الافتتاحية


قيامة المسيح من بين الأموات
أنشأت طبيعة جديدة للبشرية
تستمد كيانها وعملها منه شخصيًّا

للأب متى المسكين


لمَّا قام المسيح من بين الأموات، قام بجسده هو هو، ولكن في وضعه الجديد الذي لا يسود عليه الموت بعد كنموذج كامل للخليقة الجديدة.

هو ليس من الخليقة الجديدة، ولكن الخليقة الجديدة منه، فهو خالقها في نفسه من أجلنا لكي يمنحها لنا بالميلاد الجديد بالروح القدس في سر المعمودية. فكما وَهَبَ لنا آدم خليقته الميِّتة بالتناسل بالميلاد الشهواني، هكذا وَهَبَ لنا المسيح بشريَّته الجديدة لتكون خليقة جديدة لنا بالنعمة لحياة لا يقوى عليها الموت.

الخليقة الجديدة مبتدئة منه، وقد أخذت بدايتها الأُولى فيه، ولكنه كان هو قبلها وقبل كل خليقة، فهو كلمة الله الخالق مع الآب منذ البدء. فالخليقة الجديدة به قامت، ومن أجله أيضًا تقوم وتنتهي دائمًا إليه، لأنه هو رأسها وكلها أعضاء فيه.

الخليقة الجديدة مخفيَّة في الله:

الإنسانية الجديدة خُلِقَت في المسيح وبالمسيح، وعُرِفَت بالقيامة من الأموات، ووُجِدَت منظورة ومحسوسة لكثيرين، مع أنها كانت مخفيَّة في الله «مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أف 2: 10)، وستبقى مخفيَّة عن العالم لا تُرى إلا بعين الله، ولكل عين تَرَى بعين الله، لأن هذا «سِرِّ الْمَسِيحِ، الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ» (أف 3: 4 و5).

ومع أننا نلنا بالفعل هذه الخليقة الجديدة، وقد خُلِقنا من جديد إذ صرنا شركاء في الجسد بالإيمان بالقيامة من الأموات وبالاعتماد للمسيح، إلَّا أن هذه الخليقة بكل مواهبها باقية جنبًا إلى جنب مع الخليقة العتيقة، جسد الخطية. غير أن الخليقة الجديدة محسوبة وحدها أنها هي الحق والنور والحياة، أما العتيقة فهي مجرَّد كيان ينحل ويفنى مع الزمن، وكأنما هو كيان يسير وراءنا في العالم عبر الزمن كخيال الظل لحقيقة أخرى أعلى منها بلا قياس، تسير أمامنا ونحتويها في أعماقنا وهي بعينها المسيح المُقَام ... «مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ ... أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (لو 17: 21؛ مت 28: 20)، ولسان حال هذه البشرية الجديدة يقول مع بولس: «أَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل 2: 20)!!

ما بين الخليقة العتيقة والخليقة الجديدة:

والخليقة العتيقة فينا - هذه - ماضية - بحسب أصلها الترابي - في كسرها لنواميس الله، جنبًا إلى جنب مع الخليقة الجديدة التي ليست تحت ناموس بل تحت نعمة، معها الله، وفيها الله، ولله تحيا وتسبِّح.

الأُولى تتغذَّى على الكبرياء وتنحل بالشهوة وهي في ذاتها تحت عبودية الزمن وتسير معه نحو الفناء، أما الثانية فتتغذَّى بكلمة الحق فتتغيَّر من مجد إلى مجد، وتتجدَّد كل يوم متحدية الزمن وتسير بثبات نحو الخلود نحو المصدر الذي يغذِّيها، وتتعلَّم منه في كل شيء لتصير معه كل حين.

الخليقة الجديدة هي الصورة الحيَّة لحب الله الفائق ولرحمته المطلقة، لأنه إن كان الله قد خَلَقَ الخليقة الأُولى من العدم كبرهان قدرته على كل شيء، فإنه خَلَقَ الخليقة الثانية من عمق الخطية والموت كفعل حب لرحمة فائقة: «هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16).

الخليقة الأُولى ورثناها بالجسد ومعه الخطية وناموسها الحاكم بالإعدام «بالخطية حَبِلَت بي أُمي» (مز 51: 5)، أي أن لعنة الموت كائنة في أعضائها. والخليقة الثانية ورثناها بالنعمة (بالمعمودية)، عندما دُفِنَّا معه للموت وقُمنا أيضًا معه، وفينا قوَّة القيامة ومجد الحياة الأبدية كائنين في صميم خِلقتنا الجديدة التي اعتُبِرَت أعضاؤها آلات بر!!

الخليقة العتيقة نمثِّلها نحن أحسن تمثيل، حينما نُقْدِم على اقتراف الخطية بمحض إرادتنا وبالتعديات كل يوم. أما الخليقة الجديدة التي فينا فيمثِّلها المسيح عنَّا وفينا، وهو نفس المسيح القائم عن يمين الله الذي يشفع فينا كل حين فننال به المصالحة التامة مع الله.

بالخليقة العتيقة وأعمالها التي نعايشها بإرادتنا يضطرب سلامنا دائمًا، ونُوجَد عُراة أمام الله حينما نقف للصلاة وكأنه لا رجاء لنا!! وبالخليقة الجديدة التي نحسها في أوقات التوبة والندم في أعماقنا بالنعمة، ونزكيها بالصلاة والمحبة، يتجدَّد لنا سلام مع الله، ونفتخر في هذه اللحظة على رجاء مجد الله، حينما نرفع أعيننا نحو المسيح القائم ممثَّلًا عنَّا لدى الله الذي فيه كل الكفاية أن يجعلنا في حالة صلح وسلام، ومن يوم إلى يوم نخلع العتيق لنلبس الجديد الذي يتجدَّد فينا على صورة خالقنا، نتحرَّر من الخطية ليملك علينا بر المسيح.

إن الشك الذي ينتابنا أحيانًا مِنْ صِدق وجود إنسان جديد فينا أو ميلاد جديد أو خِلقة جديدة تعمل فينا، يرجع أولًا إلى أننا نكون قد سهَّلنا للإنسان العتيق أن ينشط أكثر من حدوده!! وثانيًا إلى أن طبيعة الخليقة الجديدة لا نحسَّها لأنها تختلف تمامًا عن طبيعة الإنسان العتيق، فهي غير محسوبة ولا منطوق بها.

الثقة في صدق مواعيد الله، يسهِّل قبول الخليقة الجديدة فينا:

يكفي في البداية أن نثق بصدق مواعيد الله وفعل النعمة الكائن في الأسرار ونتقبَّل ببساطة وإيمان حي عمل الله فينا حتى تكون لنا هذه الخليقة. فالخليقة الجديدة ليست عملًا من أعمالنا حتى نحسَّه، أو طبيعة مشابهة لطبيعتنا حتى نتحسَّسها أو نفهمها، ولكنها عمل الله الجديد فينا، والجديد جدًّا الذي ليس فيه أي شيء مشترك مع العتيق. المسيح نفسه يمثِّلها تمثيلًا كليًّا أمام الله، فنحن جميعًا - كل مَنْ وُلِدَ من الله - نعيش في المسيح، أي في بنوَّة واختيار - في حالة مصالحة ووجود أمام الله بلا لوم - بسبب المسيح - هذا هو المجد الموهوب لنا مجَّانًا.

روح المسيح يكشف فينا الخليقة الجديدة:

الخليقة الجديدة لا يكشفها ولا يعلن عنها بوضوح إلَّا روح الله الناطق فينا والشاهد لضمائرنا، وذلك بمقدار شركتنا اليومية بالموت مع المسيح بالروح في السلوك حتى نظهر بطبيعة الحياة الجديدة: «حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ» (رو 6: 4). «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ» (رو 6: 5).

والخليقة الجديدة إذا أُعطِيَت فرصًا قويَّة بالصلاة والالتصاق بالكلمة لتعيش مع المسيح، فإن المسيح يعلن نفسه فيها أو بواسطتها أكثر فأكثر.

الخليقة الجديدة لا نستطيع أن نخلقها نحن لذواتنا، فهي من فوق أما نحن فمن الأرض. ولا نستطيع أن ننمِّيها بقدراتنا الذاتية أو نعلنها بأعمالنا أو نبرهن عليها بأقوالنا، لأنها حق، والحق ينمو بكلمة الله فقط وبسر نعمته الفائقة، فالله وحده هو الذي يكشفها ويعلنها ويصدِّق على وجودها لنا وللناس كعمل من أعماله الخاصة «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ» (أف 2: 10). إنها ستبقَى إلى الأبد سر المسيح المخفي فينا، بالرغم من أننا سنتحوَّل إليها في النهاية كليَّةً، ونُستعلَن فيها: «قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ، مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ (الذي هو) حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ» (كو 3: 3 و4).

الخليقة الجديدة هي الجزء الناطق بالحق فينا الذي من الله والذي يشهد بالحق لله تمامًا، لذلك هي أعلى من كل قدراتنا لأن كل قدراتنا هي دون الحق: «أَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ» (مز 116: 11).

تغيُّرنا إلى الخليقة الجديدة، وشهادة المسيح فينا:

الله لم يشأ بعد السقوط أن يُبقي كيان الإنسان بعيداً عن الوجود الإلهي، أو متغرِّباً عن الحق الإلهي إلى الأبد، لقد عاد وأشركنا في وجوده الحقيقي هذا عندما تجسَّد والتحم البشري بالإلهي لحسابنا، وعندما سلَّمنا اللاهوت في سر الجسد والدم لنأكله، وعندما قام من الأموات، ونفخ فينا من روح قيامته، وجعل وجوده وراحته وسكناه فينا: «لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ» (أف 3: 17). هكذا تغيَّر كياننا، ولا يزال يتغيَّر كل يوم، لتأخذ الخليقة الجديدة فينا ملء وجودها في الله بالتغيُّر الدائم، من الظلمة إلى النور، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح. ولكن قوَّتنا الجديدة تبقى دائماً مع كل مواهبنا الجديدة مخفيَّة ومستترة في المسيح شخصيًّا، الذي يحيي خليقتنا الجديدة ويوجدها من العدم.

وهكذا بقدر ما نستعلن المسيح المصلوب والقائم من الأموات بالمعرفة عبر الكلمة وبالخبرة عبر السر نستعلن أنفسنا، وكلما تعرَّفنا على حقيقة المسيح تعرَّفنا على وجودنا وعلى الحق الذي فينا، وكلما شهدنا للمسيح وأعلنَّاه كلما ظهرت قوَّته الفعَّالة ونعمته المستترة فينا!! فالمسيح كخبرة عشرة وحياة، يكون في البداية تذوُّقًا بديعاً للمصالحة التي تمَّت بيننا وبين الله، نحسّها في حركات تقديس إنساننا الجديد عند بدء التوبة، وبالنهاية يصير مجدنا وإكليل حياتنا بالحق. فكياننا الجديد كله منه «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أف 5: 30)!! وإن كان ليس الجميع يستطيعون أن يشهدوا له، ولكن كل مَنْ هم للمسيح لهم المسيح بكل ما له، وميراثهم ونصيبهم باقٍ لهم، مستتر ومخفي عن عيونهم إلى يوم استعلانه، كالجنين الذي يخرج من بطن أُمه فجأة!!

الأب متى المسكين

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis