مفاهيم كنسية



الخدمة الاجتماعية من منظور مسيحي
- 4 -
الكنيسة والخدمة الاجتماعية المسيحية (2)


* تعدد ميادين الخدمة الاجتماعية المسيحية:

كان الاهتمام الأول للكنيسة في العمل الاجتماعي هو مساعدة الفقراء أو المحتاجين، فقد وضعهم الرب في أول قائمة إخوته الأصاغر، الجوعى والعطاش (مت 25: 35)، ذلك أن الفقر هو الحلقة الأولى من سلسلة آلام الإنسان ومنه تتداعى سائر منغصات الحياة المدمِّرة لإنسانية الإنسان وبينها المرض والجهل والتشرُّد والحرمان من المأوى والانزلاق إلى بيع الجسد وحتى إلى الجريمة فالعقاب والسجون.

وظلَّت الكنيسة على رعايتها للفقراء ولكن بمضي الزمن وانتشار الإيمان في العالم امتدَّت خدمتها إلى مجالات أخرى، وإن لم تغفلها آيات الإنجيل من قبل، تُعبِّر بها بصورة عملية عن صدق إيمانها ومحبتها والإحساس بوحدة المؤمنين في جسد المسيح.

+ وفي القرون الأولى، حيث لم تكن قد توفرت بعد وسائل الانتقال الآلية، كان السفر من مكان إلى آخر يستغرق طويلًا، وقد يميل النهار، والمسافر يدركه التعب، ولم يصل بعد إلى غايته، وقد لا يتوفر فندق أو بيت على الطريق، أو قد لا يملك المسافر ما يقدِّمه مقابل المبيت((1). وقد يتعرَّض العابر بين المدن إلى قطَّاع الطرق (كما جرى للشاب الذي كان نازلًا من أورشليم إلى أريحا في المثل الشهير). من هنا حثَّت الكنيسة (استجابةً لوصية المسيح «كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي» (مت 25: 35) على ضيافة الغرباء((2): «عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ» (رو 12: 13). كما كتب معلِّمنا القديس بولس أيضًا في بَرَكَة هذه الفضيلة: «لاَ تَنْسُوا إِضَافَةَ الْغُرَبَاءِ، لأَنْ بِهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلاَئِكَةً وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ» (عب 13: 2)، مذكِّرًا بضيافة أبينا إبراهيم لثلاثة رجال كانوا في حقيقتهم الرب وملاكين (تك 18: 1 – 8)، وضيافة لوط للملاكين في سدوم (تك 19: 1 – 3).

+ وحرص الرسول بولس في معظم رسائله على الحث على إضافة الغرباء(3)، خاصة أن كثيرين كانوا يستضيفونه هو ومعاونيه. فهو لا ينسى عند دخوله فيليبي وهي أول مدينة أوروبية يبشرها بالمسيح، أن ليديا بائعة الأرجوان، لما فتح الرب قلبها وآمنت، ألزمته هو وسيلا أن يمكثا في بيتها، كما أنهما نزلا في بيتها بعد خروجهما من السجن (أع 16: 14، 15، 40). وفيما بعد ذكر في رسائله ممن استضافوه: أكيلا وبريسكيلا (رو 16: 3؛ 1كو 16: 19؛ 2تي 4: 19) اللذين استضافاه في كورنثوس (أع 18: 3)، وأونيسيفورس (2تي 1: 16 – 18، 4: 19)، وغايس (رو 16: 3)، وفيبي (رو 16: 1 و2)، ويحمل سلامهم أو يرسل لهم السلام.

+ وإذا كان القديس بولس في ذكره لمؤهلات الأسقف ”أن يكون مضيفًا للغرباء“ (1تي 3: 2؛ 2تي 1: 8) فقد صار هذا العمل الروحي قانونًا ساريًا فيما بعد في مقارّ البطريرك والأسقفيات والأديرة في أنحاء مصر، بحيث تضم أماكن لضيافة الزائرين والغرباء تُقدَّم فيها المودَّة والطعام والمبيت طاعة لأمر الرب.

+ بمضي الزمن أخذت الخدمة الاجتماعية تنمو وتتطوَّر ضمن العمل الروحي للكنيسة والمؤمنين. فخدمة الموائد في الكنيسة الأولى تحوَّلت فيما بعد إلى موائد أو ولائم الأغابي (المحبة Love feasts‍) في كل الكنائس عقب القداس، حيث يأتي المؤمنون من أماكن بعيدة ويشترك الكل مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون في إعداد الطعام وخدمة الجميع وتناول الطعام معًا بابتهاج وبساطة قلب.

+ ودعوة الكتاب ”لافتقاد الأيتام“ (يع 1: 27) تحققت في بيوت (ملاجئ) الأيتام حيث تتم رعاية مَنْ فقدوا والديهم، أو عجزت أسرهم عن الإنفاق عليهم، بتوفير إقامتهم وطعامهم وتعليمهم وتربيتهم روحيًّا مع الإشراف الصحي والنفسي عليهم حتى يشبوا عن الطوق ويتأهَّلوا للاعتماد على أنفسهم. وهناك أيضًا دور لرعاية اللقطاء الذين لا يُعرَف نسبهم أو الذين شردتهم الحروب وفقدوا ذويهم. ويُتاح تبنِّي هؤلاء حيث يعيشون ضمن عائلات كأولادهم ويحملون اسمهم. وكثيرون من هؤلاء تغيَّرت حياتهم تمامًا وصاروا عناصر ناجحة في المجتمع. وبعضهم تولَّى أرفع المناصب(4).

ولا ننسى أن الرب احتضن الصغار ووضع يده عليهم وباركهم وقال: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ» (مت 19: 14 و15؛ مر 10: 14، 16؛ لو 18: 16). وحذَّر من استصغار شأنهم قائلًا: «لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» (مت 18: 10).

+ يأتي في هذا السياق أيضًا دور الإيواء لرعاية المشرَّدين الذين يفتقدون المأوى Homeless بما يقيم أودهم ويعالج أمراضهم ويحفظ لهم إنسانيتهم كخليقة الله؛ ورعاية المساجين روحيًّا وعمل القداسات لهم ودعمهم إلى أن يعبروا محنتهم.

+ ونضيف إلى ما سبق بيوت المسنين Senior Homes (وكانت تُعرف في القديم بملاجئ العجزة) للرجال والنساء الذين يعانون من الشيخوخة ويفتقدون مَنْ يتولَّى رعايتهم، وتكاد لا تخلو كنيسة كبيرة من واحد منها في مبنى خدماتها. وفي فجر الكنيسة أوصى معلِّمنا بولس تلميذه تيموثاوس أن يعامل «الْعَجَائِزَ كَأُمَّهَاتٍ» (1تي 5: 2)، كما كان يفعل هو فيكتب: «سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ، وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي» (رو 16: 13).

+ اهتمت الكنيسة ومؤسَّسات الخدمة الاجتماعية أيضًا بعلاج المرضى فأنشأت العيادات بل أقامت أيضًا المستشفيات الكبيرة، والتي يتطوَّع للعمل بها الأطباء من أعضاء الكنيسة، مما خفَّف عبء العلاج على الطبقات الفقيرة(5). ومؤخرًا وجهت الكنيسة اهتمامًا خاصة لعلاج المدمنين والمرضى النفسيين.

+ ثم كان الاهتمام أيضًا بمن فقدوا البصر (وغيرهم من ذوي العاهات كالصم والبُكم) والمعاقين ذهنيًّا وذوي الاحتياجات الخاصة، بما يجعل الحياة عبئًا عسير الاحتمال، وكانت رعاية المكفوفين بالذات تكشف عن مواهبهم التي عوَّضهم بها الله عمَّا فقدوه. وفي قرانا كان التدرُّب على حفظ الألحان الكنسية للصغار الموهوبين أحد الأبواب للانطلاق وخدمة الله.

وجدير بالذكر في هذا السياق أن ديديموس (311–396) مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية كان ضريرًا. ويسجِّل له التاريخ أنه اخترع الكتابة بالحروف البارزة للمكفوفين فكان بذلك سابقًا على الفرنسي لويس بريل Louis Braille (1809–1852) بنحو 15 قرنًا. وعلى اسمه تأسَّس في كنيستنا معهد ديديموس لتدريب المكفوفين وغيرهم من الموهوبين على الألحان الكنسية وسائر طقوس الكنيسة واللغة القبطية ودراسة الكتاب المقدَّس لتأهيلهم لقيادة خوارس التسبيح والتدريب على الألحان.

هذا إلى جانب تدريب غيرهم من المكفوفين على بعض الحِرَف والعزف على الآلات الموسيقية (والترتيل بالنسبة للفتيات) بما يكفل لهم ممارسة حياتهم والاعتماد على أنفسهم. على أن كثيرًا من المكفوفين عوضهم الله بمواهب استثنائية توهَّجت بالتعليم والتدريب فكان منهم أعلام في الأدب والموسيقى والبعض كرَّس مواهبه لخدمة الكنيسة.

+ ولأن التعليم هو من أنجع الوسائل لرفع مستوى المعيشة والإفلات من حصار الفقر، فقد اتجهت الكنيسة لإنشاء المدارس(5) التي بدأت ككتاتيب أو فصول صغيرة لتعليم القراءة والكتابة والدين للصغار، إضافة إلى التدريب على الحِرَف، ثم توسَّعت لتشمل كل العلوم. وكانت كنيستنا أول مَنْ أنشأ مدارس لتعليم الأطفال في مصر دون تمييز، ثم اتبعتها بأول مدرسة لتعليم البنات في البلاد على يد البابا كيرلس الرابع (1853 – 1861) الذي أنشأ أيضًا مدرسة الأقباط الصناعية لتعليم الحِرَف المختلفة بما سدَّ حاجة البلاد إلى الفنيين، كما كان أول مَنْ أدخل مطبعة آلية لإصدار الكتب في مصر.

+ لا تُنسَى خدمة الكنائس في مناطق الكوارث في العالم للتخفيف من آثار الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات الشديدة كالسونامي Tsunami متجاوزة فوارق العنصر والدين، فالكل هم إخوة المسيح، والخدمة في حقيقتها مقدَّمة إليه، وذلك بالتبرع وإرسال المعدات ومجموعات الإنقاذ والفرق الطبية وإعداد أماكن الإيواء للمشرَّدين الناجين من الهول بل واستضافتهم في مقار الكنائس وبيوت المؤمنين. وامتدَّت الخدمة لإنقاذ الحيوانات (كالكلاب والقطط وغيرها) التي هجرها أصحابها أو حاصرتها المياه وإيوائهم، فضلًا عن إعادة البناء بعد انتهاء الكارثة، مما سوف يُذكر لهم في اليوم الأخير.

* الرهبنة والخدمة الاجتماعية المسيحية:

منذ أن عرف البعض طريق التوحد للعبادة كان هؤلاء النسَّاك الأوائل يذهبون للعمل كأجراء عند أصحاب الحقول وقت الحصاد. وكانوا بما يحصلون عليه من قمح كأجر يشحنون مراكب بأكملها لتوزَّع على المدن المصرية. كما ارتبطت الرهبنة الديرية منذ نشأتها (305) على يد الآباء أنبا أنطونيوس (251–356) وأنبا مقار (300–390) وأنبا باخوميوس (294–405) بشروط أساسية هي البتولية والفقر الاختياري والطاعة، وأن على الراهب أن يعمل لكي يحصل على قوته ولا يثقِّل على أحد، كما أن العمل يملأ وقت الراهب بين فترات الصلاة والتأمُّل والدراسة مما لا يسمح بالفراغ الذي يمكن أن يملأه عدو الخير. كما كان الرهبان ولا يزالون في خدمة الضيوف والغرباء، يغسلون أرجلهم من غُبار الطريق ويقدِّمون لهم الطعام والمأوى لمَنْ يحتاج.

+ وفي الغرب حيث تبنَّت الكنيسة رهبنة الشركة الباخومية، توسَّعت في الخدمة، رهبانًا وراهبات، وطرقت مجالات التعليم في المدارس، والكرازة لغير المؤمنين. وبالنسبة للراهبات بالذات، التعليم والتمريض ورعاية الأيتام والعجائز وغيرهم. واشتهرت مدارس الراهبات في كل العالم بانضباطها وتعليمها الرفيع.

ويبرز في الرهبنة الغربية القديس فرنسيس الأسيزي (1181 – 1226) مؤسِّس رهبنة الفرنسيسكان (الإخوة الأصاغر) (1209). وكان يدعو لبساطة الحياة والتقشُّف ومحبة الله والناس ومساعدة الفقراء والرفق بالحيوان. وهو جاء إلى الشام ومصر في بداية القرن الثالث عشر وقت الحروب (الصليبية) والتقى بالسلطان الأيوبي الذي أُعجب ببساطته وشجاعته وسمح له بالوعظ في بلادنا وأنشأ أديرة كثيرة، وسمح للرهبان الفرنسيسكان بالسهر على حماية القدس وأُعطوا لقب ”حُرَّاس الأماكن المقدَّسة“.

دكتور جميل نجيب سليمان

__________________________________________________________

(1) والرب ذكر أنه «لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (مت 8: 20) ومن هنا كان يستضاف في بيوت محبيه ومنهم بيت مريم ومرثا في بيت عنيا (لو 38:10؛ يو 5:11، 1:12و2)، كما اجتمع كثيرًا مع الرسل في بيت مريم أُم مرقس (مت 26: 17-19؛ مر 14: 15؛ لو 22: 7-17؛ يو 13: 14-17).
(2) على المستوى الفردي ربما يواجه تنفيذ هذه الخدمة في أيامنا بعض الصعوبة خاصة في المدن الكبرى حيث يصعب التمييز بين مَنْ يحتاجون بالفعل وغيرهم من الأشرار الذين يتظاهرون بالحاجة لكي يعتدوا وينهبوا. وقد تكون بيوت الإيواء سواء التابعة للدولة أو المؤسَّسات الخيرية هي المجال الأفضل لرعاية الغرباء والمشرَّدين.
(3) في هذا المجال نذكر كيف أثرت هذه الخدمة في مسيرة القديس باخوميوس (292-362) فهو كان في شبابه جنديًّا في الجيش الروماني، وفي إحدى الحملات العسكرية جاء مع فرقته إلى إحدى قرى إسنا جنوب الصعيد وعسكروا فيها. فخرج الأهالي يحتفون بهم ويقدِّمون لهم الطعام مما أدهشه كثيرًا ولما سأل عرف أنهم مسيحيون وبحسب إيمانهم يخدمون الغرباء. فتأثَّر بمحبتهم ووضع في قلبه أنه إن عاد سال‍مًا فسوف يسلِّم حياته للرب. وقد كان فجاء إلى نفس المكان وآمن بالمسيح وجذبته حياة النسك وأسَّس رهبنة الشركة.
(4) وفي التاريخ الكنسي فإن القديس أثناسيوس البابا العشرين (299-373) تبنَّى طفلًا يتيمًا وأخته. والأول صار فيما بعد البابا ثيئوفيلس البابا 23 (385-412)، وأخته تزوَّجت فيما بعد وأنجبت مَنْ صار البابا كيرلس الأول عامود الدين البابا 24 (412-444). كما أن البابا يوساب الأول البابا 52 (831-849) نشأ يتيمًا وتبنَّاه كاتب في ديوان الوالي. ولما صار شابًّا ترهَّب وصار فيما بعد راعيًا للكرازة المرقسية.
(5) أدركت كنيستنا منتصف القرن الماضي (1962) الحاجة إلى تأسيس أسقفية عامة للخدمات الاجتماعية، بعد أن اتَّسعت وتشعَّبت مجالاتها، وذلك في عهد البابا كيرلس السادس (1959-1971).
(6) الشاب الموهوب أوريجينوس (185-254) الذي صودرت أملاك أبيه بسبب الاضطهاد مما اضطرَّه أن يبيع ثيابه وكتبه، استطاع بالمعونة التي نالها من صندوق خدمة الفقراء بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية أن يواصل دراساته ليصبح اللاهوتي الأشهر في العالم المسيحي. بل إنه رأس المدرسة اللاهوتية في سنٍّ مبكرة وبلغت مؤلَّفاته أكثر من ستة آلاف كتاب.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis