من تاريخ كنيستنا
- 158 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 7 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) البابا كيرلس الرابع يردُّ

على سؤال حول ميراث المرأة:

+ من دواعي فخر الكنيسة القبطية أنَّ اهتمام البابـا الإسكندري بشخصيـة الفتـاة أو المـرأة القبطية، لم يقتصر فقط على تعليمها، وإعطائـها حقوقهـا الإنسانية العالمية، أي حقها في الميراث فقط؛ بل وأيضاً قرَّر عدم تزويجها قبل أن يصل عمرهـا إلى الرابعة عشرة. فهو بذلك يكون قد سبق قوانين تحديد سِـنِّ الزواج في مصر بأكثر من مائة عام.

+ كـذلك قـرَّر البابا أن يعترف العروسان اعترافـاً صريحاً للأب الكاهن بالرضا التام عن زواجهما، قبل إتمام طقوس سـرِّ الزيجة، حتى لا يكون هناك أيَّة شُبْهَة في إكراه أحد الطرفين (وبالذات الفتاة التي كثيراً ما تكـون مغلوبة على أَمرهـا في المجتمعات الشرقية لأسبابٍ دينية!)؛ مِمَّا يتسبَّب في النزاع والشقاء بعده. ورأى البابا أن يستبدل ما يُسمَّى بـ "عقد الأملاك" بمجـرَّد التراضي شفويّـاً (بتـلاوة الصلاة الربَّـانية بين الطرفين)، لأن شُبْهَة إكراه الطرف الضعيف، أي العروس، يجعـل العقد يصعب حلُّه إلاَّ تحـت ضغوطٍ شديـدة، وقـد يـؤدِّي إلى زواجٍ غير مرغـوب فيه. أمَّا التراضي فسَهْلٌ حلُّه. والواقع أنَّ البابـا كيرلس الرابع أَقْدَمَ على هـذه الخطوة أيضاً إنصافاً للمرأة، لأنها هي التي كـانت دائماً تقع تحت الإكراه في أغلب الزيجات.

البابا كيرلس الرابع يُزكِّي مساواة الأقباط بسائر المواطنين في الوظائف الإدارية، وأيضاً في التجنيد الإجباري للمواطنين، حين حلول سِنِّ الرُّشد:

+ وقـد تهيَّأَت لهـذا البابا الشُّجاع الفرصة لإظهار شجاعته الأدبية والوطنية بـأكثر وضوح في القوانين الآتية:

- تصحيحٌ في فرمان (أي قانون) صَدَر قبل ذلك مـن السلطان التركي في 18 فبراير سنة 1856م، يُعـرَف بـاسم "فرمـان الإصلاحات الخيرية" يقضي بوجوب المساواة بين رعاياه. فقد نصَّت الفقـرة الثالثة عشـرة على أنـه: "يكون انتخاب وتعيين خدمة من مأموري سلطتنا السَّنيَّة منوطاً باستتباب إرادتنا الملوكية، فيصير قبـول تبعة دولتنا العليَّة مـن أيَّـة مِلَّة (أي طائفـة) كـانت في خدماتها أو مأمورياتها، بحيث يكـون استخدامهم في المأموريـات بـالتطبيق للنظامات المرعيـة الإجـراء في حـقِّ العموم بحسـب استعدادهم وأهليَّتهم".

- بينمـا تنصُّ الفقرة الرابعـة عشـرة على الآتي: "وإذا قامـوا بـإيفاء الشـروط المُقـرَّرة بالنظامـات الملوكية المختصَّة بـالمكاتب التابعة لسُلطتنا السَّنيَّة، بالنسبة للسِنِّ والامتحانات، يصير قبولهم في مدارسنا الملكية والعسكريـة، فلا فرق ولا تمييز بينهم وبين المسلمين".

- أمّـَا الفقرة الرابعة والعشرون فتقول: "وكما أنَّ المسـاواة في الخِـراج تستوجـب المسـاواة في سـائر التكـاليف، وبـالمساواة في الحقـوق، مـا تستدعي المساواة في الوظـائف؛ فالمسيحيون وسائر التُّبعة (الذين يتبعون الدولة المصرية) غير المسلمين، يسحبون نمـرة قرعـة مثل المسلمين، ويُجبرون على الانقياد للقرار الصادر أخيراً".

- كـذلك وَرَدَ في الفقرة السابعة والعشريـن مـا يلي: "ويُنتَخَب أعضاء المجالس الموجـودة بالولايـات والمديريـات مـن "التُّبعـة" المسلمة والمسيحية وغيرهـا بصـورةٍ صحيحة. ولأجل التأمين على ظهـور الآراء الحقيقيـة، سيصير التشبُّث في إصلاح الترتيبات التي تجري في حقِّ تشغيل هذه المجالس...".

+ فلمَّا اطَّلع البابا على هـذا الفرمان، ذهب إلى سعيد باشـا والي مصر، وطلب منه تطبيقه بالفعل على الأقباط تبعاً لكفاءاتهم، فهُم مصريون تربطهم مع المسلمين رابطة الوطنية والجنسية.

+ كـذلك، طالَبَه بقبـول شباب الأقباط في المدارس العُليا كالطب والهندسة.

+ وقد زعم البعض كذباً، أنَّ البابا إنما ذهب إلى الوالي ليطلب إعفـاء الأقباط مـن الخدمة العسكرية، وسأله في ذلك!! وقد ردَّ البابا كيرلس الرابع المصريُّ الصميم: "حاشـا لله أن أَكـون جباناً بهـذا المقدار، وكـأني لا أعرف للوطنية قيمةً، أو أن أفتري على أعزِّ أبنائنا الذين هم أبناء الوطن، بتجريدهم من محبة وطنهم، وعدم المَيْل لخدمته، حـقَّ الخدمة والمُوافقة عنه. فليس هـذا مـا أطلبه، إنمـا أطلب المساواة في الحقـوق، وبالتالي المساواة في الواجبات".

مزاعم كاذبة حول البابا كيرلس الرابع

من بعض اللاأرثوذكسيين:

+ ومن مزاعم بعض اللاأرثوذكسيين: إنه حين هدم البابا مباني الكنيسة المرقسية القديمة ليُقيم مكانها كنيسـة تليق بـالكرسي الإسكندري، روَّج هـؤلاء اللاأرثوذكسيون أنه جَمَعَ الأيقونات التي كانت مُثبَّتة في الكنيسة وعلى جدرانها، وادَّعوا كذباً أن البابـا كيرلس الرابع كوَّمها في كومةٍ واحدة وأشعل فيها النار أمام جميع الشعب. وادَّعوا أنـه خطب فيهم، وانتهى إلى القول: "... انظروا هذه الصُّور الخشبية التي تعوَّدتم احترامها لدرجة العبادة، ها هي صارت رماداً لا تنفعكم. فالله وحده هو الذي يستحقُّ العبادة والسجود".

+ وما مِن شكٍّ في أنَّ هذه المزاعم باطلة، لأن أبا الإصلاح كـان مُتبحِّراً في عقائد كنيسته القبطية الأرثوذكسية، عارفـاً تمام المعرفـة أنَّ الأيقونـات موضوعـة في الكنيسة، ليس للعبادة على الإطلاق، بل هي وسيلة فنية لتذكار الآبـاء القدِّيسين الذيـن حفظوا الإيمان الأرثوذكسي. بل إنـه زيَّن ودشَّن في كنيسة الملاك غبريال التي بناهـا في حـي السـقَّايين، صُـوَر القـدِّيسين والقدِّيسات، وعلى رأسهم القديسـة العذراء مريم والملاك غبريال وباقي القدِّيسين، ولم يَقُل أحدٌ من الشعب أنها للعبادة، بل هي تتماشى مـع تمجيد القدِّيسين والقدِّيسات وتَذَكُّـر سِيَرهـم وآلامهـم واستشهادهم من أجل المسيح.

كيف تعامَل البابا مع شكوى ضد فَتْوَى شرعية

بهَدمْ باب الكنيسة لأنه بُنِيَ أعلى من المُقرَّر؟

+ حينما سمع البابـا كيرلس الرابـع هـذه الشكوى من الكاهن القمص يوسف موسى كاهن كنيسة ميت غَمر، رجا منه البابا أن يلحق به عند "ذو الفقار باشا".

وما إن استقرَّ البابا عند مُضيِّفه، حتى وصل الكاهن. فسأله البابا: "ما الذي جاء بك إلى هنا؟". أجابـه القمص: "الحـقُّ أني جئتُ أشـكو لأن حكومتي تُريد أن أجعل باب الكنيسة مُنخفضاً إلى حدِّ أنَّ الرجل أو المرأة الذي والتي يُريد أو تُريد الدخول للكنيسة، لابد له أو لها أن ينحني". فقال له البابا: "عليك الطاعة ما دُمتَ محكوماً وليس لك مَلِكٌ يُدافع عنك".

وما كـاد "ذو الفقار باشا" يسمع هـذا القول حتى قام لفَوْره وقابَل الوالي "سعيد باشا"، وروى له ما سَمِعَ، ثم قـال للوالي: "لا يليق أن نسمع بمثل هذه الأمور في أيام عدلك". فلم يترك الوالي الحرية للقمص يوسف أن يُنفِّذ هذا الأمر الخارج عن اللياقة في الكنيسة؛ بـل أَمَرَ بإعادة بناء باب الكنيسة على نفقة الحكومة. وحينما رأى أهالي دقادوس ما حدث، تشجَّعوا بدورهم، ونقلوا باب كنيستهم مـن الجهـة القبلية إلى الجهة الغربية، وجعلوه مُرتفعاً إلى درجة لم تكن مُمكنة قبل ذلك. كما أنَّ أهـالي طنطا والمحمودية قامـوا ببناء الكنائس في مدينتهما، وكـانوا محرومـين منها سنين طويلة.

البابا يستضيف بطريرْكَي الروم والأرمن

الأرثوذكسيَّين في دير الأنبا أنطونيوس:

+ على أنَّ سعيد باشـا رغم وعوده للبابـا كيرلس الرابع بالنظر في تنفيذ نصوص الفرمان، بالمساواة بين المصريين مهما كانت ديانتهم، إلاَّ أنـه ماطَـلَ في التنفيذ الفعلي. واستشفَّ البابـا الإسكندري تباعُد الوالي وتباطؤه بإزائـه. فقرَّر البابـا الذهاب إلى ديـر القديس أنبا أنطونيوس، حيث تشاغَلَ بتعمير بعض مبانيه، وأَخَذَ معه إلى الديـر كُـلاًّ مـن "كاللينوس" بطريـرك الروم الأرثوذكس في مصر، وكـذلك بطريرك الأرمن الأرثوذكس؛ ذلك لأنـه وَضَعَ نُصْب عينيه إيجاد وحدة بين الكنائس الأرثوذكسية في مصر. وهكذا سافر هو ورفيقاه ورجالهم إلى بوش، حيث قضوا بعض الأيـام انتظاراً للقافلة التي توصِّلهم إلى الدير.

تدخُّل قنصل فرنسا بمصر لمُقابلة البابا:

+ كـان مسيو "سابا تيبيه" قنصل فرنسا قـد ذهب لمُقابلة البابـا كيرلس الرابع قبل مغادرته القاهرة، وعَـرَض عليه التوسُّط بينه وبين سعيد باشا، بشرط أن يُعطيه البابـا تصريحاً بدخول الرهبان الكاثوليك اليسوعيين إلى الحبشة (إثيوبيا الآن)؛ وهكذا أوقع بينه وبين الوالي سعيد باشا.

هـذا مـن جهةٍ، ومن الجهة الأخرى، سمع الجـنرال مـوري قنصل إنجلترا بمصر بسَفَر البطاركة الثلاثة، فرأى أن يستغلَّ الفرصة أيضاً للإيقاع بأبي الإصلاح الذي سبق أن انتصر على الدسائس الإنجليزية مرتين. فذهب قنصل إنجلترا إلى سعيد باشا وأبلغه بأنَّ البابا كيرلس الرابع ينوي التحالُف مع الروم والأَرمن؛ وأنه إذا نجح في هذا، دخل الروس أيضاً ضمن هذا التحالُف لأنهم مُتحالفون مع الروم، وعند ذلك - حسب خطة القنصل الإنجليزي - سيصبح البابا أقوى سطوة منه (مـن الوالي) الآن نتيجة لمـؤازرة روسيا له!

وبالطبع، صدَّق الوالي هـذه الأكاذيب، وعلى الأخص أن قنصل إنجلترا كان قد أَلمح قبل ذلك للوالي سعيد باشا شيئاً مـن الدسائس مثل هـذه. فأرسل الوالي إلى مدير بني سويف رسولاً يقول له: أن يطلب مـن البابا كيرلس الرابـع العودة حالاً، لأن الوالي في حاجة إليه. وذهب المديـر إلى بوش (حيث مقر دير الأنبا أنطونيوس)، وأبلغ البابا كيرلس بالرسالة. فقال له البابا: "إني ذاهبٌ مـع رفاقي إلى الجبل الشرقي، وحينما أعـود، سأذهب إلى الباشا".

+ وخـاف المدير أن يردَّ على الوالي سعيد باشا بهذا الردِّ، فقال للبابا: "اكتُبْ بخطِّك هذا الكلام الذي تقوله"! فكتب له البابـا الرد، ووقَّـع عليـه، وأعطـاه للمديـر مـع رسول الوالي. فتزايَـدَ حنق الباشـا على البابـا، وأضمر لـه السوء منذ تلك الساعة!

+ وهكـذا نجـد أنَّ فرنسا وانجلترا كليهما ساهما بنفوذهما ووقيعتهما معاً للإيقاع بين البابا كيرلس والوالي سعيد باشا! ليس لسببٍ إلاَّ لأن كُلاًّ منهما وَجَدَ في البابـا كيرلس رجلاً قوي العزيمة، يستهـدف النهوض بـالشعب المصري عامةً، وبالشعب القبطي بصفةٍ خاصة. كما كان البابـا يحرص كل الحرص على استقلال كنيسته بعيداً عـن مؤامـرات الإنجليز والفرنسيين ضد وحـدة المصريـين. فـالشعب الناهض لا يسهُل استعباده. وهـذان الأجنبيان كانـا يبغيان استعباد شعب مصر والسيطرة على رئيسهم الديني. إذن، لابد من أن يسقط البابا كيرلس الرابع الذي يروم العُلا لشعب مصر.

+ وكان من حُسْن حظِّهما، أن سعيد باشا كان رجلاً من السهل استثارته والتأثير عليه، وعلى الأخص لأنه كان ميَّالاً جدّاً للأوروبيين. وهكذا لعب كلٌّ منهما دوره في هذه المأساة دون تردُّد ولا تراجُع. وإنـه ما دام الهدف هو امتداد نفوذ فرنسا أو نفوذ إنجلترا، فلمـاذا التردُّد؟ هـل لأن الرجل الواقف في طريق مؤامراتهما ضد مصر هو بابا الإسكندرية؟

+ وبهذه الأفكار في ذهـن كـلٍّ منهما على حِدَة، التقيا عند هـدفٍ واحد، هـو إثـارة الحقد والضغينة في قلب سعيد باشا على الرجل الذي كان يوقِّره ويثق به إلى حدِّ التصالُح مع الحبشة؛ والذي كـانت مسـاعيه سـبباً في حَقْن دمـاء المصريين والأحباش، بتفادي الحرب التي كانت لابدَّ واقعة حتماً لولا وساطة البابا كيرلس الرابع قبل رسامته بطريركاً.

(يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis