تأملات روحية



«أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25) (((((

«مَن آمن بي ولو مات فسيحيا»:

لقـد فوجئت مرثـا أخت لعازر الميت بقَـوْل الـرب يسوع لهـا: «سَيَقُومُ أَخُـوكِ». وحينـذاك أجـابت الرب بما ترسَّب في وجدانها: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ». فكان ردُّ الرب يسوع عليها: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَـوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُـلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ» (يـو 11: 23-26). فمرثا حتى تلك اللحظة الفارقة لم تكن تَعْلَم حقيقة الرب يسوع، فكان في مُخيِّلتها أنه مجرَّد مُعلِّم صالح أو نبيٍّ مقتدر. ولكنها ذُهِلَت من كلام الرب، الذي ربما لم تُدركه جيداً في ذلك الحين!

+ ويُعلِّق القديس كيرلس الكبير على مـا دار من حديث بين مرثا والرب يسوع، قائلاً:

[الكلمات التي قالتها (مرثـا) له (للرب يسوع): «(أَعْلَمْ أنَّ) كُـلَّ مَا تَطْلُبُ مِـنَ اللهِ يُعْطِيكَ اللهُ إِيَّاهُ»، هي كلمات تعكس خوفها مـن أن تطلب صراحـةً مـا تريـد! وبكلماتهـا هـذه، تُبيِّن إخفاقها في معرفة حقيقته، إذ هي توجِّه كلماتها إليه وكأنـه هـو أحد القدِّيسين وليس الله ذاته. فإنَّ رؤيتها له، وهو في الجسد، جعلتها تظنُّ أنَّ كـلَّ ما يطلبه مـن الله، كأحد القدِّيسين، سوف يناله، دون أن تعـرف أنـه لكونـه هـو الله بطبيعته، وهـو قوَّة الآب، فهو يملك قدرةً فائقة لا تُقهَر على كلِّ الأشياء. لأنها لو كانت قـد عرفت أنـه هـو الله لَما كانت قـد قالت: «لو كنتَ ههنا»، لأن الله هو في كلِّ مكان...](1).

+ ويستطرد القديس كيرلس الكبير، قائلاً:

[إنَّ ثمرة ومكافأة الإيمان بالمسيح هي، بالتأكيد، الحياة الأبدية، فليس هناك طريقٌ آخر تنال به النفس هذه الحياة. فرغم أنَّ المسيح سيُقيم الجميع إلاَّ أنَّ الحياة الأبدية التي تُعطَى للمؤمنين هي الحياة الحقيقية، أي أن نعيش بـلا نهايـة في الغبطة؛ لأن العودة إلى الحياة للدينونـة فقط لا تختلف عـن الموت... إنَّ إظهار نعمة القيامـة سيتمُّ في حينه، فالقيامـة ستكون للجميع وليس للبعض، وهي فعَّالـة لجميع البشـر... يقـول المُخلِّص: «(مَـنْ آمَنَ بِي) وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا»، فإنه لم يُلْغِ الموت الذي يحدث الآن، لكنه يُوضِّح أنَّ الموت له قـوَّة على المؤمنين. فهُم يُعانـون الموت بشكلٍ طبيعي، لأنه (أي المسيح) قد حفظ نعمة القيامة إلى الوقت المناسب. وهـو يقول: «مَن يؤمن بي»، فرغم أنه (أي المؤمن) سيجتاز موت الجسد - بطريقةٍ طبيعية - إلاَّ أنـه لـن يُعاني شيئاً يستحقُّ الخوف في هـذا الأمر، لأن الله يستطيع بسهولة أن يُحيي مَن يشاء. لأن مَن يؤمن به (بالمسيح)، سينال في الدهر الآتي حياةً لا تنتهي في الغبطـة والخلـود الكامـل. لذلك لا يجب أن أيَّ شخصٍ غير مؤمن يسخر من أنَّ المسيح لم يَقُلْ: "(وكل مَن كـان حيّاً وآمن بي) مـن هذه اللحظة الحاضرة لم يَرَ الموت"، فإنه حينما قال (المسيح) - بشكل مُطلق - «لن يرى الموت إلى الأبد»، فهـو يتكلَّم عن الدهر الآتي، مُحتفظاً بإتمام الوعد إلى الدهـر الآتي. وبقوله لمرثـا: «أَتُـؤْمِنِينَ بِهذَا؟»، فهو يطلب منها أن تُقرَّ بأنه هو مصدر ونبع للحياة الأبدية...

فإن كـان الابـن (ابن الله الحي) مخلوقاً أو مصنوعاً، مع أنه هو "القيامة والحياة"، فإنَّ الآب هو أيضاً لم يُكرَّم، إذ هو أيضاً بالحقيقة "القيامة والحياة"! أو ما هـو الذي كان سيُميِّز الابن عن بقية المخلوقات؟... لأن كل ما هو مخلوقٌ ليس فيه حياة من ذاته، بل يستمدُّها من الله الحي، كما قـال القديس بولس عـن الله: «لأَنَّنَا بِـهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أع 17: 28)](2).

"ابتُلع الموت إلى غَلَبَة":

لقد تجسَّد كلمة الله غير المائت، واتَّحد بطبيعة بشرية قابلة للموت، لكيما إذا ذاق الموت بالجسد من أجلنا ومن أجل خلاصنا، يُبيد الموت ومَن له سلطان الموت أي إبليس. ولكن لأنه هو الحياة في ذاته فقد ابتَلَعَ المـوت الذي ساد على البشر، ولم يَعُد للموت مـا كـان عليه مـن قبل من سطوة وسلطان على جنس البشـر، بسبب مـا فعله الـرب، إذ بموتـه - بالجسد - داس الموت ووطأه، أو كما يقول آباء الكنيسة: "إنه بموته أمات الموت نفسه"!

+ ويقـول القديس أثناسيوس الرسولي:

[قديمـاً، قبل المجيء الإلهي للمُخلِّص، كـان الموت مُـرعباً حتى بالنسبة للقدِّيسين، وكـان الجميع ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أمَّا الآن، بعد أن أقام المُخلِّص جسده (الذي اتَّحد به اتِّحاداً أُقنوميّاً)، لم يَعُد الموت مُخيفاً، لأن جميع الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كـأنه لا شيء، بـل بالحـري يُفضِّلـون أن يموتـوا على أن يُنكـروا إيمانهـم بالمسـيح، لأنهـم يعرفـون - بكـلِّ يقـين - أنهـم حينما يموتـون فهُـم لا يَفنَون، بـل بالحـري يَحْيَون عـن طريق القيامة ويصيرون عديمي فساد.

أمَّـا ذلك الشيطان الذي بخبثه فَـرِحَ قديماً بموت الإنسان، فإنـه الآن، وقد نُقِضَت أوجاع المـوت، فهـو الوحيـد الذي يبقى ميتـاً حقّاً. والبرهـان على هـذا، هو أنَّ الناس - قبل أن يؤمنوا بالمسيح - كانـوا يَرَوْنَ الموت مُفزعاً ويجبنون أمامه؛ ولكنهم حينما انتقلوا إلى إيمان المسيح وتعاليمه، فإنهم صاروا يحتقرون الموت احتقاراً عظيماً لدرجـة أنهـم يندفعون نحـوه بحماسٍ، ويصبحون شهوداً للقيامة التي انتصر بها المُخلِّص عليه](3).

«ليس هو ههنا لكنه قام»:

لقد تحيَّرت النسوة كثيراً عندما ذهبن في فجر الأحد إلى القبر وهُنَّ حاملات الحُنُوط الذي أَعْدَدْنَه، وإذا بهُنَّ يجدن الحجر الذي كـان على القبر قـد دُحرِجَ، وعندما دخلن إلى القبر لم يجدن جسد الرب يسوع، لأنه كان قد قام من بين الأموات إذ لم يكن مُمكناً أن يُمسَك من الموت، فهو الحياة بعينها، وهو واهب الحياة أيضاً. ولكن رأين ملاكَيْن بثيابٍ برَّاقة، قالا لهُن: «لَمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ ههُنَا لكِنَّهُ قَامَ!» (لو 24: 5-6).

+ ويُعلِّـق القديس كيرلس الكبير على هـذا الحَدَث العجيب، قائلاً:

[النسوة أتين إلى القبر، ولمَّا لم يجـدن جسـد المسيح، لأنه كان قد قام، فإنهُنَّ تحيَّرنَ كثيراً، ثم مـاذا تبـع ذلك؟ إنهُنَّ لأجـل حُبهنَّ للمسيح، ولأجـل غيرتهـنَّ الحـارة لـه، فقـد حُسِبْنَ مُستحقَّات أن يَريـن الملاكَيْن المُقدَّسَيْن اللذيـن أخـبراهُـنَّ بـالأخبـار السـارة، وصـارا مُبشِّرَيْـن بـالقيامة قـائلَيْن: «لَمَـاذَا تَطْلُـبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُـوَ ههُنَا لكِنَّهُ قَامَ!» (لـو 24: 6،5). إنَّ كلمة الله حيٌّ إلى الأبـد، وبحسب طبيعته هـو الحياة ذاتها، ولكنه عندما أَخلى ذاته (مـن مجـد الأُلوهة)، ووضع نفسه ليصـير مثلنا (بتجسُّـده)، فإنـه ذاق المـوت (بالجسد)، ولكنه برهـن على مـوت المـوت، لأنـه قام من الموت ليصير هـو الطريق الذي به، ليس هو فقط، بل نحـن أيضاً، نعـود إلى عـدم الفساد. ليت لا يبحث أحـدٌ عـن "هـذا الحي إلى الأبد" بين الأموات، لأنه هو ليس ههنا بين الأمـوات وهـو ليس في القـبر. ولكـن أيـن يوجَد بالأَحْرَى؟ ببساطةٍ ووضوح، هـو في السـماء، في مجـد الله... إنَّ الملائكـة هم الذيـن أَتـوا بـالأنباء السـارة للميـلاد إلى الرعـاة في بيت لحم، والآن أيضاً هـم الذيـن يُبلِّغـون أخبار القيامـة. والسماء تُقـدِّم خدمتها لتشهد له (للـرب القائم مـن بين الأمـوات)، والأجناد الروحانية العلويـة تعبد الابـن كـإلهٍ حتى بعد أن صار جسداً](4).

"تألَّم وقُبِرَ وقام":

لقـد اجتاز الـرب يسوع الآلام حتى الموت، موت الصليب، وذلك ليس مـن أجله، وإنما من أجلنا ومـن أجل خلاصنا. ولذلك فكل مرحلة من مراحـل تدبير الخلاص أتمَّها الرب يسوع مـن أجلنا ومـن أجـل خلاصنا؛ حتى بعد أن اجتاز الموت وقهره، قام ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن مُمكناً أن يسود عليه الموت بعد، أو يُمسَك منه.

+ وفي عظـةٍ للقديس غريغوريوس النيسي (335-394) عن "قيامة المسيح"، يقول:

[متى كـان (الرب) مُحتَقَراً؟ كان مُحتَقَراً عندما جلدوا وعذَّبوا الجسد المقدَّس (المُتَّحد بلاهوته)، ذلك الجسد الذي تحمَّل الآلام بإرادته، لكي يشفي الجـروح القديمة التي نشـأت بسبب خطايـانا؛ عندمـا حَمَل (الرب) على كتفيه خشبة الصليب، الـذي هـو علامـة الانتصـار على الشيطان؛ عندمـا وضعوا إكليلاً مـن شـوكٍ فوق رأسه، وهـو الذي يُتوِّج كـل المؤمنين باسمه بأكاليل المجـد والكرامـة... عندما علَّقوا رئيس الحياة على الصليب، وهو الذي له وحده السلطان على الموت... متى كـان مُحتَقَراً؟ عندما سَلَّم الجسد للدفـن، وعندمـا حَرَس الحُرَّاسُ القبرَ، وخبَّأتْ الأرض ذاك الذي ثَبَّتَ الأرض على المياه...

لكـن انتبـه، أيها المحبوب، لعجائب الله، وإلى الأفراح التي أتت بعد كل هـذه الآلام؛ لأن المُحتَقَر، صـار مُمجَّداً. فـالجسد القابل للفساد والموت، قـام مُمَجَّـداً، مُنتصِراً على الموت. فعندمـا سقط آدم آنـذاك، حـزنت الأرض، واكفهرَّ النهار، وسـاد الموت على الجميع. لكن الآن لم يستطع الموت أن يمسك ذاك الذي يمسك كلَّ شيء بكلمته.

إذن، لنحتفل اليوم بالقيامـة، التي أتت بنا إلى الحياة الأبديـة، لأنـه كمـا أنَّ العـذراء القديسة مـريم قـد اختبرت الآلام، إذ كونهـا عذراء بتول وتَلِد، فهذا قـد عرَّضها للاتِّهامات الباطلة، لكـن بحسب تدبير الله، ونعمة الروح القدس، وَلَدَت كلمة الله خالق الدهـور؛ هكذا افتُدِيَت أحشاء الأرض مـن آلام الموت، إذ لم يكن مُمكناً أن تُمسَك الحياة من الموت... إذ لم يكـن مُمكناً للموت أن يقبض عليه، لأنـه لم يستطع أن يسود على الجسد الحامل الحياة](5).

«خرج غالباً ولكي يَغْلِب»:

في رؤيا يوحنا اللاهوتي، يقول: «وَنَظَرْتُ لَمَّا فَتَحَ الْخَرُوفُ وَاحِداً مِنَ الْخُتُومِ السَّبَعَةِ، وَسَمِعْتُ وَاحِداً مِنْ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَائِلاً كَصَوْتِ رَعْدٍ: "هَلُـمَّ وَانْظُـرْ!" فَنَظَـرْتُ، وَإِذَا فَـرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَـوْسٌ، وَقَـدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلاً، وَخَرَجَ غَالِباً وَلِكَيْ يَغْلِبَ» (رؤ 6: 2،1).

إن غَلَبة الرب يسوع للمـوت، لم تَعُد قاصرة عليـه وحـده، فقـد وَهَـبَ هـذه الغلبة لكـلِّ الذيـن يؤمنون بـه. فهُم لا يهابون الموت الذي أُبيد بموت الرب بالجسد، واستُعلِنَ بقيامته من بين الأموات. ولذلك كما يقول بولس الرسول: «وَمَتَى لَبِسَ هذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَـوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَـةُ: "ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ". أَيْـنَ شَوْكَتُكَ يَـا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَـةُ؟ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُـوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُـوسُ. وَلكِـنْ شُكْراً للهِ الَّـذِي يُعْطِينَـا الْغَلَبَـةَ بِـرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1كو 15: 54-57),

+ ويشرح القديس أثناسيوس الرسولي ما قـد ناله المؤمنون بالرب يسوع من قوَّةٍ وغَلَبة، قائلاً:

[حينما يحتقـر الشُّبَّان والشَّابَّـات، الذيـن في المسيح، هـذه الحياة، ويُرحِّبون بـالموت؛ فهل يكـون هـذا، إذن، برهانـاً هيِّناً على ضعف الموت؟ أو هل هـو إيضاحٌ ضئيل للنصرة التي حقَّقها المُخلِّص عليه؟ فـالإنسان بطبيعته يرهب المـوت ويخشى انحلال الجسد. ولكن المُدهش جدّاً، أنَّ مَـن قـد تسلَّح بالإيمان بالصليب، فإنه يحتقر كـل ما هـو مُفزع بالطبيعة، ومن أجل المسيح فإنه لا يخاف الموت...

إنَّ مَـن يتشكَّك في الغلبة التي تمَّت على الموت، فعليه أن يقبل إيمان المسيح ويدخـل إلى تعليمه، وسوف يرى بنفسه ضعف الموت والنصرة التي تمَّت عليه. لأن كثيريـن مِمَّن كانوا فيما مضى مُتشكِّكين ومُستهزئين، قـد آمنوا فيما بعد؛ وهكذا احتقروا الموت لدرجة أنهم صاروا شهداء لأجل المسيح نفسه](6).

(1) "شرح إنجيل يوحنا"، الجزء الثاني، يو 11: 21-24.
(2) "شرح إنجيل يوحنا"، الجزء الثاني، يو 11: 25-27.
(3) "تجسُّد الكلمة"، 27: 2-3.
(4) "تفسير إنجيل لوقا"، لو 24: 1-6.
(5) "مجموعة آباء الكنيسة اليونانيين" (+++)، مجلَّد 11، ص 19-35، (مؤسَّسة القديس أنطونيوس).
(6) "تجسُّد الكلمة"، 28: 1-5.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis