|
|
للأب متى المسكين |
الأعمال الصالحة خطرة لأنها تجيز للنفس الضعيفة أن تعتقد خطأ أنها منبع العمل الصالح، وبالتالي تكون هي منبع الصلاح, في حين أن العمل شيء والصلاح شيء آخر. فالكنـز الصالح الذي يستقر في القلب فيجعله صالحاً ويهبه قوة العمل الصالح هو الله نفسه؛ هو الروح القدس "الكنـز الوحيد للصلاح", «لماذا تدعوني صالحاً, ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله» (مت 19: 17).
الله هو سبب الصلاح وأصل القداسة وعِلَّتها الأولى والأخيرة وليس الإنسان, مهما كان.
لذلك فالتأمين الوحيد الذي يجعل العمل الذي يعمله الإنسان صالحاً حقاً ويجعله قديساً, هو نسبته الكلِّية لله, أي أن يكون باعتقاد راسخ أشد الرسوخ أنه عطية من الله, وأن تُنسب بالتالي ثماره وكل نتائجه لله.
فإذا علمنا أن السبب الرئيسي أو الأصل اللاهوتي الصرف الذي يكمن وراء كل عمل صالح هو تمجيد الله, كما يقول الرب: «لكي يروا أعمالكم الحسنة وُيمجِّدوا أباكم الذي في السموات» (مت 5: 16), إذا علمنا ذلك تماماً وتأكدنا منه تماماً، أدركنا لماذا وعلى أي أساس وتحت أية شروط يعطينا الله القوة والبصيرة والنعمة والنشاط الروحي للصلاة والتسبيح والخدمة والوعظ والبذل والمحبة! ثم لماذا يسحبها من بين أيدينا ويتركنا فارغين تماماً جافين باردين, نتلفت وراءنا وأمامنا وكأنه هجرنا مرة واحدة.
إذن، فالعمل الصالح يقف ليُفرِّق بين تمجيد الله وبين تمجيد الذات الطامحة في الدنيا أو الطامعة في الشهرة. فإن تحدَّد تماماً أنه لحساب الله, زاد العمل الصالح وعظم مقداره وازدادت موارده وتأمنت منافعه ودوافعه بلا حدود, وإنْ هو انحرف لحساب تمجيد الذات, قَلَّ وشحَّ على ممر الزمن, وبهت لونه في أعين الله والناس، وضعفت ثمراته واحتُقِرَت جداً، وتساقطت أخيراً لتدوسها الأرجل.
الروح القدس هو الذي يُعطي للعمل الصالح "مذاقة الصلاح الحقيقي", إذ يجعل في صميم الجهد المبذول الإحساس الصادق الأمين بمصدر هذا الجهد الصالح. وهذا البذل الصالح يجعل الإنسان يستنشق من عمله ومن جهده رائحة الله نفسه تفوح بالقداسة, فيزداد الإنسان يقيناً أنه ليس صاحب هذا العمل الصالح مع أنه يجاهد بصميم إرادته, وهذا بالتالي يجعله يلتهب بإحساس قُرْب الله التهاباً فيحترق شوقاً لجهادٍ أكثر وبذل أعظم.
الروح القدس يُقنع النفس في أثناء الجهاد الصالح قناعة ما بعدها قناعة, أن كل صلاح الله المقتنى من خلال العمل الصالح هو لها, ولكن ليس منها!! وأن القداسة الحقيقية ليست في ذات العمل, ولكن في الاقتراب الشديد من الله في أثناء العمل, ثم في ردِّ فضل العمل إلى صاحبه!
غياب الإحساس المستمر بمجد الله وتمجيده في أثناء العمل الصالح, ينفي صفة الصلاح المنسوبة للعمل ويفيد غياب الروح القدس، بل وغياب الإيمان بالله، حيث تكون الذات هي وحدها صاحبة العمل والمترجية كرامة ومجداً من ورائه: «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض؟» (يو 5: 44)
إذن، فإنكار الذات هو عمل الروح القدس الأساسي داخل النفس لضمان قيام أي عمل صالح ودوامه, حيث الوسيلة العملية والإيجابية لممارسة إنكار الذات هنا هي تمجيد الله بإصرار كلِّي, سواء بالكلام أو بالفكر أو بالتصوُّر أو بالإيمان أو بكل قطرة عرق أو بكل الجهد, حيث يقف الروح القدس ليشهد لله بقوة أعظم من كل حِيَل الذات وخبثها وتهافُتها على الكرامة والتمجيد: "الروح القدس يشهد لي وأنتم تشهدون أيضاً لي" (راجع يو 15: 27،26). ولكن يستحيل على الروح القدس أن يشهد للمسيح بواسطة عمل الإنسان وقوله إلا من خلال إنكار الذات, حيث يمكن أن يكون الله في النهاية هو الكل في الكل!!
فإن كانت هناك صلاة يمكن أن تكون عملاً صالحاً, فهي التي لتمجيد الله وتسبيحه وشكره؛ وإن كانت هناك خدمة ما أو وعظ أو كرازة يمكن أن يُقال عنها أنها عمل صالح من أعمال شهادة الروح القدس, فهي التي تنتهي ليس فقط إلي مجرد خلاص النفوس, بل التي تنتهي أيضاً إلي طاعة الحق والإيمان وسيادة الله على كل النفوس. كذلك كل أمانة وكل عدل وكل بذل وكل حب, إنما تُحسب أعمالاً صالحة معمولة بالروح القدس إذا كانت لازدياد مجد الله كشهادة عملية لأمانته وعدله وفدائه وحبه.
وهنا فليلاحظ القارئ أن عمل الروح القدس من أجل إنكار الذات من خلال العمل الصالح هو ليس مجرد حرب ضد النفس أو مقاومة سلبية لإلغاء وجودها أو كيانها, بل هو عمل إيجابي صرف لضبط كل عمل صالح حتى يسير في مساره الأصيل والأمين: من الله وإليه عَبْر الإنسان، بشهادة الذات نفسها! حيث تصبح النفس البشرية في النهاية هي أعظم منتفع من العمل الصالح إذا سار في مساره الإلهي الصحيح, أي إذا بدأ العمل باعتراف النفس بفضل الله وانتهى العمل إلى تمجيد الله, حيث تتقدس النفس البشرية بتقديس الله!!
"قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس". ملء السماء من مجد الله أمر مفروغ منه, فهو قائم بالخدمة الملائكية. الحاجة أشد الحاجة لنا نحن البشر إلى أن تمتلئ الأرض من مجد الله, هذا هو عمل الإنسان الصالح, أن تمتلئ الكنيسة من مجد الله بالعطاء والشهادة وبالخدمة الصالحة, أن يمتلئ كل دير من مجد الله بالتسبيح والانسحاق والتفاني في المحبة الإلهية, أن يمتلئ كل بيت من مجد الله بالتعاون والطاعة والقدوة الصالحة. وهذا وذاك لن يتأتَّى إلا من خلال إنكار الذات على مستوى الكنيسة والدير والأسرة لإفساح الطريق للشهادة المطلقة لله حتى تمتلئ الأرض حقاً من مجد الله وحده.
ولكن لحسن حظ الإنسان أن الذي يُنكر نفسه من أجل الله لا يضيع ولا يبقى وحده في فراغ, بل يدخل في الحال في قوة مجال المسيح والصليب وسر الإخلاء الإلهي الذي يؤول إلى سرِّ الوجود الأعظم: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مت 16: 24). وهنا ينكشف سر إنكار الذات كأساس للعمل الصالح المصبوغ بالألم والدم الذي يُؤهِّل إلى الشركة مع المسيح «لمجد الله».
أن نتبع الروح القدس وننقاد إلى مشورته الأولى في الجهاد بأن ننكر ذواتنا في كل عمل وفكر من أجل مجد الله, هو هو أن نتبع المسيح حاملين الصليب في مسيرة الطاعة العظمى لمجد الله!! لذلك يقول الرسول عن يقين: «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله» (رو 8: 14).
المسيح نفسه قيل عنه أنه أنكر ذاته (وهذا يسمَّى الإخلاء), وقيل عنه أنه انقاد بالروح «وكان يُقتاد بالروح في البرية» (لو 4: 1). هذا الإخلاء والانقياد الطائع العجيب انتهى بالطاعة حتى الموت موت الصليب. لذلك قيل أن الله «رفعه». هكذا يتحقق بكل قوة ويقين أن إنكار الذات والانقياد الدائم في ذلك بالروح لتكميل كل عمل صالح هو الطريق السري المؤدي بنا إلى مجد الله في العُلا عَبْرَ الصليب على الأرض, الذي ينتهي بنا أن يكون الله فينا هو كل شيء.
ولكن هل يكون إنكار الذات كأساس العمل الصالح سهلاً بغير التضحية بأثمن وأعز العلاقات البشرية؟ الأب, الأم, الأخ, الأخت, الزوجة, الأولاد؟ أو هل يكون بغير نزاع متواصل عنيف ضد الذات وتعلُّقاتها العاطفية ومتعلِّقاتها الأرضية وكرامتها وشهرتها وراحتها وآمالها الوهمية؟ هنا ينبري الروح القدس ليُعزِّي الإنسان عن كل ثمين مفقود, وعن كل عزيز مهجور, وعن التخلي عن كل أمل مهما توطد, في سبيل تكميل كل عمل صالح لمجد الله.
أما بدون الروح القدس وبدون عزائه السهل العجيب الحاضر مع الإنسان في الجهاد الصالح في كل لحظة وكل مكان, فيستحيل على الإنسان أن يتجاوز ذاته التي تربَّت على العطف الزائف والحنان الزائل والمجد الدنيوي, وتغذَّت على الكبرياء وطلب المزيد من الدنيا بلا تعقُّل وبلا نهاية. +