في الذكرى السنوية الثانية عشرة لنياحة أبينا الروحي القمص متى المسكين ذِكر الصدِّيق للبركة


الثالوث الأقدس في حياة وكتابات الأب متى المسكين
- 4 -

+ بدأنا بحث ”الثالوث الأقدس في حياة وكتابات الأب متى المسكين“ في عدد يونية 2014م - ص 1، ثم في عدد يونية 2015م - ص 1، ثم في عدد يونية 2017م - ص 1. ونستكمل هذا البحث في هذا العدد (يونية 2018م).

في لاهوت المسيح الذي حدَّد مصير الإنسان:

( يقول الأب متى المسكين:

[إن كان العهد الجديد بكلِّ أسفاره يكاد لا يُعطي المسيح اسم ”الله“ مباشرة، حتى نقول إنَّ المسيح هو الله، فذلك لضرورة حتميَّة، لأن المسيح هو ”ابن الله“، والابن لا يمكن أن يكون ”الله“ إلاَّ مع الآب. غير أنَّ المسيح لكي يُعرِّف أو يَستعلِن نفسه أنه الله مع الآب فعلاً، قال صراحةً: «أَنَـا وَالآبُ وَاحِـدٌ» (يو 10: 30)، و«... أَنَـا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يو 14: 10). هذا معناه أنه لا يمكن أن يوجَد الابن وحده أو الآب وحده، بمعنى أنه إذا ذُكِرَ الابن، يكون معه الآب حتماً ودائماً.

لذلك أصبح من المفهوم الضمني أن يُقال إنَّ الابن، أي المسيح، هو الله باعتباره قائماً دائماً في الآب، لأنه لا يمكن أن يوجَد المسيح وحده، حسب قوله لتلاميذه: «وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي» (يو 16: 32)].

( «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»:

[فإن كـان الآب هـو الله حقّاً، فالمسيح يكون بالضرورة هو الله بالحقيقة. ولكن لكي نتحاشَى الازدواجية في الأُلوهة، نقول إنَّ الله الواحد هو الآب والابن. على أنه لا يمكن أن يكون الآب وحده هو الله، ولا الابن وحده هو الله؛ بل إنَّ الآب والابن هما الله الواحد. وكلمة ”واحد“ هنا ليست رقمية ولا تَمُتُّ للأعداد المادية القياسية بصِلة، ”الواحد“ بالروح. فالله روح واحد: آبٌ وابنٌ. لذلك نقول إنَّ الله آب وابن وروح، أو على سبيل الإيضاح نقول إنَّ الله روح، آب وابن.

والآب مسـاوٍ للابـن، والابـن مسـاوٍ للاب، لأن‍هما جوهرٌ واحـد وذاتٌ واحدة. الآب يُكمِّل الابن بأُبوَّته، والابن يُكمِّل الآب ببنوَّته. فالتساوي حتميٌّ هـو، حيث يتوجَّب التطابُق ال‍مُطلق بحُكْم الذات الواحدة. لذلك نقول بوحدانية الله المطلقة، فالله واحدٌ مُطلق، ولا تمايُز بين الآب والابن إلاَّ في الأُبوَّة كصفة الله الذاتية والبنوَّة كصفة الله الذاتية أيضاً. وهما واحدٌ أَحد، لأن الآب يحب الابن حُبّاً مُطلقاً بأن يُعطيه كل ما له، والابن يحب الآب حُبّاً مُطلقاً بأن يُعطيه كل ما له. فبالحب الإلهي المطلق توحَّدت ذات الله، فالله واحدٌ هو لا مِن منطلق الأعداد، بل من مُنطلق الحب الكُلِّي المطلق. لأن وحدانية الله هي فاعلية حُبِّه الذي به خَلَق وأَبدع، فتغلغل حُبُّه في كل ما خَلَق وكل ما أَبدع، ولحبِّه القاهر تتعبَّد له الخليقة وتخضع.

والمسيح كان شديد اليقين بمساواته للآب، لأنه هو الابن الوحيد المتجسِّد، فمِن يقين إحساسه بحُب الآب المطلق (يو 3: 35؛ 5: 20)، ومِن يقين حبِّه هو للآب حُبّاً مُطلقاً (يو 14: 31)، كان يرى المساواة حقيقة يحياها ويكرز ب‍ها، ويُمارِس عمل الفداء الذي أعطاه أبـوه بخضـوعٍ فاق خضوع العبد، لأنـه كان خضوعاً لا يشوبه قصور أو ضعف؛ بل خضوعاً مُطلقاً أيضاً تُمليه عليه طاعة قلب الابن وتحرسه حقيقة الحب البنوي، فجاء البذل حسب مشيئة الآب وإرادته تماماً ال‍مُطابقة لمشيئة الابن].

( وفي هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي توضيحاً:

[ليس في الآب والابن مُتقدِّم أو مُتأخِّر، ليس سابق أو لاحق، أي أنَّ وجود الآب لم يسبق وجود الابن ولا الابن كان وجوده لاحقاً لوجود الآب، وإلاَّ دخل الزمن في طبيعة الله، وهذا مُحالٌ. فالآب والابن وجودهما واحدٌ ومتلازمٌ منذ الأزل].

[وهكذا قال القديس أثناسيوس مقولته اللاهوتية التي أَخَذَ ب‍ها مجمع نيقية وصارت قانوناً للإيمان المسيحي: إنَّ الابن ”مولودٌ من الآب قبل كل الدهور“. وهذا يعني أنَّ الابن قائمٌ في الآب قبل الزمن، أي منذ الأزل. وهذا بحدِّ ذاته ينفي عن الله فِعْل ”الولادة“ الذي حيَّر غير المسيحيين، بل والمسيحيين أيضاً].

( والقديس أثناسيوس الرسولي أيضاً، في شرحه لقانون مجمع نيقية، يقول:

[الروح والأَزل من‍زَّهان عن الزمن وعن الأحداث والأفعال. وهذه طبيعة الله الفائقة غير المستهدفة للأفعال والأحداث الزمنية. فالمسيح هو ابن الله القائم الدائم في الذات الإلهية كابنٍ من الآب كائنٌ فيه منذ البدء، منذ الأَزل، خرج بمشيئة الآب إلى الوجود الزمني البشري بأن اتَّخذ له جسداً من عذراء، أي جسداً عذريّاً بدون رجل، فظلَّ قدوساً بعد ولادته: «فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو 1: 35).

وهكذا اتَّحد بالبشرية عن إرادة لَمَّا أَخَذَ جسداً منها، ولَمَّا وُلِدَ صار نائباً عن الله كابن الله في جسـد إنسان، وذلك في المحيط البشـري ليُعلِن عن الآب أنه هو والآب واحد بالتساوي المطلق. ويُظهِر حقيقة الآب غير المنظور: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو 14: 9)، ويعمل كل مشيئة الآب من جهة خلاص الإنسان من عَرَض الخطية وعَرَض الموت الذي أصاب الإنسان نتيجة عصيانه لله، فحَمَل خطية الإنسان في الجسد ومات بالجسد ليُخلِّص الجسد، أي البشريـة، مـن الخطية وعقوبة الموت. وقام بعد أن مات، فأقام الجسد - أي جسد الإنسان – بالروح ليحيا حياةً ثانية جديدة بالروح مُن‍زَّهة عن الخطية والموت؛ ليحيا الإنسان مع الله، كما كان في شخص آدم قبل السقوط، ولكن دون احتمال سقوطٍ مرةً أخرى أو عصيان أو موت، في حياةٍ أبدية مع الله، مُتَّحداً بجسد المسيح، ليتراءى الإنسان الجديد أمام الله الآب في المسيح كابنٍ مع الآب](1).

الروح القدس كأقنوم إلهي في الثالوث المتساوي:

( يقول الأب متى المسكين:

[كـان القديس أثناسيوس الرسولي أول مَن دافع عـن لاهوت الروح القدس. ودفاع أثناسيوس يقوم أساساً على إثبات الوحدة القائمة بين الثلاثة الأقانيم: الآب والابن والروح القدس، أن‍هم إلهٌ واحد. على أنَّ هذه الوحدة الجوهرية القائمة في الثالوث، تتَّضح من وحدة العمل. فكما أنَّ الابن لا يعمل شيئاً من ذاته، كذلك الروح القدس لا يعمل شيئاً من ذاته. وإنما كل عمل هو عمل الثالوث: ”من الآب بالابن في الروح القدس“.

وقـد كتب القديس أثناسيوس أربع رسائل عـن ”الروح القدس“ مُوجَّهة إلى الأسقف سيرابيون بين سنة 358م وسنة 361م. وفي الرسالة الأولى يهتم بلاهوت الروح القدس عامةً، مُستشهداً بآيات الكتاب المقدَّس، ثم بالوحدة الكائنة بين الآب والابن والروح القدس. وهي الرسالة الهامة التي سنُركِّز عليها. فتعاليم إنجيل القديس يوحنا الواضحة جداً عن شخصية الروح القدس كانت قويَّة ومُدركة للإنسان الجديد: ”مولودين من الماء والروح“. ثم ما جاء في سِفْر أعمال الرسل عن أعمال ومواهب الروح القدس التي تنطق بشخصية الروح القدس وقيادته بصورةٍ حيَّة واقعية عملية، فهـو يقود ويُعلِّم ويتكلَّم ويدعـو وينتخب ويُرسِل ويحكم ويمنع ويُصرِّح ويملأ ويُغذِّي كإلهٍ وكشخصٍ حيٍّ يتعامل مع الإنسان].

[فكان خط الرسل الذي يُعطي الإيمان الواضح ال‍مُحدَّد عن شخصية الروح القدس الإله الكامل في الثالوث المتساوي للآب والابن في المجد والكرامة والعمل، حيث ظلَّ هذا الخط هو الذي تعيشه الكنيسة وتُمارسه بدون فحص. وحينما طُلِبَ من الكنيسة رسميّاً أن تقول رأيها في الروح القدس في كلِّ المواقف الحرجة، قالته بدون تردُّد أو تفكير ولا إلى لحظةٍ واحدة. إن‍ها تعبد إلهاً واحداً في ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح قُدس، في لاهوت واحد].

[والحقيقة أنَّ خط الكنيسة التي كانت تحيا وتسير بالروح القدس، لم يتأثَّر بخطِّ العلماء والحكماء وال‍مُفكِّرين ال‍مُحاجين، الذين كانوا يعيشون ويتخاطبون في أجواء البدع الوثنية. لأن كل بحث أو دراسة عن الروح القدس بدون مُعايشة فعلية تَقَويَّة للروح القدس لابد وأن تأتي بانحرافاتٍ.

فـالقديس أثناسيوس، في منتصف القرن الرابع، استطاع أن يُقدِّم - بتقواه واستنارته الروحية - فكراً لاهوتياً مُبَرْهَناً ودقيقاً لماهيَّة الروح القدس، في منهج مدرسي، جاء مساويّاً تماماً، وبلا أيِّ زيادة أو نُقصان، لفكر الرسل والإنجيل البسيط ال‍مُعاش والحي عن الروح القدس في جسم الكنيسة ووجدان‍ها منذ أن عرفته الكنيسة حتى إلى ذلك الوقت].

[وفي تعاليم المسيح في إنجيل يوحنا، يُركِّز على الروح القدس باعتباره واسطة الدخول إلى ملكوت الله، باعتباره المقياس الوحيد للعبادة بالسجود ”بالروح“ والحق، وأنه المصدر الوحيد لارتواء الإنسان لكي لا يعطش إلى مياه الأرض التي لا تروي، بل يصير في الإنسان ينبوع حياة أبدية! وإنَّ قبول الروح القدس ب‍هذا الوصف، يتوقَّف على الإيمان بالمسيح أولاً: «”... مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ“. قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يو 7: 37-39). وأنه هو الباركليت أي ال‍مُعزِّي والشفيع للإنسان (يو 14: 15). وأنَّ الروح القدس في التلاميذ وفي أولاد الله، سيُبكِّت العالم، أي يقف فينا ضد قُوَى الشرِّ مؤازِراً لنا ومُحامياً عنَّا (يو 16: 7-11). وأنه مصدر قوَّة البشارة، فمتى حلَّ على ال‍مُختارين ينالون في الحال قوَّةً من الأعالي للشهادة (أع 1: 8)].

[وفي سِفْر الأعمال، يبتدئ بوضع الروح القدس في موضعه الجديد، وتحديد عمله الشخصي في الكنيسة عِوَض المسيح تماماً: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يو 14: 16). هذا ال‍مُعزِّي لا يقول ولا يعمل ولا يُرشد إلاَّ بما هو من المسيح ولأجل المسيح، فهـو «لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ... لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يـو 16: 14،13). فسِفْر الأعمال يُقدِّم الروح القدس كاستمرارٍ لعمل المسيح في الكنيسة، وبدونه يستحيل على الكنيسة أن تتكلَّم أو تتحرَّك أو تُعلِن المسيح: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا ”مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي... لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهَودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ“» (أع 1: 4-8)].

[المسيح سيبقى في السماء، ولكن الروح القدس سيدوم في الكنيسة على الأرض إلى حين انتهاء هـذا الدهـر والمجيء الثاني للمسيح: «... وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَـةِ رَدِّ كُـلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِـهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ» (أع 3: 21،20). فالروح القدس هو في الحقيقة شخص الاتِّصال الدائم والحي والفعَّال بين المؤمنين والمسيح. فإذا كان المسيح واضحاً في القلب، وكانت علاقة المؤمن بالمسيح صادقة وقويَّة وحيَّة وفعَّالة، كانت هذه علامة على وجود وعمل الروح القدس فيه.

فالروح القدس يعمل الآن عمل المسيح ويُكمِّله فينا، أي يمنحنا الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح من أجلنا، يهبه لنا ويُثبِّتنا فيه. والروح القدس نفسه يصفه القديس بولس الرسول من جهة هذا بأنه ”روح المسيح“ (رو 8: 9)، إمعاناً في التأكيد على أنه يملك كل ما للمسيح، ويُدرك كل ما للمسيح، وقادر أن يُعطينا كل ما للمسيح وما عمله المسيح. لذلك، فبدون الروح القدس، يستحيل الإيمان بالمسيح، ولا معرفة أسرار المسيح، ولا نوال قوَّة الخلاص والفداء اللَّذين أَكملهما المسيح لنا](2).

(1) من كتاب: ”ماهية المسيح“، للأب متى المسكين.
(2) من كتاب: ”القديس أثناسيوس الرسولي“، للأب متى المسكين، ص 575-584.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis