بحث تاريخي


كنائس مكرَّسة
للقديسَيْن أباكير ويوحنا

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

القديس أباكير:

عاش القديسان أباكير ويوحنا واستشهدا في القرن الرابع الميلادي. وُلِدَ أباكير في مدينة الإسكندرية لأبوين تقيين ربياه تربية دينية مسيحية. وكان أباكير Saint Cyrus أو Father Cyr طبيبًا متميزًا كما كان معروفًا بإيمانه القوي ونزاهته وأمانته ومساعداته التي كان يقدِّمها إلى كل المحيطين به، مما أثار عليه حفيظة الوالي سيريانوس فاتهمه بممارسة السحر والشعوذة. ونتيجة لذلك، هرب أباكير من مدينة الإسكندرية حيث وصل إلى الجبال العربية وعاش هناك مع بعض النسَّاك، وفاقت شهرته الآفاق لا سيما في سوريا وفلسطين وفي بلاد ما وراء النهرين.

القديس يوحنا:

لم يكن القديس يوحناSaint John مصري الجنسية بل كان ضابطًا في منطقة الرها بالعراق. وعندما سمع عن القديس أباكير، استقال من عمله وارتحل إلى أورشليم حيث زار بعض الأماكن المقدسة هناك ثم التقى بعد ذلك بالناسك أباكير ونشأت بينهما فيما بعد علاقة صداقة قوية.

الذهاب إلى مصر:

وعندما اشتد اضطهاد الأباطرة الرومان لأقباط مصر وبالأخص في عصر الإمبراطور دقلديانوس Diocletian (284 - 305م)، تعرض كثير من المسيحيين للتعذيب والتنكيل واستشهد الآلاف منهم نتيجة تمسُّكهم بإيمانهم ورفضهم لعبادة الأوثان. كما وقع في الأسر آخرون من الذكور والإناث مثل القديسة أثناسيا Athanasia وبناتها العذارى الثلاثة: ثيؤدورا وتاؤبستى وتاؤذكسيا حيث تم أسرهِنَّ في منطقة كانوب على مقربة من خليج أبي قير على بُعد ما يقرب من 23 كم شمال شرق الإسكندرية.

وتقع بلدة أبي قير التي عرفت باسم كانوب Canopus في عصر الرومان والتي تحمل اسم القديس أباكير على البحر الأبيض المتوسط. وهي آخر محطات قطار الإسكندرية، كما أن بها أجمل الشواطئ المصرية مثل أبي قير الميت وأبي قير الحي وأبي قير البرديسي وغيرها من الشواطئ الأخرى. وكان بها سرابيومSerapium لعبادة الإله سيرابيس Serapis. وبعد إعلان المسيحية كدين رسمي في مصر في نهاية القرن الرابع الميلادي، تحوَّلت كثير من المعابد الوثنية إلى أديرة وكنائس قبطية لا سيما السرابيوم والذي تحوَّل إلى كنيسة عرفت باسم القديس أباكير. ومع مرور الوقت، تحرَّف اسم القديس أباكير ليصبح أبي قير وهو اسم خليج أبو قير البحري الحالي. ويعتبر الحصن الأثري الذي شيَّده محمد علي باشا بنفس الأسلوب المعماري لحصن قايتباي في الإسكندرية من أهم المعالم الأثرية في أبي قير، ويستخدم هذا الحصن حاليًا كمنطقة عسكرية. كما أن لمنطقة أبي قير أهمية تاريخية كبيرة حيث شهدت هذه المنطقة غرق سفن الأسطول الفرنسي لنابليون بونابرت Napoléon Bonaparte وجنود الحملة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي على أيدي ضُباط وجنود الأسطول الإنجليزي بقيادة نلسون.

وعندما وصلت أنباء هذا الاضطهاد العنيف لمسيحيي مصر إلى القديسَين أباكير ويوحنا، قررا الذهاب إلى مصر حيث دخلا الإسكندرية واهتمَّا بالرعايا الأقباط. وكان حرصهما الأكبر على إنقاذ المسجونين منهم. ولكن تم القبض على القديسَين أباكير ويوحنا وتعذيبهما مع العذارى الثلاثة ووالدتهن، ثم قُطِعَت رؤوسهم جميعًا. وجاء القديس يوليوس الأقفهصي مع تلاميذه ونقلوا أجساد الشهداء، ودفن جسد كل من الشهيدين أباكير ويوحنا بقبر في كنيسة مار مرقس الإنجيلي Saint Mark the Evangelist بالإسكندرية.

كنائس القديسين يوحنا وأباكير:

وتحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد استشهاد هذين القديسين والعذارى الثلاثة وأُمهن يوم 6 من شهر أمشير/ 13 من شهر فبراير من كل عام. وفى يوم 4 من شهر أبيب / 20 من شهر يونية، يكون الاحتفال بنقل رفاتهما حيث نقلهما البابا كيرلس الكبير عمود الدين Pope Cyril Ist إلى كنيسة القديس مرقس الأخرى المطلَّة على البحر في الإسكندرية ثم بنى لهما كنيسة جديدة على أطلال معبد وثني كان معروفًا باسم معبد ”إيزيس المعالجة“.

شكل رقم 1. كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة وفي الركن الشمالي الشرقي منها كنيسة صغيرة للقديسين أباكير ويوحنا

شكل رقم 2. الباب الخشبي المؤدي إلى كنيسة القديسين أباكير ويوحنا بالركن الشمالي الشرقي في كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة

ويُعتقد أن البعض من هذه الرفات والتي كانت في دمنهور قد نُقِلت إلى كنيسة القديسَين أباكير ويوحنا الصغيرة التي شيَّدها لهما وكرَّسها لهما أثناسيوس الكاتب في مصر القديمة في العصر الأموي. وفي أوائل القرن العشرين، بُنِيَت كنيسة صغيرة جديدة للقديسين أباكير ويوحنا في الركن الشمالي الشرقي لكنيسة القديسة بربارة في مصر القديمة حيث أنَّ بها صحن صغير يليه خورس ثم هيكل لكل قديس من القديسين (الشكلين 1و2). ويعتقد البعض أن كنيسة القديسة بربارة في مصر القديمة كانت تعرف قديمًا باسم كنيسة القديسين أباكير ويوحنا إلى أن تم نقل جسد القديسة بربارة بها.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى بعض الأيقونات الأثرية المستطيلة الشكل والمحفوظة في كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة والتي تظهر عليها أشكال القديسين أباكير ويوحنا بصحبة كل من القديسة بربارة ورفيقتها القديسة جوليانة (الشكل رقم 3). وكتب اسم كل قديسة أعلى رأسها باللغة العربية. ويظهر جميع القديسين بملابس طويلة وواسعة مختلفة الألوان وبرؤوس مغطاة بأغطية رأس قصيرة بالنسبة للذكور وطويلة بالنسبة للإناث.

وعلى أيقونتين، يظهر القديسان أباكير ويوحنا واقفان وحدهما (الشكل رقم 4 و5) من وجهة أمامية، وكلاهما ملتحي. ويمسك أحدهما بصندوق للعقاقير الطبية بينما يحمل الآخر كتابًا في يديه. وتحيط برؤوسهما الهالات النورانيَّة بوضوح.

شكل رقم 3. أيقونة خشبية في كنيسة القديسَين أباكير ويوحنا بالركن الشمالي الشرقي في كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة، يظهر عليها من اليمين إلى اليسار القديسة بربارة، أباكير ويوحنا والقديسة جوليانا.

شكل رقم 4. أيقونة خشبية يظهرعليها القديسان أباكير ويوحنا:
أحدهما حاملًا كتابًا طبيًا بينما يحمل الآخر صندوق عقاقير طبية صغير.

شكل رقم 5. أيقونة خشبية يظهرعليها القديسان أباكير ويوحنا:
أحدهما حاملًا كتابًا طبيًّا بينما يحمل الآخر صندوق عقاقير طبية صغير

وفي العصر الفاطمي، وبالأخص ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، شُيِّدت كنيسة للقديسَين أباكير ويوحنا داخل دير القديس الأمير تواضروس المشرقي في مصر القديمة بابليون الدرج كما أطلق عليها المؤرخ المملوكي تقي الدين المقريزي. وعُرفت هذه الكنيسة بكنيسة أباكير ويوحنا وسيروس وجون. ومدخل هذه الكنيسة الأثرية منخفض ومعقود في الناحية الجنوبية من الضلع الغربي (الشكل رقم 6). ولهذا المدخل باب خشبي كبير يُعد من أكبر وأهم الأبواب التي عُثِر عليها في الكنائس القبطية حتى الآن. ويؤدي هذا الباب إلى صحن الكنيسة وله شكل شبه منحرف. وفي وسط الصحن كتفان مستطيلا الشكل. ويلي الصحن خورس الكنيسة وبه منجليتان خشبيتان جديدتان. كما يوجد حامل أيقونات خشبي حديث تزينه من أعلى مجموعة من الأيقونات الأثرية المتنوعة في زخارفها. وهو يفصل الخورس عن الهيكل الشرقي الأوسط المُكرس للقديسين أباكير ويوحنا. وبداخل الهيكل مذبح تعلوه مظلة صغيرة من الخشب. ويغطي الهيكل والجزء الأوسط من الكنيسة قبوان متقاطعان. أما باقي الكنيسة (الشكل رقم 7و8)، فهو مغطَّى بسقوف من العروق الخشبية المطبقة بالألواح والخالية من الزخارف.

والهيكل الشمالي الأصغر في الكنيسة هو هيكل السيدة العذراء، أمَّا الجنوبي فهو هيكل مار جرجس. وفي الركن الجنوبي الشرقي من الكنيسة، توجد مقصورة تحتوي على عدة أيقونات لبعض القديسين. أمَّا المعمودية، فهي في الركن الجنوبي الغربي من صحن الكنيسة. وفي أقصى الغرب، يوجد مخزن صغير ربما استُخدِم لحفظ ملابس كهنة الكنيسة وأدوات الطقس الكنسي كالمصابيح الزجاجية وبعض الأدوات الفضية الخالصة مثل الدفوف والصلبان والمشاعل والكؤوس.

وخارج كنيسة القديسين أباكير ويوحنا، تم اكتشاف جرة من الفخار ربما لها علاقة بالجرة الفخارية الخاصة بالقديس سمعان الخراز المرتبط اسمه بمعجزة نقل الجبل المقطم بالقاهرة.

ويوجد فناء صغير مكشوف يفصل بين كنيسة القديسين أباكير ويوحنا وكنيسة القديس تواضروس المشرقي المشيَّدة في نفس الدير. وقد أشار إلى كنيسة القديسين أباكير ويوحنا كل من المؤرخ المملوكي ابن دقماق (1349-1407م) وتقي الدين المقريزي (القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي). كما ورد ذكر لهذه الكنيسة في إحدى المخطوطات القبطية المؤرَّخة من سنة 1426م والمحفوظة حاليًا بالبطريركية.

وعندما زار الرحَّالة الألماني فانسليب مصر في عام 1672، أشار إلى هذه الكنيسة الهامة قائلًا: ”خارج مصر القديمة، وبين خرائب هذه المدينة (والتى تكوِّن جبلًا من الشقف والأحجار) توجد ثلاث كنائس في صف واحد: الأولى بابليون الدرج للسيدة العذراء والثانية للطوباوي يوحنا وأبوقير والثالثة للطوباوي تادرس“.

وأشار البريطاني ألفرد بتلرA. Butler إلى هذه الكنيسة الهامة أيضًا (1850-1936م) في الجزء الثاني من مؤلفه ” الكنائس القبطية في مصر“ قائلًا: ” المدخل الذي يصل من الفناء إلى الكنيسة هو مدخل خلفي منخفض وضيق، مقوَّس في أعلاه، ويسده باب خشبي ضخم ثقيل الوزن، وهو يمثل نوعًا نادرًا كان شائعًا بالكنائس القبطية يومًا ما ... أمَّا المذبح الذي بداخل الهيكل فهو مدشَّن بالطبع على اسم القديسين أباكير ويوحنا شفيعي الكنيسة، ويتضمَّن حائط الشرقية رسمًا بالطلاء الجيري للسيد المسيح مغطاه بصفائح الفضة ...“.

ويُعتبر رؤوف حبيب (1902-1979م) واحدًا من أهم مَنْ كتب عن هذه الكنيسة في الكتاب المنشور بعنوان: ” الكنائس القبطية بالقاهرة“ حيث أوضح أن الوصول إلى الكنيسة عن طريق باب ضيق منخفض بحوش الكنيسة“. كما ورد ذكر هذه الكنيسة في كتاب ”الكنائس والأديرة القديمة بالوجه البحري والقاهرة وسيناء“ للأنبا صموئيل أسقف شبين القناطر. وكتب الرحالة الألماني أوتو ميناردوس Otto Meinardus (1925- 2005م) عن كنيسة القديسين أباكير ويوحنا ببابليون الدرج في مؤلفه عن المسيحية القبطية في ألفي عام. وفيما عدا هؤلاء الباحثين، قليلة هي المصادر والمراجع التي تمدنا بمعلومات كافية ودقيقة عن القديسين أباكير ويوحنا.

شكل رقم 6. المدخل الرئيسي لكنيسة القديسين أباكير ويوحنا الأثرية في دير القديس تاوضرس المشرقي في منطقة بابيلون الدرج بمصر القديمة (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندى، نوفمبر 2007).

شكل رقم 7. منظر عام من داخل كنيسة القديسين أباكير ويوحنا الأثرية والمشيدة في دير القديس تواضرس المشرقي في منطقة بابيلون الدرج بمصر القديمة. (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندى، نوفمبر 2007).

شكل رقم 8. حامل الأيقونات الخشبى الذى يتقدم هيكل القديسين أباكير ويوحنا في كنيستهما الأثرية في دير القديس تاوضرس المشرقي في منطقة بابيلون الدرج بمصر القديمة. (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندى، نوفمبر 2007)

كما بنيت كنيسة أخرى للقديسين أباكير ويوحنا وسط قرية منهري الواقعة على بعد ما يقرب من 2 كم في شمال أبي قرقاص. وترجع هذه الكنيسة إلى أواخر القرن الثامن عشر أو إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وتخطيط الكنيسة مستطيل الشكل. وهي تتكون من ثلاثة أروقة الشمالي والجنوبي والأوسط وهو الأكثر اتساعًا. ويغطي الكنيسة اثنتي عشرة قبة صغيرة.

الخاتمة:

مما سبق، يُعتبر القديسان أباكير ويوحنا من الشهداء الذين لهم دور هام في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعلى الرغم من قلة المعلومات التي وصلتنا عنهما إلَّا أنَّه شُيِّدت لهما بعض الكنائس الصغيرة التي يتوافد عليها الأقباط لنيل بركة القديسين. وقد وصلتنا بعض التحف الأثرية والفنية التي تُظهِر في زخارفها أشكال القديسين أباكير ويوحنا. وتشهد هذه الأيقونات على مهارة الفنانين الذين أنتجوها.

* * *

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis