طعام الأقوياء
- 114 -



أقامنا معه، وأجلسنا معه
في السماويَّات في المسيح يسوع
(أف 2: 6)



يقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في القداس الغريغوري: ”أنت، يا سيدي، حوَّلتَ لي العقوبة خلاصًا“.

ما أعجب هذه المحبة التي حوَّلَت لي العقوبة خلاصًا!! لقد ذُهِلَ من عمقها واتساعها وطولها وعرضها القديس غريغوريوس في نفس هذا القداس وقال عنها: ”ليس شيءٌ من النطق يستطيع أن يَحُدَّ لُجَّة محبتك للبشر“.

وكذا القديس يوحنا الرسول يقول عن هذه المحبة اللانهائية: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون لي الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

كما قال أيضًا عنها عندما تكلَّم عن ساعة انتقال الرب من العالم حينما حانت: «أمَّا يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالمٌ أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ خاصَّته الذين في العالم، أحبَّهم إلى ال‍مُنتهى» (يو 13: 1).

كما أنه من شدَّة انذهاله لمحبة الآب لنا قال: «انظُروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعَى أولاد الله» (1يو 3: 1).

لقد كان الموت مصيرنا حينما أخطأ آدم أبونا وورَّثنا الموت. ولكن الرب بمحبته الفائقة دبَّر لنا خطَّةً، دفع هو كل تكاليفها بذَوقه الموت عنَّا ومعنا ولأجلنا، لكي يُخلِّصنا من الموت الأبدي ويهبنا الحياة الأبدية. أمَّا هذه الخطة فهي ما عبَّر عنها بولس الرسول باختصار شديد:

+ «الذي إذ كان في صورة الله، لم يَحْسِب خُلْسة أن يكون مُعادِلًا لله. لكنه أخلى نفسه، آخِذًا صورة عبد، صائرًا في شِبْه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان، وَضَعَ نفسه وأطاع حتى الموت، موتَ الصليب. لذلك رَفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض، ويعترف كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب» (في 2: 6-11).

وهكذا حوَّل لنا الرب العقوبة خلاصًا.

لقد كان الموت، وما زال، في نظر الكثيرين، طريقًا مُظلمًا يخافه كل إنسان ويرتعب من مجرد ذِكْره؛ ولكن لما تجسَّد الرب وأَخذ طبيعتنا، واشترك في اللحم والدم مثلنا، أباد بموته ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، وأعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية (عب 2: 15،14).

فالمسيح بموته وقيامته «أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود» (2تي 1: 10). وهو لم يفعل ذلك لنفسه بل لنا، لأنه لم يكن ممكنًا أن يُمسَك من الموت لأنه هو الحياة: «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25). وكما شهد هو أيضًا عن نفسه: «أنا هـو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6). وهو ل‍مَّا تجسَّد، ”أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له“ (ثيئوطوكية يوم الجمعة).

أَخَذَ جسدنا لكي يُجدِّد خلقتنا:

وفي ذلك يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[لقد أخذ لنفسه جسدًا بشريًّا مخلوقًا، لكي يُجدِّده بصفته هو خالقه، فيؤلِّهه لنفسه، وبذلك يقودنا نحن جميعًا إلى ملكوت السموات بمشابهة ذلك الجسد.

فما كان الإنسان يتألَّه لو كان اتَّحد بمخلوق، أي لو لم يكن الابن إلهًا حقًّا؛ وما كان الإنسان يدخل إلى حضرة الآب، لو لم يكن الذي لَبِسَ الجسد، هو كلمة الآب الحقيقي بالطبيعة.

فكما أننا ما كنَّا نتحرَّر من الخطية واللعنة لو لم يكن الجسد الذي لَبِسَه الكلمة جسدًا بشريًّا بحسب الطبيعة، لأنه إن كان غريبًا عنَّا لا يكون شيء مشتركًا بيننا وبينه؛ هكذا ما كان الإنسان يتألَّه لو لم يكن الكلمة الصائر جسدًا هو كلمة الآب الخصوصي الحقيقي بحسب الطبيعة. لأجل ذلك قد صار مثل هذا الاتحاد، لكي يُوحِّد بالذي له طبيعة اللاهوت، ذلك الذي بطبيعته مجرد إنسان، فيصير خلاصه وتأليهه مضمونين](1).

فبداية خطة الله في تدبير خلاصنا هو التجسُّد. لأن الرب بتجسُّده استطاع أن ينسب لنفسه كل ضعفات الجسد دون أن يخضع لها أو يُغلب منها. وهكذا أمكنه أن يستأصلها منَّا لحسابنا ويُعطينا سرَّ الغلبة عليها إذا ثبتنا فيه وهو فينا.

لذلك نجده يُشبِّه نفسه بالكرمة الحقيقية ونحن الأغصان، ويُنبِّهنا قائلًا: «كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر يُنقِّيه ليأتي بثمر أكثر» (يو 15: 2). ثم يعود فيؤكِّد: «أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير. لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا» (يو 15: 5).

فالرب هو عصارة الحياة الحقيقية فينا، وعلاقتنا به هي علاقة حميمية مثل الدم الذي يجري في عروق الجسد الواحد. لأنه كما أنَّ عصارة الشجرة إذا تعثَّر وصولها إلى غصن من الأغصان، ذبل الغصن وجفَّ ولا يمكن أن يُعطي ثمرًا، ومآله السقوط والموت؛ هكذا أي عضو في الجسد إذا لم يصله الدم، أصابه الشلل وتعرَّض للموت.

أما إذا ثبتنا فيه وهو فينا، ودبَّت فينا حياته الإلهية، فسوف ينطبق علينا قول القديس أثناسيوس الرسولي:

[فإنَّ البشر لا يعودون فيما بعد خطاةً ومائتين بحسب أوجاعهم الخاصة، ولكنهم يقومون بقوة اللوغوس ويبقون إلى الأبد غير مائتين وعديمي الفساد!](2).

حلَّ عليه الروح القدس

لكي يحلَّ علينا ويسكن فينا:

عندما خلق الله الإنسان «نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حيَّة» (تك 2: 7). ولكن لمَّا تهاون آدم في حفظ الوصية ال‍مُعطاة له، لم يجد الروح راحة في جنس البشر، حتى أنَّ الرب قال عنهم في أيام نوح: «لا يلبث روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر» (تك 6: 3).

لذلك تنازَل ابن الله الكلمة بمحبته للبشر وصار إنسانًا، دون أن يتحوَّل عن كونه إلهًا. ولما أزف الوقت لكي يبدأ الرب خدمته حسب التدبير، جاء إلى يوحنا المعمدان ليعتمد منه في نهر الأردن: «وشهد يوحنا قائلًا: إني قد رأيتُ الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقرَّ عليه. وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومُستقرًّا عليه، فهذا هو الذي يُعمِّد بالروح القدس. وأنا قد رأيتُ وشهدتُ أنَّ هذا هو ابن الله» (يو 1: 32-34).

فإن كان الذي تَقبَّل الروح القدس، عندما تعمَّد بالماء من يوحنا المعمدان، هو نفسه الذي سيُعمِّد بالروح القدس، فمِن البديهي أن يكون قد قَبِلَ الروح ليس لنفسه، بل بالحري لنا نحن الكائنين فيه لكونه قد اتَّحد بنا ولَبِسَ طبيعتنا. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[إنَّ المسيح لم يقبل الروح لنفسه هو، بل بالحري لنا نحن فيه، لأن جميع الخيرات إنما تتدفَّق فينا نحن أيضًا بواسطته. فنظرًا لأن آدم أبانا الأول ل‍مَّا تحوَّل بالغواية إلى المعصية والخطية لم يحفظ نعمة الروح، وبذلك فقدت أيضًا الطبيعة كلها فيه عطية الله الصالحة، فكان لابد أن الله الكلمة الذي لا يعرف التغيير يصير إنسانًا، لكي إذ يقبل العطية بصفته إنسانًا يحتفظ بها على الدوام لطبيعتنا...](3).

تحمَّل الآلامَ والموتَ عنَّا

لكي يهبنا الخلاص والقيامة:

يقول القديس كيرلس الكبير أيضًا:

[إنَّ الكلمة، الابن الوحيد، اقتنى لنفسه خاصةً الجسد الترابي... وماذا كانت غايته من ذلك؟ أن يُميت الخطية في الجسد ويُخمِد شوكة الغرائز المنغرسة فيه التي كانت تدفع الجسد نحو الشهوات المعيبة. ولم يُحقِّق ذلك - أعني التفوُّق على الأوجاع التي فينا - لمنفعته الشخصية بصفته الله الكلمة، إذ أنه هو لم يعرف خطية؛ بل بالحري كمَن يُعيد تشكيل طبيعة الإنسان كلها من الأساس، في نفسه، إلى حياة مُقدَّسة وبلا لوم، ل‍مَّا صار إنسانًا وظهر في الهيئة مثلنا.

فقد صار «متقدِّمًا في كـل شيء» (كو 1: 18)، حتى أننا نحن أيضًا حينما نتبع خطواته، ننال في أنفسنا ”إماتته“ أي اضمحلال قوة الخطية من أجسادنا؛ وهكذا نتمكَّن بواسطته أن نرتقي إلى الحياة التي بلا لوم](4).

هنا يشرح لنا القديس كيرلس الكبير، كيف أنَّ الإله المتجسِّد اقتنى لنفسه جسدًا ترابيًّا كجسدنا لكي يتألَّم بما نتألَّم به ويتجرَّب بما نتجرَّب به؛ أي أنه لا يعرف هذه الآلام كإله فقط، بل يعرفها أيضًا كإنسان، لكي كما يقول بولس الرسول: «لأنه في ما هو قد تألَّم مُجرَّبًا يقدر أن يعين المجرَّبين» (عب 2: 18). وإن كان الله بالطبع لا يتأثر بشيء، إلاَّ أن بولس الرسول يُشير هنا إلى آلام الرب التي عاناها بالجسد وتغلَّب عليها، وأعطانا قوة النصرة عليها في أجسادنا.

وهذا ما قاله بطرس الرسول: «فإذ قد تألَّم المسيح لأجلنا بالجسد، تسلَّحوا أنتم أيضًا بهذه النية. فإن مَن تألَّم في الجسد، كُفَّ عن الخطية» (1بط 4: 1).

كما أوضح بطرس الرسول: «إنَّ المسيح أيضًا تألَّم لأجلنا، تاركًا لنا مثالًا لكي تَتَّبعوا خُطُواته» (1بط 2: 21)، ثم أكمل قائلًا:

+ «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتم عِوَضًا، وإذ تألَّم لم يكن يُهدِّد بـل كان يُسلِّم ل‍مَنْ يقضي بعدلٍ. الذي حَمَلَ هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرِّ» (1بط 2: 24،23).

أما عن آلام الموت فقال: «فإنَّ المسيح أيضًا تألَّم مرة واحدة من أجل خطايانا، البارُّ من أجل الأَثَمَة، لكي يُقرِّبنا إلى الله، مُماتًا في الجسد ولكن مُحْيىً في الروح» (1بط 3: 18).

فالرب قد ذاق الموت بالجسد، ولكنه كان حيًّا بروحه، فقتل وهدم الموت بموته وأظهر القيامة بقيامتـه. وإذ كنَّا فيه «فدُفِنَّا معه بـالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدَّة الحياة. لأنه إنْ كنَّا قد صرنا متَّحدين معه بشِبْه موته، نصير أيضًا بقيامته. عالمين هذا: أنَّ إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسدُ الخطية، كي لا نعود نُستَعبَد أيضًا للخطية» (رو 6: 4-6).

(يتبع)

__________________________________________

(1) ضد الأريوسيين 2: 70 (PG 26,296).

(2) ضد الأريوسيين 3: 32 (PG 26,393).

(3) تفسير إنجيل يوحنا 7: 39 (PG 73,753-756).

(4) تفسير كورنثوس الثانية 4: 10 (PG 74,936).

*********************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات ال‍مُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع الميرغني

*********************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis