من تاريخ كنيستنا
- 186 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا يوأنس التاسع عشر
البطريرك الثالث عشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1928 م - 1942 م)
- 2 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)


استكمالًا لما كتبناه في (عدد أبريل 2021):

البابا يوأنس التاسع عشر - البطريرك الـ 113

في عداد بطاركة الكرسي السكندري:

وُلِد الطفل بخيت سيداروس بقرية دير تاسا التابعة لمركز البداري بمديرية أسيوط يوم 6 يناير عام 1855م. ربَّاه والداه تربية مسيحية، فنشأ محبًّا للكنيسة. ومثل كل أبناء جيله تعلَّم بكُتَّاب القرية، وبعد ذلك عمل مع أبيه في فلاحة الأرض. ولمَّا بلغ السابعة عشر من عمره تاقت نفسه إلى الحياة الرهبانية، فقصد إلى دير المحرق القريب من بلدته. لكن تعرَّض لملاحقة أهله مما اضطره لترك الدير والعودة لمنزله. لكن بعد فترة كان حنينه للرهبنة قويًّا فترك بلدته وذهب إلى القاهرة دون علم أحد، وتوجَّه إلى بلدة طوخ النصارى حيث كان رئيس دير السيدة العذراء البرموس فوجَّهه إلى الدير بوادي النطرون، كان ذلك في شهر برمودة سنة 1591 للشهداء الموافق عام 1875 م. واستقبله الأب الفاضل الشيخ الضرير عوض البرهيمي المعروف بنسكه وحنانه، وحسن رعايته وحكمته الروحية في توجيه الرهبان الجُدد. كما أنه أيضًا كان محظوظًا لوجود الشيخ الراهب عبد المسيح المسعودي الكبير، ”أبي رهبان دير السيدة العذراء البرموس“ المعروف بعلمه وخبرته الروحية وتوجيهاته الثمينة للرهبان. وبعد أن قضى بخيت فترة الاختبار الرهباني علي الوجه الأكمل، تمَّت رهبنته باسم يوحنا يوم 3 كيهك عام 1592 للشهداء الموافق عام 1876 م.

ومنذ أن لبس يوحنا ثوب الرهبنة درَّب نفسه على الطاعة وخدمة الآخرين، خصوصًا الشيوخ والمرضى. وكان محبًّا للعبادة، نشيطًا في العمل، فصار محبوبًا من الجميع لتواضعه الجم. وفي أوقات فراغه كان يُشغل نفسه بنسخ ميامر الشيخ الروحاني. وكان يختلي في غرفة صغيرة بأعلى سور الدير تُعرف بالمطعمة. وفي مرة بينما كان بها يرتِّل المزامير وإذ بصوت مزعج ينبعث من خلفه كأنه صوت امرأة. ولمَّا لم يجد حوله أحدًا رسم نفسه بعلامة الصليب، وأسرع نحو مرشده الروحي، الذي نصحه أن يثابر على الصلاة وألَّا يخاف من زمجرة إبليس الغاضب من صوت التسبيح.

ونظرًا لِمَا اتصف به من حدَّة الذهن والذكاء مع التواضع الجم والعبادة الحارة، فقد استقر رأي الآباء علي تزكيته للكهنوت. وقام قداسة البابا كيرلس الخامس البطريرك برسامته قسًّا بنفسه في عام 1877 م. ولما رُسِم الراهب ميساك رئيس الدير أسقفًا على منفلوط باسم الأنبا بطرس، استدعى البابا الراهب يوحنا وشرطنه قمصًا وعينه رئيسًا للدير خلفًا للراهب ميساك، وذلك في عام 1878 م. فبذل كل جهده في خدمة الدير ورهبانه بطهارة وبر. واستمر في رئاسة الدير عشر سنوات كان فيها مثالًا لحسن التدبير والحزم والأمانة وطهارة السيرة مع محبة العبادة والتقوى.

الأنبا يوأنس المطران:

وعندما خلى كرسي إيبارشية البحيرة بوفاة الأنبا مرقس رشحه الشعب لهذا الكرسي, لكنه كان يرفض. إلَّا أنَّ قداسة البابا الأنبا كيرلس الخامس أقنعه بأهمية الخدمة وقام برسامته مطرانًا في يوم الأحد 13 مارس 1887 م. باسم الأنبا يوأنس. وأضاف إليه مسئولية الإشراف على ديري البرموس والأنبا بيشوي، كما عيَّنه وكيلًا للكرازة المرقسية فيكون مقره بالإسكندرية. ثم عهد إليه البابا بافتقاد شعب المنوفية عند مرض مطرانهم العالِم الجليل الأنبا يوأنس الذي فقد بصره وساءت حالته الصحية، فقام بخدمة شعب المنوفية بكل نشاط ومحبة. وبعد أن تنيح المطران الضرير تقدَّم أراخنة المنوفية للبابا بطلب ضم إيبارشيتهم لكرسي البحيرة حتى لا يُحرموا من استمرار خدمات المطران الذي يعرف احتياجاتهم وكان يسهر دائمًا على راحة الجميع. فوافق البابا على طلب شعب المنوفية ليتولى رعايتهم، فضُمَّت إليه في عام 1894 م. فأصبح مطرانًا للبحيرة والمنوفية ووكيلًا للكرازة المرقسية.

الوضع الكنسي لمدينة الإسكندرية:

مدينة الإسكندرية تُعتبر المقر الرسمي لكنيسة الإسكندرية العتيدة. وبعد أن صارت القاهرة هي عاصمة مصر والمقر الرسمي للحكومة، حتَّم ذلك أن ينتقل المقر البابوي إلى العاصمة. لذلك قام البابا خريستوذولوس البابا 66 بنقل مقر البطريرك إلى القاهرة، وذلك في منتصف القرن الحادي عشر. لمَّا كان البابا هو أسقف الإسكندرية فلا يجوز رسامة أسقفًا آخر عليها طبقًا للبند السادس من قوانين مجمع نيقية المسكوني. منذ ذلك الوقت اعتاد بعض باباوات الإسكندرية تكليف أحد الأساقفة للإشراف الرعوي على مدينة الإسكندرية دون أن يكون في نص رسامته لقب أسقف الإسكندرية حتى لا يُعتبر أنه هو البطريرك. لذلك قام البابا كيرلس الخامس بتعيين الأنبا يوأنس وكيلًا للكرازة المرقسية. بعض البطاركة كانوا يكتفون بتعيين قمصًا للعمل كوكيل للكرازة بالإسكندرية، لينوب عن البابا في خدمة ورعاية شعب الإسكندرية، ومِثْل ذلك أن البابا يوساب عيَّن القمص متَّى المسكين في ذلك المنصب.

مآثر وأعمال الأنبا يوأنس المطران:

لمَّا كانت الإسكندرية هي مقر كرسيه، قام بتجديد أثاث الكاتدرائية. كما أنشأ بها مدرسة لاهوتية لتعليم الرهبان، وأرسل من طلبتها بعثة إلى أثينا للاستزادة من دراسة العلوم اللاهوتية. واهتم بأوقاف البطريركية في الإسكندرية حيث كانت الإيرادات ضئيلة جدًّا حين تسلَّمها، لكن بحسن تصرفه كان الإيراد يزداد سنة بعد أخرى، لِمَا شيَّده من عمارات شاهقة وما جدَّده من المباني القديمة فتضاعف الإيراد لعشرة أضعاف ما كان عليه.

وبعد أن نظَّم الأنبا يوأنس النواحي المالية في الكنيسة اتجه للتعليم، إذ يرجع له الفضل الأكبر في النهوض بالمدارس، فأنشأ المدرسة المرقسية الثانوية، كما أنشأ مدرستين ابتدائية واحدة للبنين وأخرى للبنات. وارتقى بمستواهم التعليمي والتربوي، حتى بلغت في قسميها الابتدائي والثانوي إلى أرقى مستوى تعليمي.

بالرغم من التوسع العمراني الكبير بمدينة الإسكندرية وبالرغم من كثرة المسيحيين الأقباط بها، لم يكن بمدينة الإسكندرية كلها سوى كنيسة واحدة هي الكنيسة المرقسية! حيث كان يصعب جدًّا الحصول على تصاريح لبناء كنيسة. ولقد استطاع الأنبا يوأنس الحصول على تصاريح لبناء كنيستين بالإسكندرية. الأولى كنيسة السيدة العذراء بمحرم بك وقد اكتمل البناء في عام 1935 بعدما غادر الأنبا يوأنس الإسكندرية. الكنيسة الثانية باسم مار مينا أقامها على أرض كبيرة من أوقاف الكنيسة بشارع الحرية بالرمل، حيث أقام بالأرض عمارة كبيرة، ليغطي ريعها مصاريف الكنيسة من مرتبات وغير ذلك (مع اعتبار اختلاف القياسات المالية لذلك الوقت).

كما قام الأنبا يوأنس بإنشاء عدَّة كنائس في مدن وقرى مديريات البحيرة والمنوفية وتجديد بعض الكنائس القديمة، إذ كانت الكنائس قليلة جدًّا ومتباعدة حيث كانت هناك مناطق ريفية شاسعة لا توجد بها كنيسة، مما يعوق توفير الخدمات الكنسية للمسيحيين بتلك المناطق من تعليم وعبادة لليتورجية. فكان عمله في توفير الكنائس ضروري.

وأيضا وجَّه الأنبا يوأنس عناية كبيرة بأديرة وادي النطرون ضمن خدمته كأسقف، إذ كان مكلَّفًا بالإشراف عليها فارتقت شؤونها بحسن إشرافه ورعايته لها. ولقد أولى اهتمامًا خاصًا لدير البرموس الذي نشأ فيه.

نياحة البابا كيرلس الخامس

واختيار الأنبا يوأنس قائم مقام البطريرك:

قضى الأنبا يوأنس في خدمة المطرانية اثنين وأربعين عامًا حفلت بجلائل الأعمال. ولما تنيَّح البابا الجليل طيب الذكر الأنبا كيرلس الخامس يوم 7 أغسطس سنة 1927 م. اجتمع المجمع المقدَّس يوم 10 أغسطس عام 1927 م. واستقر الرأي على اختيار الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية، قائم مقام البطريرك لإدارة شئون الكنيسة لحين رسامة بطريرك. وعلى أثر ذلك بدأ القيام بمهام الشئون الكنسية المرقسية بحسن تدبيره. وخلال تلك الفترة أصدر المجمع الإكليريكي برياسته قانونًا لتنظيم شئون الأديرة والرهبان.

ولمَّا كان الخلاف شديدًا حول إدارة الأوقاف القبطية بين رؤساء الأديرة والمجلس الملي، وطال النزاع دون حل، قام الأنبا يوأنس بجمع طرفي النزاع يوم 5 نوفمبر عام 1928، واقترح تأليف لجنة مشتركة برئاسة أحد المطارنة وعضوية اثنين من المطارنة وأربعة من أعضاء المجلس الملي لمراجعة حسابات أوقاف الأديرة. وبنعمة الله اتفق الجميع على رأيه بهدوء.

ولبث الأنبا يوأنس قائمًا بأعمال البطريركية لمدة سنة واحدة وأربعة أشهر وعشرة أيام في أثنائها تولى شئون الكرازة بحكمة بتدبير وإرشاد الروح القدس.

***

المراجع:

- ”قصة الكنيسة القبطية“ ج 6 - إيريس حبيب المصري.

- سلسلة ”تاريخ البطاركة“ ج 3 - كامل صالح نخلة.

- كتاب ”سقوط الجبابرة أو شهوة البطريركية“، بقلم الأستاذ بشارة بسطوروس.

(يتبع)

م. فؤاد نجيب يوسف

_
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis