دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 38 -

ثانياً: الأسفار التاريخية

12 - سِفْر أستير

مُقدِّمـة:

سِفْر أَسْتِير هو أحد أسفار المجلُّوث (أي أسفار المجلاَّت الخمس)(1)، ويقرأ اليهود سِفْر أستير في عيد ”البيوريم“ أو ”الفيوريم“ في 13 و14 من شهر آذار الموافق حلوله في أيٍّ من شهرَي فبراير ومارس، حيث ظهرت يد الله القويَّة لحماية شعبه من الهلاك على مدى السِّفْر، رغم أنه لم يَرِدْ اسم الله مرَّةً واحدة خلال السِّفْر كله. فقد دبَّـر هامان أحد كبار رجال القصر الملكي، مؤامرة لإبادة اليهود، وتسبَّبت في خطرٍ داهم على شعب الله، وواجهتْ أستير هـذا الخطر بشجاعةٍ فائقة بمؤازرة مُرْدَخَاي ابن عمِّها؛ مِمَّا أدَّى إلى تدخُّل الله لإنقاذهم بمعجزةٍ. وأصبح عيد البيوريم تذكاراً سنوياً كذِكْرى لأمانة الله لعهده مع شعبه على مدى الأجيال.

كاتب السِّفْر:

بينما لم يُذكَر في السِّفْر شخصية كاتبه، ولم يُبيِّن شيئاً يكشف عن معرفة الكاتب للتقاليد الفارسية، ولا عن شوشن القصر، إلاَّ أنَّ تفاصيل الأحداث التي صاحَبَت حُكْم أحشويرُوش الملك، تُبيِّن أنَّ الكاتب كان يعيش في بلاد فارس في تلك الفترة. كما أنه من الواضح جنسية الكاتب اليهودية ودرايته بشئون اليهود، مِمَّا يُرجِّح أنَّ الكاتب كان يهوديّاً. ويظنُّ البعض أن عزرا ونحميا يمكن أن يكون أحدهما أو كلاهما كانا هما السَّاردَيْن لهذه القصة، إلاَّ أنَّ أسلوب سِفْر أستير يختلف تماماً عن سِفْرَي عزرا ونحميا.

تاريخ كتابة السِّفْر:

يُرجَّح أنَّ الأحداث التي جاءت في سِفْر أستير حدثت فيما بين سنة 483 وسنة 473 ق.م. وتقع بين الأصحاحات 6-7 من سِفْر عزرا، بين العودة الأولى لأورشليم التي قادها زَرُبَّابل، والعودة الثانية التي قادها عزرا. وكَوْن كاتب سِفْر عزرا يتحدَّث عن الملك أحشويروش في الزمن الماضي (1: 1)، يُرجِّح أنَّ السِّفْر قد كُتِبَ في زمن حُكْم الملك أرتحشستا الأول (465-425 ق.م). وحسب أسلوب الكتابة، فإنَّ هـذا السِّفْر يُحتَمَل أن يكون قد كُتِبَ في النصف الأخير من القرن الخامس أو النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد.

التكوين الأدبي والروحي للسِّفْر:

تاريخياً، سِفْر أستير يكشف عن جزء من تاريخ اليهود خلال أَسْر اليهود في بلاد فارس. وهو يُبيِّن صورة كتابية عن الأغلبية الساحقة من اليهود التي فضَّلت أن تبقى في فارس عن العودة إلى فلسطين. ورغم أنه ليس هناك سبب للشكِّ في الصفة التاريخية للسِّفْر، إلاَّ أنَّ سِفْر أستير هو في الواقع أيضاً يُمثِّل قصة محبوكة حَبْكاً أدبياً مُتميِّزاً، يُقدِّم فيه الكاتب مؤامرة مُدبَّرة تدبيراً مُحْكَماً خطيراً، وخلاصاً عجيباً محبوكاً حَبْكاً ماهراً كذلك.

وينقسم السِّفْر إلى قسمين رئيسيَّيْن: التهديد الذي تعرَّض له اليهود (أصحاحات 1-4)، والانتصار الذي أحرزوه (أصحاحات 5-10). علماً بأنَّ كلمة ”أستير“ كلمة فارسية معناها ”نجمة“؛ أما الاسم العبري فهو ”هَدَسَّة“ ومعناه ”الآس“، وهي شجرة صغيرة أوراقها زاهية دائمة الاخضرار وزهورها بيضاء ذات رائحة عَطِرة. وأستير هي مـن سُلالة ”قيس“، أي أن‍ها ذات قرابة لأُسرة شاول أول ملوك إسرائيل. أما من الناحية اللاهوتية: فإنَّ العناية الإلهية الظاهرة لحماية الله لشعبه تسود في هذا السِّفْر، رغم أنَّ اسم الله لم يُذكَر قط في هذا السِّفْر. وهذه الحقيقة أدَّتْ إلى قيام بعض الاعتراضات المتأخِّرة في الحُكْم على قانونية هذا السِّفْر، والتي انتهت بالموافقة على قانونيته. ورغم أنَّ الله يؤدِّب شعبه إلاَّ أنه لم يتركهم، فإله إسرائيل هو ال‍مُهيمِن على التاريخ، وعنايته بشعبه واضحة جدّاً في كلِّ صفحة من السِّفْر.

وقد اختيرت أستير لتكون ملكة وزوجة للملك أحشويروش بعد رَفْض الملكة الفارسية ”وَشْتي“ المثول لأمر الملك. وكان مردخاي ابن عم أستير هو أحد حُرَّاس قصر الملك، وقد أَحبط مؤامرة دُبِّرت لاغتيال الملك من اثنين من الخصيان، وكان مردخاي حارساً لباب قصر الملك. وكُتِبَ ذلك في سِفْر أخبار الأيام أمام الملك أحشويروش (2: 23،22). وحدث، بتدبيرٍ إلهي، أن قرأ الملك ما فعله مردخاي في إحباط المؤامرة في الوقت المناسب. ويُبيِّن السِّفْر أنَّ شيئاً من هذا كله لم يحدث صُدْفةً، مِمَّا يدلُّ على أنَّ الله هو الضابط لكلِّ شيء، وهو الذي دبَّر أن يحفظ عهده ووعده مع أبناء إبراهيم.

كما أنه من المهم مُلاحظة سلوك شعب الله في سِفْر أستير، إذ لم ينتقموا من أعدائهم بنَهْب مُمتلكات‍هم. كما أنَّ الضيقة التي حلَّت ب‍هم كانت بسبب أن مردخاي رَفَضَ أن يسجد لهامان أكبر أُمراء الملك، مِمَّا أثار غيظ هامان منه. فلم يستسلم مردخاي وصمَّم أن يظلَّ ولاؤه وعبادته لله وحده. كما أنَّ الاحتفال بخلاص اليهود كان من الأغراض الأساسية في سِفْر أستير. فقد ذُكِرَت عشر ولائم وأُقيمت الاحتفالات لهذا الغرض في كلِّ بلاد فارس. وقد سعت أستير لإنقاذ شعبها دون خوف من هامان الذي كان ذا سطوة وسُلطان. أمَّا الاحتفال ب‍هذا الخلاص فقد كان هدفاً هاماً للسِّفْر، وهو شرح لأصل العيد اليهودي المدعو البيوريم أو الفيوريم (أستير 9: 18-32).

+ وفيما يلي جدول تصويري لمحتويات السِّفْر:


مُلخَّص لمحتويات السِّفْر:

القسم الأول: تهديد اليهود (1: 1-4: 17):

1. اختيار أستير مَلِكة (1: 1-2: 20):

أ - الطلاق من وَشْتي الملكة السابقة (1: 1-22). ب - الزواج من أستير (2: 1-20).

2. تدبير المؤامرة لإهلاك اليهود بواسطة هامان (2: 21-4: 17):

أ - مردخاي يكتشف مؤامرة اغتيال الملك (2: 21-23). ب - هامان يغتاظ مـن عدم سجود مردخاي له (3: 1-4: 17).

القسم الثاني: نجاة اليهود وانتصارهم (5: 1-10: 3):

1. انتصار مردخاي على هامان (5: 1-8: 3):

أ - بداية الانتصار وكَشْف مؤامرة اغتيال الملك (5: 1-6: 3). ب - مردخاي يُكرَّم (6: 4-14).

ج - موت هامان على الصليب الذي أعدَّه لمردخاي (7: 1-10). د - مـردخاي أُعطِيَ منـ‍زل هامان (8: 1-3).

2. انتصار اليهود على أعدائهم (8: 4-10: 3):

أ - الإعداد لنصرة اليهود (8: 4-17). ب - انتصار اليهود على أعدائهم (9: 1-16).

ج - احتفالات اليهود (9: 17-10: 3).

العادات الفارسية كما جاءت في سِفْر أستير:

يُسجِّل سِفْر أستير الأحداث التي تمَّت خلال حُكْم الملك أحشويروش في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، في شوشن قصر الملك، العاصمة الإدارية لإمبراطورية فارس. فبعد موت داريوس الأول (الملك الذي سمح لأيِّ يهودي يرغب في العودة إلى وطنه، أن يُحقِّق رغبته)، صار ابنه أحشويروش مَلِكاً. وغضب أحشويروش على زوجته الملكة وَشْتي وطلَّقها وتزوَّج من أستير. وأُقيمت الولائم التي تميَّزت بفخامتها وأُبَّهتها. ووصف سِفْر أستير العادات الفارسية في الأَكل بالاتِّكاء على الأَسِرَّة والوسائد. وكانت كل أدوات المائدة من الذهب والأطباق من معادن مختلفة عن بعضها، والخمر الملكي بكثرة حسب كَرَم الملك (1: 7). وكانت هناك قوانين مُعيَّنة تحمي الملك الفارسي، حيث يُشير (1: 11) إلى سبعة أُمراء فقط هم ال‍مُقرَّبون للملك الذين يَرَوْنَ وجه الملك ويجلسون في حضرته ويعملون كمُشيريـن له. ولا يُسمَح لأحدٍ بزيارة الملك إلاَّ الذي يستدعيه الملك، وهي عادة تُبيِّن عِظَم كرامة الملك علاوة على حمايته من الاغتيالات. حتى أستير الملكة، فإن‍ها كانت تخشى الذهاب إلى أحشويروش بدون استدعائها، لأن عقوبة مقابلته بدون استدعاء هي الموت (4: 11).

وكـانت الإمبراطورية الفارسية تفتخر بوجود نظام بريدي دقيق (3: 13). وكـان خاتم الملك (8: 8) هـو الخَتْم الذي تُخْتَم به المستندات الرسمية. وفي فارس القديمة كانت المستندات تُخْتَم بطريقتين: بالخاتم الملكي إذا كـانت مكتوبة على ورق البردي، أو باسطوانة ملحومة إذا كانت مكتوبة على أقراص من الفُخَّار. ومن بين الأشياء التي اكتُشِفَت تحت الأنقاض في مدينة بيرسيبوليس Persepolis، أسطوانة ملحومة تعود إلى أيام الملك كورش. ويُشير سِفْر أستير إلى سُنَن فارس ومادي (1: 19). وهـذا النص يصف صرامة هذه السُّنن التي لا تُنقَض، والتي تحكُم الإمبراطورية الفارسية. فإذا صَدَرَ حُكْمٌ، فلا يمكن نقضه أو تغييره، حتى ولو بواسطة الملك نفسه.

(يتبع)

(1) وهي التي تتحدَّث عن الأيام الخاصة باليهود، تلك التي يحتفلون فيها بخلاصهم من أعدائهم. أولها: خروجهم من أرض مصر، وتُقرأ فيه أُنشودة سليمان، والمرجع الكتابي (خر 12؛ لا 23: 4-8)، ويُعيِّدون له في 14 نيسان، ويُسمَّى ”عيد الفصح“ و”عيد الفطير“. والثاني: عيد الخمسين، ويُسمَّى بالعبرية ”شافوت“، ويقع في 6 سيفان، والمرجع (تث 16: 9-12؛ لا 23: 2-14)، ويُقرأ فيه سِفْر راعوث، ويحتفلون فيه بحصاد القمح وتقليم الكروم. والثالث: ذكـرى هَدْم الهيكل في سنة 586 ق. م وسنة 70م في 9 آب، ويُقرأ فيه سِفْر مراثي إرميا. والرابع: عيد المظال، ويُدعَى بالعبرية ”سكُّوت“ في 15-21 تشري، والمرجع (نح 8؛ لا 23: 33-36)، وهو تذكار التيه في الب‍ريَّة، ويُقرأ فيه سِفْر الجامعة. والخامس: عيد البيوريم في 13 و14 آذار، ويُقرأ فيه (أستير 9)، وهو تذكار فشل مؤامرة هامان لإبادة اليهود. وكلمة ”بيوريم“ أو ”فيوريم“ مأخوذة من كلمة ”فور“ أي ”قرعة“، لأن هامان ”ألقى فوراً أي قرعةً لإبادة اليهود“. وهـو تذكار أيضاً للبطولة التي قامت ب‍ها أستير بتعريض نفسها للموت مـن أجل إنقاذ بني جنسها، وصارت أداة في يد الله لخلاصهم. فالعيد لا يحتفي ب‍هلاك الأعداء، بل بإنقاذ اليهود من اضطهاد أعدائهم لهم. ويتميَّز هذا العيد بإقامة الولائم والاحتفالات والفرح باستعلان العناية الإلهية.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis