مفاهيم
إيمانية



مفهوم السر الكنسي والأسرار الكنسية
في الإيمان المسيحي وحياة الكنيسة

يُطالعنا الكتاب المقدَّس (بعهدَيْـه)، وكذلك كُتُب وليتورجيات الكنيسة والتعليم الكنسي، بتعبيرٍ هـام ومُلفت، هـو كلمة ”سـر“ أو ”أسرار“ أو ”سرائر“، مثلما يَـرِد في سِفْر التثنية: «السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى الأَبَدِ» (تث 29: 29)، وفي سِفْر الأمثال: «أَمَّا سِرُّهُ فَعِنْدَ الْمُسْتَقِيمِينَ» (3: 32)، وأيضاً في سِـفْر عامـوس النبي: «إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْراً إِلاَّ وَهُـوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ» (عا 3: 7). كما نقرأ في العهد الجديـد في إنجيل القديس مرقس: «فَقَالَ (الرب يسوع) لَهُمْ: ”قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِـرَّ مَلَكُوتِ اللهِ“» (مر 4: 11)، وأيضاً في إنجيل القديس متى: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُـوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ» (مت 13: 11). ويُخاطب بولس الرسول أهـل رومية قائلاً: «وَلِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ، حَسَبَ إِنْجِيلِي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، حَسَبَ إِعْـلاَنِ السِّـرِّ الَّذِي كَـانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَـةِ الأَزَلِيَّـةِ، وَلكِـنْ ظَهَرَ الآنَ...» (رو 16: 26،25).

وبحسب المفهوم القديم لكلمة ”سر“، فإنَّ اللغة التقليدية تقف عاجزة عـن احتواء المعنى والعُمق الحقيقي للكلمـة في إيماننـا المسيحي. فالمفهوم القديم للكلمة ينصـرف إلى الإشارة إلى بعض المعتقدات والمُمارسات السريَّة والرمزية القديمة المُبهَمة لبعض الديانـات القديمـة، والتي يُفهَـم منهـا - بالخطأ عنـد البعض - أنها مُمارسات شكلية، يقوم بها (الكاهن) أو خادم السر، لإعطاء نوعاً مـن الرهبة والقداسة والغموض لِمَا يعمله، مقابل مَنْحِه لبركاتٍ واستحقاقاتٍ فائقة للمُمارسين لهذه الطقوس، مما يدفع أذهان الكثيرين إلى فَهْم ”السر“ على أنـه نوعٌ مـن أنواع ”التعاويذ“ أو ”السِّحْر“. وهـذا يُفرِّغ السر المسيحي من معناه الحقيقي والروحي العميـق، وقيمتـه في الإيمان المسيحي(1).

المعنى الإنجيلي للسرِّ في الإيمان المسيحي:

كلمة ”سر“ أو ”أسرار“، إذن، لا تعني أموراً نُخفيها عـن أعين الناس، كما يتبادَر للبعض؛ بل هي تُشير بالحري إلى أمورٍ أخرى فائقة تَخْفَى عليهم. وصارت ”الأسرار“ في المسيحية، إشارة منظورة لحقائـق إلهية وإيمانية تفـوق إدراكنا البشري.

وباتت كلمة ”السر“، هي التعبير الذي تُطلقه الكنيسة على كـلِّ هـذه الأمور وعلى الحقائـق الإلهية غير المُدرَكـة، التي تختصُّ بجوهـر الله نفسه، وبعمله وتدبيره وملكوته، وإن جاء الإيمان ليُسعفنا قليلاً لفَهم هذه الأمور العالية، ومساعدتنا للدخول في رحاب مضمونها وطيَّاتها؛ لكنها تبقى - بصورةٍ ما – مَخْفيَّة، كظلالٍ لحقائق سامية، لم نَسْبُر أغوارها بعد(2). ولكننا استطعنا أن نتذوَّق عربون إدراكها باستعلان ”سـرِّ التجسُّد“، الذي وَهَبَه الله لنا في ملء الزمان، مِن قِبَل محبته غير المُدرَكة للبشـر. وصـارت المُمارسات الطقسية والروحية التي تُقدِّمها الكنيسة – بالإيمان – هي الوسيلة الملموسة لنقل سـرِّ الله إلينا، حتى أنه يصدُق أن نقول: ”إنَّ أسـرار الكنيسة الآن، هي الإخـراج الروحـي الرائـع لسـرِّ الله، بعين الإيمان“(3).

وقـد دَأَب الله، في مراتٍ عديدة في الكتاب المقدَّس، أن يُسعفنا بتقديـم علاماتٍ ملموسـة ومحسوسة لنا كبشرٍ، لنُدرك ونفهم من خلالها تلك الأمور الفائقة المُختصَّة به، كإله، والتي يصعب علينا فهمها أو إدراكها مُباشرة، وكذلك إعطاء إشارات وعلامات حسيَّة لبعض مواعيده، ليُسهِّل علينا إدراك القصـد منها والاقتراب مـن فَهم معانيها، وبالتالي تعضيد إيماننا الحسِّي الضعيف لإدراكها.

فسـرُّ الثالوث القدوس، وسـر الخَلْق، وسر التجسُّد، وسر الصليب، وسر وحدانية الحب التي تربط أقانيم الله؛ كلها أمورٌ يصعب إدراكها بالعقل الإنساني وحـده، وإنمـا تحتاج لمعونـة ونعمة وإيضاح من الله نفسه لإمكان الاقتراب من فهمها. لـذلك استخدم الله الإشارات والعلامـات الحسيَّة والرمزيـة لتقريب معنى ودلالـة وعُمق هـذه الأسرار إلينا.

ومن أمثلة هذه العلامات، يقول الكتاب المقدَّس: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ»، لكنه يقول بعد ذلك: «الاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18)؛ «... أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 11)، ثم يقول: «وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ» (لو 2: 12)؛ «لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خر 33: 20)، ثم يقـول: «الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ» (كو 1: 15)، «اَلَّذِي رَآنِي فَقَـدْ رَأَى الآبَ» (يو 14: 9).

وغير ذلك، الكثير مـن الأمـور والعهود التي قطعها الله مـع إبراهيم، ونوح، وموسى، وحزقيَّا الملك، وغيرهم. وقـدَّم الله لهم فيها علامـاتٍ ملموسـة، في السموات والطبيعة، وفي الظهورات والنار وفي الذبائح وعبور البحر وغيرها، لإعانتهم على فهمها، وتصديقها وتقوية إيمانهم بالله مُعطيها وقدرته اللانهائية.

فالله من أجل محبته لنا، أعطانا علاماتٍ وأدوات ومُمارسات، بها نستطيع أن نُدرك بذهننا وفهمنا المتواضع، أعماق مقاصد الله، ونَفُكُّ - ولو بقليل - شفْرات أسـرار الله ومحبته غير الموصوفـة لنا، والتي من قِبَل تجسُّد كلمته وخلاصه الذي أكمله لنا. فقد أودعها كميراثٍ حيٍّ نغتذي به إلى نهاية الدهور، في أسراره المقدَّسة في الكنيسة، لكي بواسطة روح الله القدوس، يستمر عمل المسيح معنا إلى نهايـة الأيام. ويبرز لنا هنا قـول بولس الرسول: «اللهُ، بَعْدَمَا كَلَّمَ الآبَـاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْـوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هـذِهِ الأَيَّـامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِـهِ» (عب 1: 1).

السرُّ المكتوم واستعلانه:

يُحدِّثنا الإنجيل المقدَّس عن ”سرِّ“ الملكوت (مر 4: 11)، ذاك الذي أعطاه الرب لتلاميذه، أي حقيقته العميقة المخفية عـن العالم وعـن الناس الذين لم يقبلوه. وفي نفس السياق، يكتب بولـس الرسـول بالروح عـن السرِّ المكتوم والأزلي (أف 3: 9)، الذي استُعلِن لنا في هذا الزمان. وفي صلاة الرب يسوع الختامية ليلة آلامـه، يُخاطب الآب قائـلاً: «... لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِـمْ» (يـو 17: 26)، وأيضاً: «لِيَكُـونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا» (يو 17: 21).

هـذا السـر المكتوم ليس سوى سـرِّ المحبة الإلهية غير الموصوفـة التي لنا في قلب الآب، وهي بذاتها جوهر الله (المثلث الأقانيم) نفسه، لأن ”الله محبة“ (1يو 4: 8)، وهي المحبة التي بين أقانيم الله الواحد بذاته، والتي يعجز عن وصفها بشر، وأراد الله أن يهبنا إيَّاهـا - على نفس المثال - فدبَّر لنا سر التجسُّد العجيب، لتتدفق لنا من خلاله هذه النعمة والسر المكتوم في قلب الله المُحب. وقـد استعلَن الآب لنا سر الحب المكتوم في شخص ابنه: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16).

وهكذا كرَّس لنا الله، باستعلان سرِّه المكتوم، سـر حبه الإلهي، بتجسُّد ابنه، طريقاً للاتِّحاد به على مثال وحـدة الثالوث نفسه، ولو ”بسرٍّ“ من خلال إيماننا وممارستنا لأسرار الكنيسة، التي هي وسائط وقنوات إدراكنا وتمتُّعنا ببركات ونِعَم سرِّ الله المكتوم والمُستَعلَن - في آنٍ واحد - أي سر المحبة الإلهية التي للثالـوث والمذَّخَرة لنا مـن أجل خلاصنا.

سر التجسُّد (سر إعلان الحب الإلهي)،

هو منبع الأسرار:

يهتف بولـس الرسول ويقـول: «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تي 3: 16). في البدايـة، يلـزم أن نقـول إن سرَّ التجسُّد الإلهي هـو سـرٌّ عظيم، لأنـه بدونـه لا يستقيم إيمـانٌ، ولا تقـوم عقيـدة، ولا تنفـع أي مُمارسة روحيـة أو طقسية؛ بـل إنَّ القديس يوحنا الرسول يؤكِّـد أنَّ بـدون الإيمان بسـرِّ التجسُّد، لا يكـون هناك إيمانٌ بالمـرَّة، حسب قوله: «لأَنَّـهُ قَدْ دَخَـلَ إِلَى الْعَـالَـمِ مُضِلُّـونَ كَـثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُـونَ بِيَسُـوعَ الْمَسِيحِ آتِيـاً فِي الْجَسَدِ. هـذَا هُـوَ الْمُضِـلُّ وَالضِّدُّ لِلْمَسِيحِ» (2يـو 1: 7)، وأيضاً: «وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْـنَ اللهِ قَـدْ جَـاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْـرِفَ الْحَقَّ» (1يو 5: 20)، «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّـهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ» (1يو 4: 2).

ففي سرِّ التجسُّد، إذن، قد استُعلِنَت لنا محبة الله الكائنة في ذاته الإلهية، والتي نوَّه عنها بولس الرسول بأنها السرُّ المكتوم الذي استُعلِن.

وكمـا أنَّ الآب غير المُحْوَى قـد تنـازَل، بالتدبير الإلهي، ليهبنا الخلاص مـن قِبَل تجسُّد الكلمة المُحيي، ودبَّر أن تحتويه الأحشاء البتولية للقديسة العذراء مريم، وأَخَـذ منها جسـداً مُمثِّلاً للبشرية كلها، دون أن يفقد صفة عدم احتوائه في أيِّ مكان؛ هكذا انسحب مفهوم السر (أو الأسرار) على كـلِّ ما يختصُّ بحياة الرب يسوع كلمة الله الظاهر في الجسـد، وعلى كـلِّ أعماله وتعاليمه وفدائه وصَلْبه وموته وقيامته وصعوده، كأحداث خلاصية انتقلت إلينا(4).

وبَدَأت الكنيسة في ممارستها، كامتدادٍ طبيعي لحياة الرب يسوع نفسه في الجسد، وكثمرةٍ من ثمار سرِّ التجسُّد. وصارت الكنيسة، المُمثِّلة لجسد المسيح الحي السـرِّي، مـؤتَمَنة على مُمارستها لجميع المؤمنين، وذلك في صـورة مـا نعرفـه بـ ”الأسـرار الكنسية“، التي هي - كما أسلفنا القول - امتدادٌ لحياة الرب يسوع في الجسد من أجلنا.

فصارت الأسرار الكنسية هي المظهر الحسي الملموس للحقائق الروحية والإيمانية غير المُدرَكة التي وهبها الرب يسوع لنا، لننال بواسطتها نعمة الشركة والتقديس والحياة الجديدة، بمعونة الروح القدس في الكنيسـة، التي وهبها المسيح كرامـة وسلطان تكميلها وإتمامها لكلِّ مَـن يؤمن بتجسُّد ابن الله وفدائه وخلاصه الموهوب لنا إلى نهاية الأيام، حسب وعده: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. آمِينَ» (مت 28: 20).

الكنيسة، إذن، صارت هي المُحتَوَى الشرعي، بـالروح القدس، لحياة المسيح نفسـه، المملوءة أسـراراً، والمنقولة لكـلِّ المؤمنين بـه، عَبْر ممارستهم كل مراحل حياة الرب، على الأرض، مـن: تجسُّده وأعماله وكرازته وموتـه وقيامته؛ وذلك بواسطة مُمارسة أسراره المقدَّسة، بدءاً من إعـلان الإيمان بـه وبتجسُّده، مـن خلال سرِّ المعموديـة، ثم قبـول الروح القدس، وشركـة الاتِّحاد به ونوال الغفران وعربون الحياة الأبدية، مـن خـلال سـرِّ الإفخارستيا وبـاقي الأسرار المقدَّسـة، والتي هي - في الواقـع - الامتداد الطبيعي لسرِّ التجسُّد الإلهي، والاستعلان الظاهر والملموس لسرِّ الله المكتوم، أي سر الحب الإلهي الفائق مـن الله للبشـر، على نفس مثال حـب ووحدانية الثالوث القدوس ذاته.

وصارت الأسـرار المقدَّسة في الكنيسة، نَبْعاً لا يَنْضب للنِّعَم التي يوزِّعها الـروح القدس على كل مَن يُمارسها بإيمانٍ.

وصار الروح القدس نفسه هو المُدبِّر والشاهد والفاعل في هذه الأسرار، ومُقدِّساً لكلِّ مَن يتقدَّم لها بثقـةٍ، مانحـاً المؤمنين بها شركـة التقديس والثبات والنمو في الحياة الجديدة الموهوبة لنا في المسيح يسوع ربنـا، وذلك بقـدر إيماننا وقبولنا الكامل لها، شهادةً على صدق مواعيد الله.

وصـار سلوكنا وشركتنا الدائمـة في هـذه الأسرار واتِّحادنـا معاً ومـع الرب نفسه، شهادةً على تقديسنا وصدق إيماننا بتجسُّد الرب وموتـه وقيامتـه، والثبات فيـه بذبيحـة الإفخارسـتيا، وعربونـاً للشركة معه في عُرْس عشاء الخروف في السماء.


(1) ”إيماننـا المسيحي“، الكتاب الثاني، الراهـب باسيليوس المقاري، ص 413-417.
(2) ”أسرار الكنيسة - دراسات كنسية“ 14، مركز دراسات الآباء، ص 7-10.
(3) ”مدخل إلى أسرار الكنيسة“، الأب كميل حشيمة اليسوعي، ص 5-13.
(4) ”إيماننـا المسيحي“، الكتاب الأول، الـراهب باسيليوس المقاري، ص 297-299.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis