تأملات في شخص المسيح الحي
- 57 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (25)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (3)

التمييز بين ”القيامة“ وبين ”إحياء ميت ليموت مرَّةً أخرى“: فالقيامة، ببساطة، لا تعني مجرَّد إحياء جُثَّة ميتة، أي إرجاع الحياة لها، ثم تعود وتموت مرَّةً أخرى، كما حدث في إقامة لعازر الذي أحياه الرب يسوع من الموت؛ ثم، وبحسب التاريخ، مات لعازر مرة أخرى، ودُفِنَ مرةً أخرى.

+ ولكن ”قيامة المسيح“ هي أكثر مـن كونها حَدَثاً مؤقتاً. فالقائم مـن الموت، قام بقوَّة لاهوته ليحيا إلى الأبد، وقد تحوَّل جسده إلى جسدٍ مُمَجَّد، لأنه لن يعود للموت مرة أخرى (1كو 15: 35).

+ أمَّا القيامة العامة لكـلِّ البشر في نهايـة الزمـان، فهي حَـدَثٌٌ مُتوقَّع في مستقبلٍ غير معروف زمانه، لكنه لابد قادم.

+ وبهـذا ترتبط قيامة المسيح مـع انتظار القيامة العامة في نهايـة التاريـخ، حيث يتحقَّق جهاراً ملكوت الله: ”ما لم تَرَه عين، ولم تسمع به أُذُن، ولم يخطر على قلب بَشَر“ (1كو 2: 9).

+ فالقيامة العامة المنتَظَرة، كحَدَثٍ تاريخي عالمي، تشمل كـل البشـر، ليس لواحـدٍ ولا لمجموعة من البشر، بل لجميع البشر، حيث لن يعودوا للموت؛ بل للحياة الأبدية، حسب الدينونة العتيدة أن تصير بواسطة المسيح: «كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يو 5: 26-29).

+ فالقيامة التي قامها المسيح، ليست مجرَّد ”ردِّ اعتبار“ لجريمة اليهود في صَلْب المسيح، ولا مجـرَّد إظهار لاهوتـه للعالم؛ بـل هي أولاً لاستعداد المؤمنين، ومنذ الآن، لمواجهة القيامة العامة لكلِّ البشر. لذلك وَضَع آباء الكنيسة في قانـون الإيمان بند: ”وننتظر قيامـة الأموات، وحياة الدهر الآتي، آمين“.

+ فقيامة المسيح هي بداية الاستعداد لمُلاقاة الـرب في الهـواء: «لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْـنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. لِذلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهذَا الْكَلاَمِ» (1تس 4: 16-18).

+ ولهـذا السبب، فـإنَّ الكنيسة الأرثوذكسية تضع قيامة المسيح في موضع الاشتياق الدائم والانتظار الذي لا يكـلُّ ولا يمـلُّ، لمجيء الرب يسوع من السماء ليجمع مُختاريه معه، ليحيوا معه إلى الأبد. وهذا هو سبب احتمالنا لكلِّ ضيقات هذا الزمان الحاضر، في انتظار يوم عِتقنا من آلام هذا الدهر الحاضر، لندخل إلى المجد الأبدي، حيث نرى وجه يسوع المُضيء كل حين.

+ شخصية المسيح تأكَّدت للرسل والمؤمنين: كـان أيُّ يهودي، في عصر المسيح، يمكنـه أن يكتشف هذا الارتباط بسهولة: إنه في الرب يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات، يتأكَّد أن يسوع هو حقّاً ”ابن الإنسان“ المُرسَل من الله، والممسوح بالروح القدس، عكساً لِمَا كان قبل القيامة، حيث كان اسم ”ابن الله“ يبدو وكأنه ”تجديف“، في نظر اليهودي العادي.

+ حقيقة لقب ”ابن الإنسان“ قـد تحـدَّدت نهائياً: فإنه قبل حدوث القيامة، كـان هناك جَدَلٌ دائم ما إذا كان يسوع مُعتَبَراً أنه ”ابن الإنسان“، أو أنه هو الذي كان يَعتَبِر نفسه كذلك. أمَّا بعد القيامة، فقـد وضح جيِّداً أنـه فعلاً هـو ”ابن الإنسان“. وهكذا صار معروفاً أيضاً أنه هو ”ابن الإنسان“ الذي سيأتي ثانيـةً، ليُنهي ”تاريـخ البشرية“، ليبدأ عصر ”الأبدية“ مع الرب يسوع المسيح، ومع الآب. حيث يدخل الابـن إلى الآب ومعه كـل البشر المُخلَّصين، قائلاً: «ها أنا مع الأبناء الذين وَهَبهم الله لي. ولما كـان الأبناء شركاءَ في اللحم والدم، شاركهم يسوعُ كذلك في طبيعتهم هذه، ليقضي بموته على الذي في يده سلطانُ الموت، أي إبليس، ويُحرِّر الذين كـانوا طوال حياتهم في العبوديـة خوفاً مـن الموت» (عب 2: 13-15 الترجمة العربية الجديدة).

الاستعلان النهائي أصبح معروفاً: فإن كـان كل هـذا حقّاً، فيكون معنى القيامة لكلِّ أتقياء اليهود وغير اليهود الذيـن رأَوْا القيامة، هو أنَّ الله قد استَعْلَن ذاته أخيراً. وهذا منطق موثوق به: إنـه إذا كـان المسيح قد قام، إذن، يكون الله قـد استُعلِنَ حقيقةً؛ فلا يمكن تجاوُز الله، وكذلك لا يمكن إنكار القيامة.

+ وهكـذا فسيكون معنى التاريخ معروفاً. ونهايـة التاريخ صارت حاضرة في قيامة الرب يسوع من بين الأموات.

+ لقـد تنبَّأ يسوع بالقيامة العامة للبشر في قيامته. وبهـذه الطريقة يكـون لاهـوت يسوع مُسْتعلَناً في قيامته. ولذلك، فإن كان الرب قد قام، فإنَّ ابن الإنسان هو أيضاً ابن الله!

الثقة في نهايـة التاريـخ وسـط الغموض المستمر فيه: إنَّ كـلَّ الذيـن تشارَكوا معاً في انتظار القيامة العامة للبشر، أحسُّوا في أنفسهم أنهم مشدودون إلى الزمـان الأخير في حضور الرب يسوع القائم من الموت. لقد اكتسبوا اتِّجاهاً واثقاً، وبشكل قـد لا يُصـدَّق، وبشجاعة، تجـاه التاريخ، والمعاناة، وغموض الحياة.

+ لأنـه في قيامـة الرب يسوع، فالنهايـة أصبحت مُنتَظَرَة بالفعل، إذ أنَّ قيامة يسوع هي مفتاح إجمالي للتاريخ، والذي مـن خلاله يكون الله أخيراً قد صار معروفاً.

+ قبـل القيامة تشتَّت التلاميـذ بعد صَلْب المسيح، لأن الإيمان باتِّحـاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح، لم يكن قـد تثبَّت بعد لدى التلاميذ؛ لكنهم بعد ظهوره لهم بعد قيامته، تثبَّت إيمانهم برؤيته قائماً من بين الأموات.

التعليم في العهد الجديد عن القيامة العامة:

+ التعليم عن القيامة العامة في العهد الجديد كان بأنَّ القيامة العامة هي للبشر جميعاً: الأبرار والأشـرار. والعلاقـة بين القيامة العامة وقيامة المسيح، أشار إليها بولس الرسول بقوله: «فَإِن لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَـلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَـدْ قَامَ!» (1كـو 15: 13). وقـد استهجن القديس بولس الرسول وجهة نظر البعض بأنَّ القيامة العامة قد حـدثت: «هِيمِينَايُسُ وَفِيلِيتُسُ، اللَّـذَانِ زَاغَا عَنِ الْحَـقِّ، قَائِلَيْنِ: ”إِنَّ الْقِيَامَةَ قَـدْ صَارَتْ“ فَيَقْلِبَانِ إِيمَانَ قَوْمٍ» (2تي 2: 18،17).

+ والرب يسوع نفسه علَّم، بل وتنبَّأ، عن ”القيامة العامة“ للأبـرار والأشرار. وقد سجَّل يوحنا البشير بأنَّ يسوع قد علَّم قائلاً: «فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يو 5: 29،28 - راجع أيضاً يو 6: 39-44؛ 11: 24-25؛ 1تس 4: 13-16؛ 2كو 5: 1-10).

+ وحينما سأله الصدُّوقيون الذين لم يكونوا يؤمنون بالقيامة العامة للبشر على أساس أنَّ ذلك لم يَـرِدْ في الأسفار الخمسة الأولى مـن العهد القديم؛ اعتبرهـم الرب يسوع أنهم ناقصون في فهمهم للكُتُب المقدَّسة وقوَّة الله: «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْواتِ إِنَّهُمْ يَقُومَونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ في كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلاً: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْواتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً!» (مر 12: 27،26 - انظر أيضاً تك 50: 24؛ خر 2: 24؛ لا 26: 42).

معنى قيامة المسيح من الموت

تأكيد قيمة الفداء بموت الرب وقيامته:

+ تعاليمه النبويَّـة نالت التصديق: قيامـة المسيح من بين الأموات قد صدَّقت على تعاليم الرب يسـوع باعتباره المسيَّا؛ لأنـه شـرح، وبوضـوح، لتلاميذه مُسْبَقاً أنَّ: «ابْـنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلّـَمَ كَثِيراً، وَيُـرْفَضَ مِـنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيـَّامٍ يَقُومُ» (مر 8: 31).

ذبيحة تقديم نفسه قُبِلَت من الآب: لأنه من خلال القيامة، وضح جليّاً بأنَّ تقدمة ذاته ذبيحة من أجل الجميع، قد تمَّ قبولها من الآب. فقد قَبِلَ الآب تقدمة المسيح نفسه ذبيحة من أجل فداء البشرية. وبهذا رجعت البشرية مرَّةً أخرى لتكون قُرْبَى من الله. وهكذا أكَّدت القيامةُ القيمةَ الفدائية لموت المسيح من أجل خلاص العالم. وهكذا تأكَّد أيضاً أنـه تألَّم مـن أجـل خلاص العالم كله: «الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ» (1بط 3: 18)(1).

بآلامه تبرَّرنا: وهكذا فإنَّ قيامة المسيح أثبَتَت لزوم إرسال ابـن الله، وموتـه المشوب بالآلام. فـالقيامة صارت كمفتاح فَهْم آلام المسيح، حيث أتى ابن الله ليُشارِك البشر آلامهم. وبالتالي فقد ثَبَّت الله الثالوث تدبير الخلاص.

+ وأعلن بطرس الرسول أنَّ المسيح الناهض من الموت قد:

+ «أقامـه (الله) في اليوم الثالث، وأعطـاه أن يَظهَرَ، لا للشعب كلِّه، بـل للشهود الذيـن اختارهم الله من قبل، أي لنا نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد قيامته مـن بين الأموات. وأوصانـا أن نُبشِّر الشعب ونَشـهَد أنَّ الله جعله ديَّانـاً للأحياء والأمـوات. وله يشهد جميع الأنبياء بـأنَّ كلَّ مـن آمن بـه ينالُ باسمه غفـران الخطايا» (أع 10: 40-43 الترجمة العربية الجديدة).

بنـوَّة المسيح لله صارت علاقـة مُبْرَمة بين الله والبشر: ففي نور القيامة أصبحت قيامة الرب يسوع مفهومـة على أنهـا إثبات ملوكيَّة المسيَّا - المسيح، وسلطانه الروحي، ليملك على ملكوت الله. وهكذا فـإنَّ القيامة نَقَضَتْ وأَبطَلَت حُكْـم الموت، وصانت خدمة ”العبد المتألِّم“ القائم من الموت.

الوعد الذي وُعِدَ بـه داود النبي، قد تحقَّق: الرجاء في القيامة من الموت الذي ظلَّ مدفوناً في سِفْر المزامير، ها هو يظهر في قيامة المسيح من الموت. وبطرس الرسول فَهِمَ قيامة الرب يسوع على نور الوعـد الذي وُعِدَ به داود النبي في المزمور 16:

+ «... مات أبونـا داود ودُفِنَ، وقبرُه هنا عندنا إلى هذا اليوم. وكان نبيّاً، فعَرِفَ أن الله حَلَفَ له يميناً أنَّ مـن صُلْبه حسـب الجسـد يُقيم المسيح على عرشـه. وتكلَّم داود على قيامـة المسيح، كما رآها مـن قبل، فقـال: ”مـا تركـه الله في عـالم الأموات، ولا نال من جسده الفسادُ“» (أع 2: 29-31 الترجمة العربية الجديدة).

سلطانـه صار واضحاً: لقـد تمجَّـد المسيح باعتباره المسيَّا الملك، وذلك بقيامته مـن الموت. لقـد نهض، حيث أصبح واضحاً السلطان الإلهي الذي للرب القائم من الموت:

+ «فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِـلاً: ”دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَـاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُـمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْـنِ وَالـرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُـمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِـهِ. وَهَـا أَنَا مَعَكُـمْ كُـلَّ الأَيَّـامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْـرِ“» (مت 28: 18-20).

(يتبع)

(1) Cyril of Jerusalem, Catech. Lect. XIV; NPNF, 2, VII, pp.94-103.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis