تأملات روحية



«روح الحق»
(يو 16: 13)

«موعد الآب»:

بعد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، كان الرب القائم يظهر لتلاميذه في العلِّيَّة، ومكتوبٌ في سِفْر أعمال الرسل أنـه «أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَـهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُـوَ يَظْهَـرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمـاً، وَيَتَكَلَّمُ عَـنِ الأُمُـورِ الْمُخْتَصَّـةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ. وَفِيمَا هُـوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَـاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِـنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا ”مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي“» (أع 1: 4،3).

وكان الرب يسوع قد «أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ» (أع 1: 2)، إذ قال لهم: «وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُـوا قُـوَّةً مِـنَ الأَعَـالِي» (لو 24: 49).

وقد رَبَط إنجيل القديس يوحنا ما بين صَلْب الرب يسوع وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السموات، وبين انسكاب الروح القدس على المؤمنين به، إذ بعدما نادَى الرب قائلاً: «”إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ“»؛ علَّق القديس يوحنا في إنجيله: «قَـالَ هذَا عَـنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُـنْ قَـدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يو 7: 37-39).

+ ويُعلِّق القديس كيرلس الكبير على ”أنهار الماء الحي“، قائلاً:

[(الرب) يُظهِر أن مجازاة الإيمان عظيمة وبلا نهاية، ويقول إنَّ مَن يؤمن سيَنْعَم بأغنى نِعَم الله، لأنه سيمتلئ بعطايا الروح (القدس)، فلا يُسمِّن (أي يُغني) ذهنه فقط، بل يصبح قادراً أيضاً على أن يفيض على قلـوب الآخريـن، كتيار النهر المُتدفِّق الذي يفيض بالخير المُعطَى من الله على جـاره أيضاً... ويمكن للمـرء أن يـرى ذلك، وبشـكلٍ مُتزايـد جـدّاً في كـلٍّ مـن الإنجيلـيين القدِّيسـين، وفي المُعلِّمـين الإنجيليين في الكنيسـة، الذيـن يفيضون بغنًى على مَـن يأتـون إلى المسيح بالإيمان، بكلمة التعليم المُوحَى بـه، فيُفرِّحـونهم روحيّاً، ولا يجعلونهـم بعد عَطشَى إلى معرفـة الحـقِّ، وبـأصواتهم الحكيمة، يصيحون عالياً في قلب أولئك الذيـن قـد تهذَّبوا بالتعليم... إذن، مِـن الواضح جداً أنَّ المُخلِّص يقول إنـه: ”من بطن الذي يؤمـن (بي) ستأتي النعمـة التي تُعطَى بالروح (القدس)“](1).

+ ويستطـرد القديـس كيرلـس الكبير في شرحه عن الروح القدس، قائلاً:

[كيف أنَّ «الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُـنْ قَـدْ أُعْطِيَ بَعْدُ»؟... فإنَّ هـذا الكائـن الحي العاقـل على الأرض، أعني الإنسان، قد خُلِقَ منذ البدء في عدم فساد. وكان السبب في عدم فساده وفي بقائه في كلِّ فضيلة، هو على وجه اليقين أنَّ روح الله كـان يسكن فيه، لأن (الله) «نَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ»، كما هـو مكتوب (في تك 2: 7). لكنه، وبسبب تلك الخدعـة القديمة، قـد انحرف إلى الخطية، ثم تتابَع تدريجياً في الغلو في هـذه الأمور، ورغم ما تبقَّى لديه مـن أمورٍ صالحة عانَى من فقدان الروح (القدس). وفي النهاية أصبح خاضعاً، ليس فقط للفساد، بل عُرْضة أيضاً لكل الخطايا.

لكن حينما قَصَدَ خالق الجميع أن «يَجْمَعَ كُـلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ» (أف 1: 10)، وأراد أن يستعيد من جديد طبيعة الإنسان إلى حالتها الأولى، وَوَعَدَ أن يُعطيها الروح القدس مـن جديد أيضاً مع المواعيد الأخرى...؛ فقد بَدَأ الله الآب يُعطي الروح مـن جديـد، وكـان المسيح أول مَن قَبِلَ الروح (القدس)، كباكورة الطبيعة المُتجدِّدة، لأن يوحنا (المعمدان) شَهِدَ قائلاً: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ» (يو 1: 32)](2).

لكن، الروح القدس هـو الأقنوم الثالث مـن الثالوث القدوس، وهـو مساوٍ للآب والابـن في الجوهر الواحد. ونَعْلَم أنـه عندما بُشِّـرَت العذراء مريـم بـالحَبَل بمُخلِّص العالم، أجـابها المـلاك المُبشِّر: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِـلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لو 1: 35). وهنا يـردُّ القديس كيرلس الكبير على هذا التساؤل الـذي يـدور في خَلَـد البعض: ”كيف قَبِلَ المسيحُ الروحَ (القدسَ)“؟ قائلاً:

[يجب (علينا) أن نفحص مـا يُقال. هـل كـان المسيح (كإلهٍ) كأنـه بغير روح؟ لا نقول ذلك، حاشا لله! لأن الروح (القدس) هـو روح الابن الذاتي (أو الأزلي)، ولا يُعطَى له من خارجه، كما تأتينا نحـن أمور الله مـن الخارج؛ بـل الروح (القدس) كائنٌ فيه بالطبيعة تماماً كما هو في الآب. وبواسطة الابـن يأتي (الروح القدس) إلى القدِّيسين ويُوزَّع مـن الآب كما يوافق كل واحد. ولكن قيل عـن المسيح إنـه قَبِلَ الروح لأنـه صار إنسانـاً، ويُوافق الإنسان أن يأخذ. وهـو (في نفس الوقت) ابـن الله الآب، مولودٌ من جوهره من قبل التجسُّد، بل قبل كل الدهور. فليس عيباً أن يقول الله الآب للابن الذي صار إنسانـاً: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (مز 2: 7)، لأن ذلك الذي هـو الله قبل الدهور قد وُلِدَ منه (أي أنَّ ابن الله قد وُلِدَ من الله الآب قبل كـل الدهور)، ولذلك يقول: إنه وَلَدَه في هذا اليوم، حيث يُدخِلنا فيه إلى البنـوَّة، لأن الطبيعة البشريـة كلها كانت في المسيح، إذ أنـه صار إنساناً. لهذا قـال الآب للابن - الذي له روحه الذاتي (الأزلي) - إنه يُعطيه الروح (القدس)، حتى يمكننا أن ننال الروح فيه هو](3).

«إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزِّي»:

من البَيِّن أن تدبير الخلاص الذي أكمله الرب يسوع، بتجسُّـده، وصَلْبه، وقيامتـه مـن بـين الأمـوات، وصعوده إلى السموات؛ قـد ظهرت ثماره المُبارَكة أولاً في ناسوت الرب الذي اتَّحد بـه اتِّحـاداً أقنومياً. وبالتالي لا يمكـن أن تنتقل إلينـا، كبشـرٍ - بصفةٍ عامة – هـذه الثمار الخلاصية إلاَّ بواسطة الروح القدس الذي يأخـذ مِمَّا للمسيح ويُخبرنا ويَهَبنا (يو 16: 15،14).

+ ويشـرح القديس كيرلس الكبير انسكاب الروح القدس على البشرية، بهذه الكلمات:

[إنَّ المسيح لم يقبل الروح لأجل نفسه، بـل بـالأحرى لأجلنا نحن (البشر) فيه، لأن كـلَّ الصالحات تفيض أيضاً فينا بواسطته. لأنه إذ قد حَادَ جدُّنـا آدم بـالخديعة، فسقط في العصيان والخطية، ولم يحفظ نعمـة الروح (القـدس)؛ هكـذا فَقَدَت الطبيعة البشريـة كلها فيه (أي في آدم) الخير المُعطَى لها مـن الله. لهذا لَزِمَ أنَّ الله الكلمـة غير المُتحـوِّل أن يصير إنسانـاً، حتى إذا ما نـال - كإنسانٍ - (الروح القدس)، يمكنه أن يحفظ الصـلاح في طبيعتنـا على الدوام... لهـذا صـار الابـن الوحيد إنسانـاً مثلنا، حتى تعود فيه هو أولاً (أي في ناسوته المُتَّحـد بلاهوتـه) الصالحات ونعمـة الروح (القدس)، وتكون متأصِّلة فيه، فتُحْفَظ في أمانٍ لطبيعتنا (البشرية) كلها...

وإن فحصتم عـن السبب في أنَّ سَـكْب الروح (القدس) قد تمَّ بعد القيامة وليس قبلها، ستسمعون الإجابة: إنَّ المسيح قد صار وقتئذ باكورة الطبيعة الجديـدة، حينما أَبْطَلَ قيـود الموت وقام ثانيةً (”وله كل طبيعتنا في ذاته، إذ أنـه صار إنسانـاً وواحداً منَّا“). وينبغي، إذن، لأولئك الذين جاءوا بعده أن يَحْيَوا مثل الباكورة، لأنه كما أنَّ النبات لا يُزهِر، إنْ لم يكُن له جذره الخاص بـه، والذي عن طريقه يتغذَّى وينمو؛ كذلك كـان من المستحيل أننا نهلك، إذ لنا ربنا يسوع المسيح جـذر عـدم فسادنـا... والآن إذ ظَهَرَ أنَّ وقـت حلول الروح القدس علينا كـان قـد جـاء، بعـد القيامة مـن الموت، فنراه (أي الـرب يسوع القائم) وقـد نَفَخَ في تلاميذه، قائلاً: «اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ» (يو 20: 22)، إذ كـان زمن التجديد حقّاً على الأبواب حينذاك...

لأنه في البدء، كما قال الناموس – المتسربل بالروح – إنَّ خالق الجميع، إذ أَخَذَ من تراب الأرض وخلـق الإنسان، «نَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ» (تك 2: 7). وما هي نسمة الحياة! سوى أنها بالتأكيد روح المسيح الذي يقول: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ» (يو 11: 25). لكن حيث إنَّ الروح (القدس) القادر أن يجمعنـا ويُشكِّلنا إلى الرسم الإلهي (أي إلى صـورة الله التي جُبِلْنا عليها، والتي تشوَّهت من جراء عصيان وصية الله)، قـد غادر الطبيعة البشرية؛ فإنَّ المُخلِّص يُعطينا هذا الروح مـن جديد، ليأتي بنا - مرَّةً أخرى - إلى الكرامة القديمة مُجدِّداً خلقتنا إلى صورتـه الذاتية. لهـذا يقول بولس (الرسول) أيضاً: «يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ» (غل 4: 19)](4).

«روح الحق... يُرشدكم إلى جميع الحق»:

كـان لا يمكن أن يُدرك التلاميذ، ومـن بعدهم المؤمنون بـالرب يسوع، أسـرار تدبير الخلاص، والأشياء الموهوبة لنا من الله بابن الله المُتجسِّد؛ إلاَّ بواسطة الروح القدس الذي وَعَدَنا الرب يسوع بأنه ”المُعزِّي الذي يمكـث معنا إلى الأبد“ (انظر يـو 14: 16). وكما قـال إنجيل القديس يوحنـا: إنَّ انسكاب الـروح القدس مرهـونٌ بتمجيـد الـرب يسوع، بصلَبْه وقيامته مـن بـين الأمـوات، ثم صعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين الآب.

فالتلاميذ، ونحـن المؤمنين معهم، في حاجةٍ ماسَّـة إلى إرشـاد الروح القدس لنا، وقيادتـه لحياتنـا، وتبصيرنا بأسرار ملكوت الله، وتكميل شركتنا مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.

+ ويُـوضِّح القديس كيرلس الكبير إرشـاد الروح القدس لنا، قائلاً:

[يقـول الرب: «وَأَمَّا مَتَى جَـاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُـوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ» (يو 16: 13). انظروا كيف أنَّ التعبير يخلو من أيَّـة مُبالغة، ولاحظوا اتِّزان العبارة. فبعد أن أخبرهم (الـرب) أنَّ المُعـزِّي سيأتي إليهـم، دعـاه: ”روح الحق“، أي روحـه، لأنـه هـو الحق. فلكي يعـرف تـلاميذه أنـه لا يَعِدُهُم بمجيء قـوَّةٍ أجنبيـة غريبـة، بـل بالحـري هـو سيمنحهـم حضـوره الشـخصي في صـورةٍ أخرى؛ (لذلك) فهـو يدعـو المُعـزِّي ”روح الحق“، أي روحـه الخاص. فـالروح القدس ليس - في الحقيقة - غريباً عـن جوهر الابن الوحيد، فهو مـن نفس الجوهر، وغير مُنفصل عن الابن مـن جهة وحدة الطبيعة، رغم أنـه (الروح) يُدرِك أنَّ له أقنوماً مُتميِّزاً عن الابن.

إذن، فهـو (أي الـرب يسوع) يقول: إنَّ روح الحق سيُرشـدكم إلى المعرفـة الكاملة للحقِّ. فإذ له معرفة كاملة للحقِّ (أي الابن)، فهو لن يَهَب إعلاناً جُزئيّاً للحقِّ لأولئك الذين يعبدون الحق؛ بل بالحري يغرس في قلوبهم سـرَّ الحـق بكامله. لأنـه حتى إن كُنَّا الآن ”نعـرف بعض المعرفة“، كما يقـول الرسول بولس (انظر 1كو 13: 9)، ورغم أنَّ معرفتنا لا تزال محدودة؛ فإنَّ جمال الحق قد أَوْمَضَ علينا كاملاً ونقيّاً. وكما ”أنـه لا أحـد يعرف أمـور الإنسان إلاَّ روح الإنسان الذي فيـه“؛ «هكَـذَا أَيْضـاً (بنفس الطريقـة) أُمُـورُ اللهِ لاَ يََعْرِفُهَا أَحَـدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ»، كما يقـول الرسول بولس (1كو 2: 11)...

ويقول المُخلِّص: ”إنـه متى جـاء المُعزِّي فهو «لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ»؛ بل إنه لن يُخبركم بشيء غير متَّفِقٍ مع تعليمي“. ولا يقول: ”إنه سيُعطيكم أي تعليمٍ غريب، لأنـه لـن يُقدِّم لكم قوانينَ خاصة به؛ بل حيث إنـه روحي، وكأنه هـو فكري، فهـو بالتأكيد سيتكلَّم إليكم عـن الأمور الخاصة بي“... ولهـذا السبب أضاف: ”«وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يو 16: 13)، فهو لم يكُن ليُخبركم بأمورٍ آتية، كما فعلتُ أنـا، لو لم يكُـن موجوداً فيَّ ويأتي إليكم بواسطتي، ولو لم يكُن له نفس الجوهر معي“](5).

(1) ”شرح إنجيل يوحنا“، المجلَّد الأول، يو 7: 38.
(2) ”شرح إنجيل يوحنا“، المجلَّد الأول، يو 7: 39.
(3) شرحه.
(4) شرحه.
(5) ”شرح إنجيل يوحنا“، المجلَّد الثاني، يو 16: 13،12.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis