من تاريخ كنيستنا
- 168 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا ديمتريوس الثاني
البطريرك الحادي عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1862 - 1870م)
- 7 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) أراخنة هذا العصر

جندي بك إبراهيم:

+ وُلِدَ سنة 1864م بناحية شندويل (بجرجا)، وبدأ التعلُّم في الكُتَّاب (وهو بمثابة مدرسة لتعليم الطلبة). وقد توفِّي والده، فأرسله عمُّه، حين بلغ الحادية عشرة من عمره، إلى القاهرة ليعيش مع أخيه الكبير خليل بك إبراهيم الذي كان في ذلك الوقت يعمل في دائرة علي باشا شريف، فـأدخله أخوه المدرسة الكبرى. ولمَّا وصـل إلى الصف الأول فيها، رغب في أن يؤلِّف مـع زملائـه جمعية أدبية للمُناظرة والخطابة.

ولكـن ناظـر المدرسة فرج داود خشي أن يؤدِّي تجمُّـع الطلبة إلى التمـرُّد الطارئ، فحـال دون تحقيق هـذه الرغبـة. فـاضطر إلى تَـرْك المدرسة والالتحاق بمدرسة الفريـر المجانية حيث قضى فيها سنة واحدة فقط. وكـان له صديق اسمه الشيخ القناوي - وهـو أحـد مُدرِّسي المدرسـة الكبرى - تمكَّن بواسطته مـن الدخول إلى الأزهر للدراسة فيه باسم ”الشيخ إبراهيم الجندي“.

وقد قضى في الأزهر سنة واحـدة، ثم عُيِّن بوزارة المالية ”تحـت التمريـن“ سنة 1883م. وبعدها بسنة عُيِّن في قلم قضايا الحقَّانية (العدل الآن). ولمَّا تشكَّلت المحاكـم الأهليـة، عُـيِّن مُحْضِراً بمحكمة مصر. فكـان أول مستخدم فيها يبدأ بكتابة المحاضر. وكان القبطي الأرثوذكسي الوحيد في جمعية الاعتدال(1) التي كانت آنذاك تحت رئـاسة الصحفي ”فارس نمر“، كما كانت ميداناً للخطابة والمُناظرة.

وكـان نُظراؤه ومُجادلوه، في أغلب الأحيان، ”أحمد بـك زكي“ سكرتـير مجلس النُّظَّار (أي ”مجلس الوزراء“ الآن)؛ و”الشيخ على يوسـف“ صاحب جريدة ”المؤيِّد“. ولقـد انضمَّ إلى جمعية التوفيق، وحرَّر في جريدتها، كما حرَّر في جريدة مصر بعد ذلك. وانتهى بـه الأمـر إلى تَـرْك الوظيفة الحكومية للتركيز على العمل في جريدة ”الوطن“ التي أصبح رئيس تحريرها(2).

يوسف بك وهبي:

+ وُلِدَ بالقاهرة سنة 1852م، ودخل مدرسة الأقباط الكبرى. وكان ذا قريحة وقَّادة، استطاع بهـا أن يُتقِـن الفرنسية والإنجليزيـة والعلوم الرياضية. فلما تخـرَّج، عُيِّن - تحت التمرين - بقلم الكُتَّاب بوزارة المالية، وأثبت باجتهاده لياقته للتعيين رسمياً. فظلَّ على اجتهاده مِمَّا أوصله أن يكون كاتباً بقلم الترجمة بنظارة الحقَّانية (وزارة العدل الآن) سنة 1875م.

وحينما تألَّفت لجنة للتحقيق عمَّا نُسِبَ إلى العُرابيين مـن عصيان، عُيِّن كـاتب سـر (أي سكرتير) لهـذه اللجنة، فعَمِلَ بنزاهـة واستقامة. ولما انتهى مـن عمله هـذا، نـال البكوية (من الدرجة الثالثة).

وبعد ذلك تألَّفت لجنة لتضع القوانين اللازمة للمحاكم الأهلية، وعُيِّن كاتب سـرِّها أيضاً. وفي الوقت عينه، كُلِّف بترجمة القوانين مـن الفرنسية إلى العربية. فأتمَّ هـذه الترجمة بكـلِّ دقَّة، نال بعدها الرتبة الثانية والنيشان المجيدي من الطبقة الرابعة.

وفي يوليو سنة 1884م، وصـل إلى درجة رئاسة قلم الترجمة بنظارة الحقَّانية (وزارة العدل الآن). وبعد سنة، رُقِّي إلى ناظـر إدارة الأقلام العربية. ويبـدو أن عمله هـذا أرضى الخديوي توفيق، فـأنعم عليه برتبة المُتمايـز الرفيعة. ثم انتدبـه المسئولون بنظارة الحقَّانية سنة 1890م لتفقُّد أعمال المحاكم في الوجه القبلي. فلما عـاد، أبـدى مُلاحظاتـه عمَّا يجب إدخاله عليها مـن الإصـلاحات. ثـم في أواخـر سـنة 1894م، عُـيِّن مُستشـاراً بمحكمـة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية.

وكـان مولعاً بـالبحث والتفتيش في الكُتُب والوقوف على الحقائـق العلمية والأدبية. ونتيجة لأبحاثه الكثيرة، وَضَعَ كتابـاً في شـرح القانون المدني، بالاشتراك مع زميل له اسمه ”شفيق بك منصور“، وآخر في شـرح قانون التجارة مـع زميلٍ ثانٍ هـو ”عزيز بك كحيل“؛ حتى لقد قيل عنه في ختام سيرته: إنه ”دَأَب على خدمة بلادهِ وأميرهِ بصدق الولاء ومتين الوفاء“(3).

الرياضي المُبدع جرجس نشاطي

الباشمهندس لأملاك السكة الحديد:

+ من مواليد الثغر الإسكندري سنة 1853م. وما إن بلغ السابعة مـن عمره حتى أرسله أبواه لتَلقِّي العلم في فرنسا، حيث قضى خمس سنوات، عاد بعدها إلى مدينته، ودخل مدرسة أجنبية لمدَّة ثلاث سنوات. ثم التحق بمدرسة أميرية. وكانت تُجرَى آنـذاك مُسابقات علمية في مختلف المواد الدراسية، فكان يتفوَّق في كلِّ مسابقة.

ثم رأى إسماعيل باشـا إجـراء امتحانٍ عام تحت رئاسة الجنرال ستون الأمريكي، الذي كان رئيس أركان حرب في الحكومة المصرية، فكان جرجس ناجحاً بتفوُّق. والتحق بعد ذلك بالمدارس المصريـة العُليا، مِمَّا أعطته بعدهـا الحكومـة المصرية الشهادات التي تدلُّ على عظيم براعته في العلوم الرياضية والفنون الهندسية. ومِـن ثمَّ عُيِّن مُهندساً في تفتيش عموم الوجه البحري في أواخر سنة 1872م.

ولقـد اسْتَلْفَتْ عمله المُبدع نظـر الخديـوي إسماعيل، فأصدر أمـره بتعيين جرجس مهندساً للسـراي الخديويـة (أي القصر الخديوي) التي أُقيمت في الجزيرة مع الأَمر بأن يكون القائم بأهم الأعمال اللازمة للترعة الإسماعيلية، كـالقناطر والهويسات. ولقد أجمع كـل مَـن اشتغلوا معه، وعلى وجه الخصوص رؤساؤه في العمل، على براعته وحُسن إتمام العمل المُكلَّف به.

وحـدث أن قامت مُشكلة بين كبير كهنة القبط وبين العُمَد والمشايـخ في سندبيس (بالقليوبية). وظلَّت المشكلة سنتين متواليتين، انعقـدت لهـا المجالـس، وتدخَّـل فيها كبار المنطقة، ولكـن المشكلة استمرَّت بدون حلٍّ. وعندما صَدَر أمر عالٍ إلى جرجس بالتوجُّه إلى سندبيس للنظر في هذه القضية التي تعسَّر حلها على كل مَن تدخَّلوا فيها؛ استجاب للأمر، وذهب إلى هذه البلدة ليُحقِّق في أسباب المشكلة التي حـدثت فيها. فلما انتهى من التحقيق، فصَّل دقـائقها للمُتخاصمين، وأَظهَر لكلٍّ مـن الفريقين مـا أصابه ومـا أخطأ فيه، وبالتالي ما يجب عليه تأديته من الحق وما له من حقِّه الشخصي. ومـا زال يحاول مـع الفريقين المُتخاصمين، حتى أقنع كليهما، ووصل بهما إلى التصالُح. فوقَّعا على محضر الصُّلْح على مَرْأَى مـن الجمهور. ونتيجةً لذلك، فقـد امتلأ أولياء الأمور دهشةً لتوصُّله للحلِّ، وقدَّموا له شُكرهم.

ومـن سنة 1880م إلى سنة 1885م، شغل منصب مهندس أشغال رمـل الإسكندريـة، عُيِّن بعدهـا مُفتِّشاً لتنظيم مدينة الإسكندرية. وصَدَر الأمر العالي بأن يعمل أيضاً في مُلاحظة أعمال البناء في قصـر رأس التين وقصر رقم 3 الذي يخصُّ الخديوي توفيق. فأبدى من الكفاءة والتفوُّق في تأدية كـل هـذه الأعمال، مـا جعل رؤساءه يحبُّونه، وبخاصةٍ لأنه جَمَع إلى جانب مقدراتـه العملية الوداعة ومحبة الآخرين؛ بل لقد بلغ به الأُمـر أن عظمت كرامته عند العائلة الخديوية، فاختصَّته بأعمالها.

وزاده هذا التقدير همَّةً ونشاطاً، فأنشأ للأمراء المباني الواسعة الشاهقة، بنفقاتٍ لا تتجاوز النصف ممـا أُنفِق على أمثالها. ثـم عُيِّن في سنة 1889م، مُهندساً في قلم مباني الحكومـة في مصر، وانتقل بعدها إلى مديرية البحيرة، فأجـرى فيها تحسينات كبرى. ثم نُقِلَ مهندساً في بورسعيد سنة 1891م مع ضمِّ الإسماعيلية أيضاً إلى عمله.

وفي أواخـر السنة عينها، أصبح باشمهندساً ومديـراً لأشغال حلوان والجيزة. فـأَوْلَى حلوان عناية خاصة ونسَّق مبانيها وشوارعها ومحـلاَّت مياهها، حتى جعل منها المَشْتَى المُفضَّل للأُمراء وكبار رجال الدولة.

ونتيجةً لعمله الفريد، رُقِّي في أول فبراير سنة 1897م إلى باشمهندس لإدارة أعمال مديريـات المنيا وبني سويف والفيوم. ولكنـه لم يبقَ بهـذه الوظيفة طويـلاً، إذ قـد طلبتـه مصلحة ”السكَّة الحديد“ في أول أغسطس من السنة عينها، ليكون وكيلاً عنها في إدارة أمـلاكها لاستقامته وعفَّته وعلو همَّته ومهارته الفنية الفائقة(4).

لمحة عن مصر في هذه الفترة

+ حينما تسلَّم محمد علي باشا مقاليد الحُكْم، بَدَأ حركة واسعة النطاق للخروج بمصر مـن فوضى الحُكم العثماني (التركي) إلى الاستقرار، ومن ظلمة الاستبداد المُطلق إلى شيءٍ من التعبير الذاتي.

صحيح أن محمد علي نفسه لجأ في كثير من الأحيان إلى البطش، ولكنـه في الوقـت عينـه، وازَنَ بين التحكُّـم الفردي وبين تبـادُل الرأي. والكثيرون يأخـذون عليه مذبحـة المماليك التي كـانت بالفعل عملاً وحشياً. ولكن يجب ألاَّ ننسى أنه أراح مصر من مختلف الشرور والآلام التي كـالَها أولئك المماليك لشعب مصر. إنمـا الذي نأخذه عليه نحن، هـو بطشـه بـالقادة الشعبيين أمثال عمر مكرم، الذين كانوا له في البداية القوَّة الداعمة لحُكمه. فلمـا أحـسَّ بأنـه لم يَعُـد في حاجـةٍ إلى تـدعيمهم إيَّـاه، استغنى عنهم بشتَّى الوسائل. على أنـه، رغم هذا، يجب الإقرار بأن محمد علي هـو الذي وَضَعَ مصر على طريـق التقدُّم العصري.

+ أمَّا ابنـه إبراهيم باشا، فقـد شاد لمصر أمجاداً حربية عُظمى، ولكنه لم يحكُم غير بضعة شهور خلال السنوات الأخيرة من حُكم أبيه. ولن نستطيع، بحالٍ ما، أن نتكهن بما كان يمكن أن يعمله لمصر لو امتدَّ به الأَجل. ولكننا نعرف أنه كثيراً ما تفاخَر بأنه مصري، كما أنه كان يُقرِّب إليه المصريين.

+ ثم حَكَم عباس الأول، فكان غشوماً وأهمل الكثير مـن المدارس والمُنشآت التي تباهَى بهـا محمد علي. ومـن حُسن الحظ أنَّ حُكْمه كـان قصيراً. فلما خَلَفه سعيد باشا، بالَـغ في تشجيع الأوربيين، فأتاح أمامهم الفرصة لاستغلال بلادنا بكل معاني الاستغلال، لأنهم - حتى الذين فتحوا المدارس ونشروا العلم - قـد افتروا على عزَّتنا القومية وأوهنوا مـن وطنيتنا. والأدهى من هذا، أنهم أدخلوا الكثير مـن البلبلة والشكِّ في العقيدة الأرثوذكسية، وساهموا في تفتيت الروابط العائلية خلال الاختلافات المذهبية التي تسرَّبت منهم إلى بعض أفراد هذه العائلات. ثم إنَّ سعيد باشا هـو الذي مَنَحَ ديليسبس امتياز قناة السويس بشـروطٍ غايـة في الجور. ولكـن إسماعيل باشا نجح في تخفيفها إلى حدٍّ بعيد(5).

(يتبع)

(1) هي جمعية أسَّسها المرسلون الأمريكيون، وتستهدف مَنْع المسكرات؛ عـن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطية“، لإيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 388.
(2) ”مشاهير الأقباط في القرن التاسع عشر“، رمزي تادرس، الجزء الثالث، ص 51-53.
(3) كتاب: ”مرآة العصر“، لإلياس زخورة، الجزء الأول، ص 356-359؛ عـن كتاب: ”قصـة الكنيسـة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 389.
(4) كتاب: ”مـرآة العصر“، لإلياس زخورة، الجزء الأول، ص 329-331؛ عـن كتاب: ”قصـة الكنيسـة القبطية“، إيـريس حبيب المصـري، الكتاب الرابـع، ص 389-391.
(5) عـن كتاب: ”قصـة الكنيسة القبطية“، إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 392.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis