عظة آبائية


عيد البنتيقسطي
للقديس غريغوريوس اللاهوتي
(329-390م)

القديس غريغوريوس اللاهوتي

نص العظة(1):

احتفالنا بالأعياد إنما يكون بما يسرُّ روح الله، ومـا يسـرُّه هـو أن نكـنز في نفوسـنا - في العيد - أموراً روحية خالدة ونلتصق بها.

نحن في عصر الروح القدس:

... نحن نُكرِّم يوم الخمسين ليس كما كرَّمه العبرانيون، ولكننا نُراعي طقوساً أخرى غير تلك التي كانـوا يُراعـونها، فنحـن نُقيمها بطريقةٍ سرائرية. ونحن نحتفل بعيد البنتيقسطي الذي فيه حـلَّ علينا روح الله، وهو الوقت المُعيَّن لتحقيق الوعد الذي عليه رجاؤنا.

كم عظيمٌ وجليلٌ هـذا السر! لقد انتهى زمن وجود الرب يسوع بين الناس بالجسد، وبدأ عصر الروح القدس. إنه يُرتِّب بكلِّ حكمة كل ما يخصُّنا بحسب تدبيره الإلهي وأحكامه التي لا تُستقصَى، وهذه هي أسرار المسيح...

لقد عمل روح الله أولاً في القوات السمائية والملائكية، باعتبار أنها هي المُحيطة بالله، لأنه لا يوجد ينبوع آخر يتدفَّق منه كمالهم وضياؤهم، كما أنَّ صعوبة أو استحالة دفعهم إلى الخطية إنما هو من الروح القدس. ثم عمل بعد ذلك في الآباء والأنبياء حيث عايـن الآبـاء رؤى مـن الله أو عرفوه، والأنبياء تنبَّأوا عن المستقبل. ثم عمل في تلاميذ المسيح بثلاث طُرُق بقدر مـا أمكنهم أن يأخذوا الروح، وفي ثلاث مناسبات: الأولى: قبل أن يتمجَّد الرب بواسطة الآلام؛ والثانية: بعد أن تمجَّد بالقيامة؛ والثالثة: بعد صعوده إلى السماء.

+ في المناسبة الأولى: ظهر عمل الروح في شفاء المرضى وإخراج الأرواح الشريرة.

+ وفي الثانية: ظهـر في نفخـة الرب في تلاميذه بعد القيامة التي كانت إلهاماً إلهيّاً واضحاً قائلاً: «اقبلوا الروح القدس».

+ وفي الثالثة: بتوزيع الألسنة النارية عليهم الذي نحتفل بذكراه الآن.

ولكن في المناسبة الأولى، كان ظهور الروح غير واضح؛ وفي الثانية، كان أكثر وضوحاً؛ أمَّا في الثالثة، فبوضوح كامل، حيث إنه لم يَعُد حاضراً بقوَّته وحدها، بل يمكننا أن نقول بجوهره مقترناً بنا وساكناً فينا. لأنه كان من اللائق أنه كما أنَّ ابن الله عاش معنا بهيئة جسدية محسوسة؛ هكـذا أيضـاً روح الله كـان ينبغي أن يظهـر في هيئـة محسوسـة. وبعد أن عاد المسيح إلى موضعه الخصوصي، كـان ينبغي أنَّ روح الله ينزل إلينا!

الروح المعزِّي والناري والمُعطي المواهب:

هكذا جاء الروح القدس إلينا بعد المسيح حتى لا نكون مُعوزين إلى مُعزٍّ؛ بـل إن الرب يُسمِّيه ”معزِّياً آخر“ (يـو 14: 16)، حتى نتعرَّف على مسـاواتـه الأقنوميـة للابـن، لأن كلمـة ”آخر“ تـدلُّ على مساواتـه للابـن في الربوبية والجوهـر. وحلوله على هيئة ألسنة، هو بسبب علاقته الوثيقة بالكلمة (ابن الله).

+ وهـذه الألسنة كانت مـن نارٍ بسبب قوَّة الروح القدس المُطهِّرة أو بسبب جوهـره، لأن «إِلهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ» (عب 12: 29) تحرق الأَثَمَة.

+ وكـانت الألسنة مُنقسمة بسـبب تعـدُّد المواهـب. وقـد استقرَّت على التلاميـذ لتعني ملوكية الـروح القدس وراحتـه في القدِّيسـين، ولأن الشاروبيم (الملتهبين نـاراً: «خُدَّامَهُ نَـاراً مُلْتَهِبَةً» - مز 104: 4) هم عرش الله.

+ وقـد حدث كـلُّ ذلك في علِّية، لأن الذين ينالون الروح (القدس) عليهم أن يصعدوا ويُرفَعوا فـوق الأرض.

+ والرب يسوع نفسه أعطى سر الشركة في علِّية للداخلين إلى الأسرار العُليا، وذلك لكي يظهر أن الله ينبغي أن ينزل إلينا كما فعل في القديم مع موسى النبي؛ ومن الناحية الأخرى، إننا يجب أن نصعد إليه، وهكـذا تتمُّ الشركة بين الله والناس بالاندماج في الكرامة. لأنه طالما أنَّ كلاًّ من الاثنين يظلُّ باقياً في مقامـه: الله في مجده، والإنسان في حقارته؛ فلا يمكن لصلاح الله أن يمتزج بنا، وحنُوُّه الإلهي يظلُّ غير قابل لأن نتساوى فيه معه، وتبقى هوَّة عظيمة لا يمكن عبورها، هذه التي تفصل، ليس فقط بين الغَني ولعازر وحضن إبراهيم الذي يتوق إليه الغَني؛ بـل أيضاً بين الطبائع المخلوقة المُتغيِّرة وذاك الذي هو أبديٌّ وغير قابل للتغيير.

كيف أعلن الأنبياء عن روح الله؟

+ لقـد أعلـن الأنبياء ذلـك في الأمثلة الآتية: «رُوحُ السَّيِّدِ الـرَّبِّ عَلَيَّ» (إش 61: 1). ويتـنبَّأ إشعياء النبي عـن عمل الروح مع المسيَّا المنتَظَر بقوله: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِـنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ» (إش 11: 2،1). كما أنـه رأى من وراء الدهور روح الله يقـود شعبه: «رُوحُ الرَّبِّ أَرَاحَهُمْ. هكَذَا قُدْتَ شَعْبَكَ لِتَصْنَعَ لِنَفْسِكَ اسْمَ مَجْدٍ» (إش 63: 14). كما أن الروح مـلأ بَصَلْئيل فهماً ليتفنَّن في بناء مسكن الله مع الناس: «قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ... وَمَلأْتُهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ» (خر 31: 3،2).

+ أمَّا التمرُّد على الله فهـو يُحزن روحـه: «وَلكِنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَأَحْزَنُوا رُوحَ قُدْسِهِ» (إش 63: 10). وقـد توسَّـل داود النبي إلى الله قائـلاً: «رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مز 51: 11)، وطلب قيادتـه: «رُوحُـكَ الصَّالِـحُ يَهْـدِينِي» (مز 143: 10).

+ ثم مـا وَعَـدَ الله الإنسانَ بـه على فـم يوئيل النبي: «وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُـلِّ بَشَرٍ (أي على كـلِّ الذيـن يؤمنون)، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...» (يوئيل 2: 28).

عمل الروح القدس في العهد الجديد:

+ كما أنَّ الروح يُمجِّد المسيح، لأنه يأخذ ممَّا للمسيح ويُخبرنا بكل شيء: «ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يو 16: 14). ففي العهد الجديد كم كان الوعد بالروح غزيراً وفيَّاضاً!

+ وهو يمكث معنا إلى الأبد: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ...» (يو 14: 17،16)، وذلك سواء كـان هنا مع الذين هم مستحقُّون في هذا الزمان؛ أو هناك مع الذين حُسِبوا أهـلاً للدهر الآتي، إذ كانوا قـد حفظوا روح الله فيهم هنا بحياتهم ولم ينبذوه بخطاياهم.

+ وكان روح الله قد اشترك مع ابن الله في كلٍّ مـن الخلقة والقيامة. فالكتاب يقول: «بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ (أو بروح) فِيهِ (أي فمه) كُلُّ جُنُودِهَا» (مـز 33: 6). وأيضاً: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ (أعمالك يـا رب)، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ» (مز 104: 30).

+ وروح الله هـو أصـل الولادة الجديـدة الروحانية: «إِنْ كَـانَ أَحَـدٌ لاَ يُولَدُ مِـنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُـلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (يو 3: 5)، ويتنقَّى مـن ولادته الأولى المُظلمة بتجديده إلى النور الذي به يُخلَق كل إنسانٍ من جديد.

+ هذا الروح، لأنه هو «رُوحَ الْحِكْمَةِ مُحِبٌّ لِلإِنْسَانِ» (حكمة 1: 6)، إذا تملَّك على راعٍ يجعل منه مُـرتِّلاً للمزامير ومُخضِعاً للأرواح الشريـرة بألحانه (1صم 16: 23)، ثم يجعله مَلِكاً مثل داود النبي. وإذا تملَّك على جاني جميز يجعله نبيّاً مثل عاموس النبي (عا 7: 14). وإذا تملَّك على شاب صالح يجعله قاضياً (سوسنة: دا 13: 45-64)، هـذا هـو دانيال النبي الذي شهد بانتصاره على الأسود في جُبِّهم (دا 6: 22).

+ ثم إذا تملَّك على صيَّادي سمك يجعلهم يصطادون العالم كله في شِبَاك المسيح، رافعين إيَّاهـم في شبكة كلمة الله. انظر إلى الرسـل بطرس وأندراوس وابني الرَّعـد (يعقوب ويوحنا ابني زبدي) وهم يُرعدون بأمور الروح، وحتى العشَّارون يربحهم الروح للتلمذة للمسيح ويجعلهم تُجَّاراً للنفوس، مثل القديس متى الذي كان عشَّاراً بالأمس وصار اليوم إنجيليّاً.

وإذا كانوا غيورين في اضطهادهم للآخرين، يُحوِّل الروح موضوع غيرتهم ويجعل مـن كلٍّ منهم بولس بدلاً من شاول، ويملأهم بالتقوى بقدر ما وجدهم مملوئين بالشرِّ.

+ ومع أنه هو روح الوداعة، إلاَّ أنه يُستثار من الذين يُخطئون. هَلُمَّ، إذن، نُقدِّم بُرهانـاً على أنه لطيفٌ لا على أنـه غضوبٌ، وذلك باعترافنا بكرامته. ولتكن رغبتنا هي ألاَّ نراه غاضباً غير صفوح.

+ إنه هو الذي أعطاني الجرأة أمامكم اليوم، وإن كنتُ لا أجد راحةً بسبب الذيـن يُبغضوننا، فإننا نطلب من الله أن يُنقذهم وينبغي أن نشكره. وإن كنا نُخاطر بأنفسنا، فلعلَّه يُخصِّصنا لنَيْل هذه المُكافأة على تبشيرنـا بالإنجيل، وهي أن يجعلنا كاملين بسَفْك دمائنا(2).

ماذا تعني الآية:

«ابتدأوا يتكلَّمون بألسنةٍ أخرى» (أع 2: 4)؟

لقد تكلَّم الرسل لا بلغتهم الوطنية بل بألسنة (أي بلغات) غريبة عنهم، وكـانت معجزة عظيمة أن يتكلَّموا بلغة لم يتعلَّموها، وهي «آيَةٌ، لاَ لِلْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ» (1كو 14: 22) حتى تدين غير المؤمنين، كما هو مكتوب: «إِنِّي بِذَوِي أَلْسِنَةٍ أُخْرَى وَبِشِفَاهٍ أُخْرَى سَأُكَلِّمُ هذَا الشَّعْبَ، وَلاَ هكَذَا يَسْمَعُونَ لِي، يَقُـولُ الـرَّبُّ» (1كـو 14: 21؛ إش 28: 12،11)، ولكنهم سمعوا.

+ وهنا نسأل عـن الآية التي فيها شيء من الغموض: «لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَتِهِ» (أع 2: 6). فهل كـان كلٌّ منهم يسمع لغته، ممَّا يجعلني أقول إنَّ الرسل كانوا ينطقون صوت لغةٍ واحدة، في حين كان الناس يسمعون عـدَّة لغاتٍ بأصواتٍ أكثر وضوحاً مـن صوت الرسل الأصلي؛ أم أننـا ينبغي أن نفصـل بين جملتين هكـذا: «... كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَسْمَعُهُمْ»، ثم يُضيف: «يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتِهِـم» إلى الكـلام التالي؟ وهذا يعني أنَّ الرسل كانوا يتكلَّمون بلغاتٍ تخصُّ السامعين، ولكنها غريبة على المتكلِّمين.

إنني أُفضِّل هـذا المعنى الأخير، وذلـك لأن المعجزة في خطة الله كـان يُقصَد بها أن تكون للسامعين وليس للمتكلِّمين، مـع أنهـا في ذلك قُصِدَ بها أن تكون مـن جانب المتكلِّمين. ولذلك لامهم البعض على زَعم أنهـم سُكَارَى، لأنهـم بالروح صنعوا معجزة التكلُّم بالألسنة.

بلبلة الألسنة فرَّقت، وروح الله وحَّد:

+ كما كـانت بلبلة الألسنة في القديم جديرة بالثناء عندما كـان أهل بابل يبنون البُرج بلغتهم الواحدة في الشرِّ والفساد (تك 11: 1-9) - كما يُخاطر البعض الآن بأن يكونوا هكذا - لأن بلبلة ألسنتهم حطَّمت وحـدة قصدهم وأوقفـت عملهم؛ هكـذا معجزة يوم الخمسين هي أجدر بالثناء لأن انسكاب الروح الواحد على كثيرين جمعهم مرَّةً أخرى في انسجام الوحدة. كما أنَّ تنوُّع المواهب يحتاج إلى موهبةٍ أخرى لكي تُميِّز الأفضل منها، حيث إنها كلها جديـرة بالثناء. وقـد كان تفريق الألسنة في القديم يُعتَبَر ممدوحـاً إذ يقـول داود النبي: «أَهْـلِكْ يَـا رَبُّ، فَـرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ» (مـز 55: 9)، لماذا؟ لأنهم أحبُّوا «كُلَّ كَـلاَمٍ مُهْلِكٍ وَلِسَانِ غِشٍّ» (مز 52: 4)؛ في حين أنَّ البعض يرتابون في صحة ألسنة يوم الخمسين التي تُثبت لاهـوت الروح القدس (يُشير إلى ناكري لاهوت الروح القدس).

+ وإن كان مـن واجبنا الآن أن نُنهي هذا الاجتماع، إلاَّ أن هذا العيد لن تكون له نهاية. فإن كنا سنظلُّ نحفظه الآن ونحن في الجسد، ولكن بعد قليل سنحتفل به هناك روحيّاً، حيث سنرى الأسباب الأصلية لهذه الأمور بوضوحٍ وصفاءٍ أكثر في كلمة الله، ربنا يسوع المسيح، الذي هـو عيد المُخلَّصين الحقيقي وفرحهم، الذي له المجد والسجود مع الآب والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة يُرجَّح أن‍ها أُلقيت في القسطنطينية بمناسبة هذا العيد في 16 مايو عام 381م. وكان القديس حينذاك في خطرٍ شديد على حياته من الآريوسيين بسبب جُرأته في المناداة بالإيمان الحقيقي. وقد تُرجِمَت باختصار من: NPNF, 2nd Series, Vol. VII, p. 378.
(2) لعلَّ القديس غريغوريوس بذلك يُلمِّح إلى تربُّص الآريوسيين به لكي يقتلوه.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis