+ ففـي رؤيـا دانيـال النبي (12: 3،2): «وَكَثِيرُونَ مِـنَ الرَّاقِدِيـنَ فِي تُـرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلاِزْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ...»، وكذلك نفس الكلام في (باروخ 30: 1)؛ بـل إنَّ نفس الكلام نقرأه في رسالة بولس الرسول الأولى إلى تسالونيكي (4: 15-18).

فـالقيامـة كـانـت - في نظـر القديـس بولس - هي نهايـة التاريخ البشري، وأنها مـن عمل الله.

+ في الـرب يسـوع "النهايـة" بَدَأَت منذ الآن: خدمـة الرب يسوع كـانت هي "النهايـة" بمفهومٍ خاص. إنهـا "الآن"، وذلك في خدمتـه بشفاء المرضى مـن كـلِّ الأنواع، إنها إعـلان ملكوت الله. وحين قام المسيح من بين الأمـوات، كان ذلك بمثابة "بداية النهايـة"؛ أو أنَّ النهاية ليست مؤجَّلة، بل هي قائمة فعلاً، ولكنها "حادثة مُقدَّماً"؛ أو هي "سَبْق تذوُّق حياة الدهر الآتي".

+ قيامـة الرب يسوع تعني "النهاية"، أي "الاستعلان النهائي": ففي قيامـة المسيح، فـإنَّ تلاميذ المسيح فهموا الكلمة النهائية، فقد فهموا أنَّ هذه هي بداية النهاية.

+ باكورة القيامة العامة: قيامـة الرب يسوع كانت مُعتَبَرَة أنها باكورة القيامة العامة: «إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ "بَاكُـورَةَ الرَّاقِدِينَ"... الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (1كو 15: 19-23).

فالمسيح هـو أول القائمين مـن بين الأموات (بجسدٍ مُمجَّد)، أي أنـه الواحد الذي مـن خلاله تعلَّمت الكنيسة أنهـا تنتظر المجيء الثاني للرب يسوع، وتحقيق الرجاء الموعود به من المسيح.

(يتبع)

(1) Lactantius, Div. Inst., FC 49, pp. 297-99.
(2) Irenaeus, Ag. Her. III, 19,1; V. 16-20; V. 21; ANF I, pp. 448,544,548; Athanasius, On the Incarn., 54.
(3) Catech. Lect. XIII; FC 64, p. 6.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis