ذكر الصديق
للبركة


سيرة فريدة عطرة
في الذكرى الخامسة عشرة
لنياحة القمص متى المسكين


مهما مرَّ من السنين على نياحة قدس أبينا الطوباوي القمص متى المسكين، فلا يمكن أن تمحو الأيام والسنين تلك البصمة التي تركها فينا، وفي الرهبنة عامة، وفي الكنيسة كلها في كل أنحاء العالم، بل وعلى مستوى المجتمع الإنساني كله، وذلك من خلال سيرته الفريدة العطرة، واختيار الله الواضح له منذ طفولته ليصير إناءً مختارًا له – كما قال الرب عن بولس الرسول: «لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي»، وأيضًا من خلال كتاباته المتميِّزة التي أثْرَت المكتبة المسيحية في كل مجالاتها بطابع جديد من الانفتاح الذي شمل كل جوانب الحياة بأسلوب روحاني وفكر متَّسع متطوِّر تسنده الخبرة الروحية وتقديم الحقائق اللاهوتية العميقة بصورة حيَّة تلمس شغاف القلوب ويستسيغها كل مَنْ يبحث بإخلاص عن الحقيقة مهما كانت عقيدته.

فقد عزم أبونا الروحي منذ بداية رهبنته أن يكون أداةً طيِّعة للروح القدس لكي يعمل به ويستريح فيه فينفِّذ مشيئته، من أجل مصالحة الكثيرين مع الله وربحهم للمسيح. فمنذ فجر حياته الرهبانية، وفي أول كتاباته، كتب في مقدِّمة كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية أن قصده من هذا الكتاب أن يكون ”فيه كلمة مصالحة ونقطة تقابل“ لا على صعيد الحوار الفكري أو الجدل اللاهوتي، بل على مستوى وحدة الحياة الروحية وتجلِّيات الإيمان، الذي يتجاوز العجز اللفظي إلى نور الحق الإلهي المعاش.

ثم أردف قائلًا:

[لذلك نحن نتوسَّل لدى الله أن يجعل هذا الكتاب ”إسقيطًا“ جديدًا يجمع إليه الأقطار كما انجمعت فيه أيام القديس مقاريوس الكبير، تمهيدًا لاستعلان عهد المصالحة].

ثم أضاف أيضًا:

[فالعالم اليوم متعطِّش لشهادة إيمان حي بشخص يسوع المسيح، لا ليسمعها ولكن ليعيشها ... إن المسيح أعطانا، لا أن نعرفه أو نؤمن به فقط، بل أن نحيا به. وأعطانا الروح القدس، لا ليُعلِّمنا فقط بل ليسكن في داخلنا، يُغيِّر شكلنا، ويجدِّد ذهننا ويأخذ كل يوم مما للمسيح ويُعطينا. فالحياة في المسيح حركة وخبرة وتجديد ونمو بالروح لا يتوقَّف].

لقد عانى أبونا الروحي في حياته الرهبانية الكثير من التجارب والضيقات، لأنه سلك الطريق الضيِّق وحرص كل الحرص أن يتبع المسيح بكل أمانة حاملًا الصليب ومنكرًا لذاته، ومتجنِّبًا لكل كرامة ومنصب يُلهيه عن هدفه الكبير الذي خرج من العالم من أجله، أن يعيش راهبًا ويموت راهبًا.

وها نحن ما زلنا نعيش في كنف أعماله وثمرة جهاده وتعب يديه وصلواته وعرقه ودموعه. وما زال كل مكان في هذا الدير يشهد بما قدَّمه وبذله، بل إن سكتْنا نحن عن الشهادة لأعماله فهوذا الحجارة تنطق.

رسالة من قدس أبينا الروحي لأحد أبنائه ردًّا على رغبته أن يصير راهبًا

كتب أبونا الروحي خطابًا لأحد أبنائه ردًّا على استفساره عن رغبته في أن يصير راهبًا، بينما هو إنسان ضعيف ليس له جهاد ولا سهر ولا نسك، فأجابه قداسته قائلًا:

[الرهبنة هي حب، ومَنْ قال لك خلاف ذلك فقد ضلَّ الطريق. فهي حبٌّ بلا مقابل ... ليس بأعمال جسدية شاقة نقدِّم هذا الحب، ولا بسهر ولا بدموع ولا بصلاة ولا بأيِّ مجهود بشري كبر أو صغر، وإنما الحب الذي فينا الذي دفعنا أن نُقدِّم ذواتنا على مذبح الرب هو الذي يعرِّفنا لكي نقدِّم صلاة أو سهرًا أو دموعًا أو تنهُّدًا لعجزنا عن إظهار حُبُّنا كاملًا للمسيح.

كثيرًا ما تحاول الروح أن ترفع من الجسد وتحمله على الصلاة أو السهر، فيأبى ويتكاسل؛ ولكن هل نقُصَ حُبَّنا؟ كلَّا! فالقلب مكشوف وعُريان وكل الحب ظاهر وواضح للحبيب، يكفي دمعة رقيقة أو تنهُّد ليُكفِّر عن ضعف الجسد، لأنه يعرف منذ البدء أن الروح نشيط أمَّا الجسد فضعيف .. فثق، يا عزيزي أنَّ الرهبنة حُب ... وأنا أقول كلمة ربما ترنُّ في أذنك رنَّةً غريبة نوعًا ما، ولكنها الحقيقة، إن الرهبنة حبٌّ فائق يصل إلى درجة ”العشق“. وهي كلمة تحمل معنى انشغال الحبيب بالمحبوب لدرجة تُفقده أية لذَّة في أي شيء آخر خلاف يسوع ...

يكفيك حُبُّك الذي امتلأ به قلبك ... لا يعوزك كفاءة مرثا وانشغالها واهتمامها الجسدي بالمحبوب، نعم يكفيك قعود مريم وإهمالها كل شيء لتجلس تحت قدميه، لا لكي تتحدَّث إليه، ولا لكي تسأله كيف تصنع له، لا، لا، جلست لتسمع ما يقوله لها. وحتى أيضًا لن يهمَّها السَّمع في شيء، ولا فهم ما يقوله في شيء! إنما اكتفت بالجلوس إليه تراه ويخفق قلبها بالحب! ماذا يا عزيزي يكون بين المحبين؟ أهو كلام أو مجاملة أو خدمة؟ أبدًا، إنه تبادل شعور ووجدان. يكفيك يا عزيزي حبُّك، لأنك وجدت كنزك داخلك، بل وجدت الجوهرة الكثيرة الثمن التي إذا ما نظرت من خلال أي ركن فيها لرأيت محبوبك، إنه داخل قلبك!

إن كان لك هذا الحب فطوباك، فقد وصلت دون أن تسير، فَثِق وتشجَّع ولا تشك قط ... أمَّا إذا خفق قلبك بالحبِّ لِيُقدِّم له حياتك على مذبح البتولية الطاهرة في حياة الرهبنة، كما تقول، فاعلم أنها دعوة، فسِرْ بإيمان يقودك صوت هذا الحب في قلبك. وكل إعلان ولو كان من السماء وبيد ملاك للدخول إلى الرهبنة، فهو لن يُوازي خفقة القلب الصادقة بمحبة تقدمة النفس على مذبحه المقدَّس].

**********************************************************************************************************

عطلة المجلة شهرا يوليو وأغسطس عام 2021م

**********************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis