من تاريخ كنيستنا
- 159 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا كيرلس الرابع
البطريرك العاشر بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1854 - 1861م)
- 8 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) مُساهمة فرنسا وانجلترا في الإيقاع

بين البابا كيرلس الرابع والوالي سعيد باشا:

+ قضى أبـو الإصلاح ورفيقاه (بطريـرك الروم الأرثوذكس وبطريرك الأرمن الأرثوذكس) ستة أشهر بدير القديس أنبا أنطونيوس في الجبل الشرقي. وبعد ذلك سافر إلى القاهرة، وما كاد أن يصل إلى القاهرة، حتى جاءه رسولٌ من الوالي يستدعيه إلى القصر. ولمَّا لم يُلبِّ طلب الوالي، جاءه رسولٌ ثانٍ، فثالث. وحينئذ لم يجد بُدّاً من الذهاب إلى الوالي.

+ وبعد ساعةٍ واحـدة، عاد البابـا إلى الدار البابوية مغموماً، إذ أنـه فَهِمَ من مقابلة الوالي، ومن حديث ”الأغاوات“ بالتركية، أنهم دسُّوا للبابا كيرلس السُّـمَّ في فنجان القهـوة، فـرفض أن يشربه(1). ولكـن الغمَّ النفسي بلغ بالبابا كيرلس حدّاً جعل الحُمَّى تُصيب جِسْمه.

+ ولمَّا سمع الوالي بـذلك، ادَّعـى الأسف لمرض رجـل الله، فـأرسل له طبيبه الخاص، وكـان فرنسيَّ الجنسية؛ إلاَّ أنَّ البابا رفض دواء هذا الطبيب الآتي إليه مِمَّن يُضمرون له السوء.

+ وحين عَلِمَ سعيد باشا بهـذا الرفض مـن جانب البابـا، استعان باثنين مـن أخصِّ أصدقاء البابا، ليكونا بمثابـة ”يهوذا الاسخريوطي“ (الذي خـان سيِّده المسيح وأَسْلَمَه إلى اليهود)، أَوْفَدْهما ومعهما الطبيب الفرنسي. وهـذان الصديقان هما وكيل بطريـركية الأَرْمَـن والخواجـة ”يوحنا مسـرَّة“(2) اللـذان قَصَدا إليه للسـؤال عنـه، وبصُحبتهما الطبيب الـذي امتدحـاه. وطلبا إلى رجـل الله الـنزول على نصيحة الطبيب لأنـه موثوقٌ بـه! فصدَّق البابا مشورتهما ارتكاناً إلى صداقتهما له، وتناوَل الدواء من الطبيب ”الموثوق به“! وما إن استقرَّ الدواء في معدة البابا، حتى أدرك - ولكـن بعد فوات الأوان - أنَّ صديقيه قـد غدرا بـه، وبهذا أضافا على غدرهما غدر القنصلين والوالي. وهكذا أحسَّ البابا بالمنيَّة تدبُّ في جِسْمه.

+ ومـا كـاد الزمن يصل إلى ليلة الأربعاء 30 ينايـر سنة 1861م، حتى استودع البابـا كيرلس الرابع روحه بين يدّي الآب السماوي.

+ وهكذا لم تَدُمْ بابويَّته غير 7 سنين وثمانية أشهر. وعلى ذلك فيكون البابا كيرلس الرابع قد نال إكليل الشهادة. وبهذا انضمَّ إلى ذلك الصفِّ الطويل والجمهور الوفير مـن أولئك الذين جادوا بدمائهـم في سبيل عقيدتهـم. ويُضاف إلى ذلك، حِفْظ البابا كيرلس الرابع الكنيسة القبطية في أمانتها على بُعْدها عـن سياسات الدولة، والتزام الرعاية لشعب الكنيسة من أجل خلاص نفوسهم، وليس لحسابات رؤساء البلاد.

صَدَى استشهاد البابا كيرلس الرابع:

+ لقد كان لاستشهاد البابا كيرلس رنَّة أَسًى دوَّت في أرجـاء وادي النيل، مـن شاطئ البحر المتوسط إلى النوبة، فالسودان، فإثيوبيا (الحبشة في ذلك الحين)؛ إذ وَجَدَ فيه الجميع أبـاً عطوفاً ساهراً، وبخاصةٍ المُنقطعين (أي الغلابة والمساكين، وذوي ”البـيوت المستورة“، أي الفقـراء ذوي الحاجـة الذين ليس لهم مَن يعولهم أو يسترهم، ومن ضمنهم الأَرامـل اللَّواتي فَقَدْنَ مَـن يعولهُنَّ). فقد وَجَدَ فيه الشعب القبطي أباً عطوفاً ساهراً.

+ وكـان تجنيزه باحتفالٍ مهيب، اشترك فيه كبـار رجـال مصر ورؤساء الكنائس المختلفة. ومـن العجيب بمكـان أنَّ وكيل البطريـركية الأرمنية، الذي ساهم بنصيبه في التعجيل بالقضاء على حياة البابا كيرلس الرابع أبي الإصلاح، قد وقف ورثاه وسط الجمع الحاشد، باللغة التركية التي هي لُغـة حُكَّام الدولـة العثمانية في ذلك الوقت!

+ وبعد الانتهاء مـن الشعائر الكنسية ذات الرهبة الخاصة، دفنوه في مقبرة جديدة كـان قد أعدَّها لنفسه، وهي تقع ما بين الكنيسة المرقسية الكبرى والكنيسة الصغرى المجاورة لها، والتي سُمِّيَت بـاسم أول الشهداء ”اسطفانـوس“ رئيس الشمامسة في عصر الرسل(3).

+ وهكذا مـرَّت بابويَّة الأنبا كيرلس الرابع مروراً سريعاً، ولكن آثارهـا مـا زالت باقية، وكذلك ما زالت ذِكْراه تبعث في النفوس رَهْبَة هي مزيجٌ من الأَسى والغبطة؛ كما تنفخ العزيمة داخل كـل نفس مُتطلِّعة نحو ازدهـار الكنيسة، والتسامي بالروح.

+ والمطبعة التي أسَّسها البابا كيرلس الرابع، لم تُمهله الأيام ليَنْعَم بثمار عملها. وبعد استشهاده، ظلَّت مُعطَّلة إلى أواخر بابوية الأنبا ديمتريوس الثاني. وعند ذلك التاريخ، تقدَّم إلى قداسة البابـا ديمتريـوس أَخـوان شقيقان همـا: ”رزق بـك لوريـا“(4)، وأخوه ”إبراهيم جرجس“؛ وطلبا إليه استعارة المطبعة لاستخدامها فيما يعود بالنفع على الكنيسـة والأقباط، فَقَبِلَ البابـا طلبهما. فنقـلا المطبعة مـن الدار البابوية إلى وقف دير الأنبا أنطونيوس. ثم وجـدا أنَّ الحروف غير كـافية للعمل، فكلَّفا حفَّاراً ماهـراً اسمه ”موسى محمد“ بعمل قاعدة للحروف. فأنجز لهما قاعدة حروف كبيرة لطَبْـع الكُتُب الكنسية، وحـروف صغيرة لطَبْع الكُتُب الأخرى.

+ ثم حـدث أن شبَّ حريـقٌ في متجرهما، فتركـا الاتِّجار بالأخشاب، وانصرفا إلى تشغيل المطبعـة. وكـان أول كتـاب طبعـوه هـو ”القطمارس“، أي فصول العهد الجديد التي تُتلى في الكنائس مُرتَّبة على أيام السنة. وتبع ذلك، طَبْع كتاب ”خُطَب أولاد العسَّال ومواعظهم“. وكانت هـذه الكُتُب وكأنها نورٌ أضاء في ظلمة استخدام كُتب طقوس الكنيسة التي كـانت تُنسخ باليد بواسطة رهبان الأديرة في ذلك الوقت.

إصدار أول صحيفة قبطية:

ثم طرأت على فكر ”رزق بك“ فكرة، كانت بلا شكٍّ مـن وَحْي الروح القدس، وهي إصدار جريدة أسبوعية. فذهب هـو وأخوه إلى ”ميخائيل عبد السيد“(5)، وتفاهما معه على تأسيس الجريدة المرغـوب فيها، وكـان اسـمها ”الوطـن“(6). وبالفعل، تمَّ الاتِّفاق بين ثلاثتهم على انتخاب لجنة لإدارة الجريدة تحت رئاسة ”ميخائيل“ الذي سُمِّي أيضاً ”رئيساً للتحرير“، ويُعاونـه ”جرجس أفندي ميلاد“ ناظر المدرسة الإنجليزيـة سابقاً، و”يسَّى بك عبد الشهيد“ الذي كـان قـاضياً في المحاكم الأهلية، وكـان معهم ”تادرس بك إبراهيم“ الذي كان قاضياً أيضاً.

+ واختُصَّ ”إبراهيم لوريا“ بالإدارة، وأخوه ”رزق“ بمُباشـرة طبع الكُتُب الدينيـة. وفي سنة 1875م، نُقِلَت المطبعـة مـن مكانهـا إلى بيت الوقف في شارع كلوت بـك؛ ثم أصبحت تُعرَف باسم ”مطبعة الوطن القديمة“ سنة 1883م.

نجاح الجريدة الأولى في مصر:

نجحت الجريدة الأولى في مصر، كما أَخذت الكُتب في الانتشار. فـرأى رزق بـك وأخـوه إبراهيم، وجوب إنشاء مكتبة تكـون مركزاً لبيع الكُتب وترويجها بسهولة.

فقـام رزق بـك وأخوه إبراهيم بتأسيس هيئة على شكل شـركة تتكوَّن منهما، ومعهما: ميلاد جرجس، وميخائيل عبد السيد، وحنا خير، ويسَّى عبد الشهيد. وقد استمرَّت هذه المكتبة قائمة إلى أن تنيَّح ”إبراهيم لوريا“، حيث كـانت معروفة آنذاك باسم: ”كُتُبخانة الوطن“.

+ ومن الكُتُب التي طُبِعَت في هذه المطبعة: ”روضة الفريـد وسَلْوة الوحيـد“ لابـن كليل، ”الخولاجي“ وما يتبعه من كُتب ”خدمة الشمَّاس“، وكُتب ”صلوات الإكليـل“ و”صلوات المعمودية“، وكتاب ”الصحيح في آلام المسيح“ للعلاَّمة بطرس السدمنتي، و”القول الصحيح في تثليث الأقانيم“، وكتاب ”تجسُّـد المسيح“، و”تفسير رسالة رومية“ لابـن كـاتب قيصر، وكـذلك كتاب ”الأجبية“، و”مُزيل الغَمِّ“ لإيليان مطـران نصيبين، و”وفيات الأعيـان“ لابـن خـلكان، وكتـاب ”الأحكـام السُّلطانية“، و”حُسْن المُحاضـرة“، و”الذُّريَّة في أصول الشريعة“، و”قوانين الدواويـن“، و”مَطَالع البدور“(7). وغيرها من الكُتُب العلمية والطبيَّة.

+ وبالإضافة إلى كل هذه الكُتُب العربية، فقد أَبْدَى ”رزق بـك“ وأخوه ”إبراهيم“ عناية خاصة بالحروف القبطية، واستحضار قـوالب والإعداد لصبِّها كحروفٍ. وهكذا نجحا أيضاً في نَشر عددٍ من الكُتُب باللغة القبطية.

نياحة مؤسِّسي المكتبة وتشغيل المطبعة:

+ وكان لإبراهيم لوريا ولدان هما ”حبيب“ و”تادرس“. هـذان استلما العمل بالمطبعة بعـد وفاة أبيهما وعمِّهما، وظلاَّ في هذا الجهاد المُثمِر إلى يـوم 21 أكتوبـر سنة 1903م، حين أَمَـر ”أرمانيوس بك حنا“ مُراقب البطريركية القبطية، باستعادة المطبعة. ولما تسلَّمها، بـاعها على أنها حديـد خُـردة بجنيهـاتٍ قليلة(8). وهكـذا حقَّ قـول الـرب عليه: «مـا دخلتم أنتم، والداخلون منعتموهم» (لو 11: 52). لأنه لم يحتفظ بهذه المطبعة حتى كأثرٍ مـن آثـار أول نهضة علمية في الكنيسة القبطية في عهد أبي الإصلاح ”البابا كيرلس الرابـع“، ليكـون مجرَّد رؤيتها حافـزاً للأجيال التالية، ومناراً لكلِّ ساعٍ نحو المعرفة.

+ وهكذا خدمت المطبعة في جيلها؛ أيضاً، ومَن كان يدري، فقد كان مـن الممكن أن تستمر في خدمة النَّشْر الصحفي والكتابي مدَّة أطول.

+ والعجيب أنَّ المطبعة شابهت مَن اشتراها ”البابا كيرلس الرابع“. فكما تآمـر عليه البعض، فكانـوا السبب في تقصير سِنِي حياتـه وجهاده؛ هكذا اغتالها ”أرمانيوس بك حنا“، فلم يتركها في أيدي مستثمريها، بل أَخذها منهم مُقابل لا شيء، إلاَّ ليبيعها ”خُردة“!

ولكن الذي لا يَنسى ”تعب المحبة“، قد جعل الرجل الذي اشترى المطبعة ملء السَّمَع والبَصَر حتى الآن، كما جعل الله ذِكراه تُعطِّر الأرجاء(9).

(يتبع)

(1) يقول البعض في ذلك الوقت، إنَّ فنجان القهوة المسموم وقع بالخطأ من نصيب وكيل البطريركية، الذي ما إن عاد إلى بيته، حتى بَدَت عليه أعراض التسمُّم! ومات في نفس الليلة. فأدرك البابا أنه هـو الذي كان مقصوداً، ولكن السهم طاش إلى غيره!
(2) وهو من لبنان وسوريا، وكان يُقيم في مصر، وهو حَلَبي الأصـل. وقـد استقرَّ بمصر عقب الاضطهادات التي اشتدَّت على الروم الكاثوليك في مطلع القرن التاسع عشر. واشتغل تُرْجُمَاناً في السفارة الإنجليزية في مصر.
وتكلَّمت عنـه مِسِـز بوتشـر مؤلِّفة كتاب ”تاريخ الكنيسة القبطيـة“ في ذلك العصر (عـام 1879م)، واسم الكتاب (بالانجليزية): Story of the Church of Egypt, by Edit. I. Butcher, Two Volumes, 1997, England, London.
(3) ”أبـو الإصلاح“، تأليف: جرجس فيلوثـاوس عوض؛ ”نوابغ الأقباط ومشاهيرهم في القرن التاسع عشر“، تأليف: توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 60-197.
(4) ”لوريا“ اسم تاجر أخشاب، إيطالي الجنسية، كان رزق بك شريكاً معه في تجارته. وحدث أن تَرَك ”لوريا“ القطر المصري وعاد إلى بلاده. فاستقلَّ رزق بك بالشركة، وشاع عنه اسم ”رزق لوريا“.
(5) هو أحد الأقباط الذين كانوا - في ذلك العصر - لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، الذين تعلَّموا في الأزهر!
(6) مِمَّا لابدَّ من معرفته هو أنَّ هذه الجريدة ”الوطن“ سبقت جريدة ”الأهرام“. أي أنه حتى في ميدان الصحافة، كان للأقباط قَصَب السَّبْق.
(7) يتبيَّن لنا من هذا السِّجِل الزاخر من الكُتُب، غِنَى الفكر القبطي وتنوُّع إنتاجـه؛ كمـا يتبيَّن منه أنَّ الأقباط استمروا في الكتابة في مختلف العصور.
(8) ”أبـو الإصـلاح“، تأليف: جرجس فيلوثاوس عوض، ص 118-124؛ ”نوابغ الأقباط“، تأليف: توفيق اسكاروس، جزء 2، ص 152-155.
(9) هـذه البيانات كلها مُقتبسة مـن كتاب: ”قصة الكنيسة القبطيـة“، تأليف: إيريس حبيب المصري، الكتاب الرابع، ص 338-342.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis