بمناسبة عيد
حلول الروح القدس


سكنى الروح القدس
الدائمة فينا
(1)

[ما كتبه الطوباوي مار فيلوكسينوس المنبجي (القرن السادس الميلادي 523 م) إجابةً على شخص سأله عمَّا إذا كان الروح القدس يفارق الإنسان عندما يخطئ ويعود إليه مرَّة أخرى عندما يتوب](1)


+ «أَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ» (1يو 2: 27)
+ «لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ» (أف 4: 30)

«أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ» (2كو 6: 16):

في وقت معموديتنا نلنا بنعمة الله الروح القدس من مياه المعمودية، ولكن الغرض من نوالنا إياه ليس هو أن يبقى أحيانًا معنا ويتركنا أحيانًا أخرى، بل أن نكون هياكل له وأن يسكن فينا على الدوام كما قال القديس بولس: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ» (1كو 3: 16)؟ وأيضًا: «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ» (1كو 6: 19 و20).

فإن كنتم أنتم هياكل وذخائر لله بسبب سُكنى الروح القدس داخلكم، إذن فلا يمكن لأي خطية سواء بالفعل أو بالفكر أن تحطِّم هيكل الله، لأن الخطية التي تُرتكب بالفعل تختلف تمامًا عن إنكار الله. فإذا أخطأنا في شيء صنعناه، فإن إيماننا بالله يبقى دون أن يهتز. وبذلك نحن لا نفقد بنوتنا لله، تمامًا كما أن الابن الطبيعي مهما أساء وأخطأ كثيرًا ضد أبيه، فحتمية كونه أخطأ إلى أبيه لا تمنع كونه يُدعَى ابنًا له ولا تُزيل لقبه المكرَّم: ”ابن“ طالما أن أباه لا يريد أن يحرمه من الميراث!

الخطية لا تحرمنا من البنوَّة التي بها ندعو الله ”أبانا“:

لقد حدث نفس الشيء مع الابن الأصغر الذي بدَّد ممتلكاته التي ورثها من أبيه، إذ عاش مع الزواني (لو 15: 11-32)، ومع كل ذلك لم يفقد لقب ”ابن“ المكرَّم الذي كان له، بل بالحري بينما كان لا يزال في أرض العبودية حيث نبذ أباه، تفكَّر في نفسه: «وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا!» (لو 15: 17) وبينما كان لا يزال خاطئًا، ورغم أنه أخطأ لدرجة أنه بدَّد كل ميراثه الذي أخذه من أبيه في مهب الريح بسوء أعماله، فهو لا يزال يدعو الله ”أبًا“ له، وهذا يشير إلى أن نعمة الروح القدس التي تؤهِّله أن يدعو الله أبًا له لم تفارقه. حقًّا إننا غير قادرين إطلاقًا أن نستعمل هذا التعبير فنخاطب الله وندعوه ”أبًا“ إلَّا بسلطان من الروح القدس الذي في داخلنا، لأنه معروفٌ جيدًا أن الذين لم يصيروا بعد أبناء لله بالولادة الثانية المقدسة في المعمودية ليس لهم سلطان أن يستعملوا هذا التعبير، وغير مسموح لهم أن يقولوا: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ»(2).

والسبب الواضح لذلك هو أن الروح القدس غير موجود بداخلهم لكي يعطيهم هذا التصريح، ومعروفٌ جيدًا للجميع أن المعمَّدين الجدد عندما يقتربون من الأسرار المقدَّسة يتلون جميعًا الصلاة الربانية بثقة بحسب التقليد الذي سُلِّم إلينا من الرب، وحينئذٍ يتقدَّمون إلى الأسرار المقدَّسة. ومن الواضح أيضًا أننا جميعًا نُخطئ بطريقة ما، سواء خطية صغيرة أو كبيرة، بالفكر أو بالفعل، ولا يوجد أحد منا بلا خطية. فإذا كنا جميعًا مذنبون، إذن يكون الروح القدس قد فارقنا جميعًا. فكيف نتجرَّأ وننطق «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ» عندما نقترب من الأسرار المقدَّسة؟ لأنه لو كان الروح القدس قد فارقنا لأننا أخطأنا، فبأي تصريح أو سلطان ندعو الله ”أبانا“؟ وإذا فعلنا ذلك دون أن يكون روح الله، الذي يسمح لنا بذلك، بداخلنا، فإن ذلك يكون جريمة جسيمة وتمرُّد على الله، وحينئذٍ نشبه الذين بنوا برج بابل (تك 11: 4) لكي يصعدوا إلى السماء، أو مثل ذاك الذي بكل جراءة جعل نفسه إلهًا (انظر: أع 12: 20 – 23) وأراد أن يختطف لنفسه كرامةً لم تُعطَ له، والذي – كنتيجة لذلك – ضيَّع ما كان يملك من كرامة.

الذبيحة تكفِّر عن خطايا الكاهن أولًا لكي يستطيع أن يقدِّمها للشعب:

ولكن في الحقيقة فإن المؤمنين الذين يدعون الله ”أبانا“ في وقت الأسرار لا يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم، بل بالحري فإن الكاهن الذي يرأس الشعب هو الذي يسمح لهم بذلك، ولو كان من المقرر أن الروح القدس يفارق جميع الذين يخطئون، فإنه حتى الكاهن لا يكون له سلطان أن يدعو الله ”أبًا“ له، وبالحري لا يمكنه أن يسمح لغيره بذلك، لأنه لا أحد منا – سواء كان كاهنًا أو من الشعب – يوجد في حالة يأمل فيها أن يكون متحرِّرًا تمامًا من الخطية، لأنه حقٌّ هو قول الرسول بولس: «يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَوَاتِ. الَّذِي لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلًا عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَن خَطَايَا الشَّعْبِ» (عب 7: 26 و27). وهذا يؤكد على أن رئيس الكهنة عليه ذنب الخطية إذا كان من البشر، فهو يحتاج إلى تكفير بواسطة الذبائح، وذلك في العهد القديم.

وكما أنه في ظل ناموس موسى كان كل كاهن يقدِّم ذبائح لله أولًا عن نفسه ثم عن الشعب، هكذا أيضًا في تدبير العهد الجديد، فمن المعروف أن جميع الكهنة يقدِّمون قبل كل شيء ”ذبيحة عقلية“ (رو 12: 1) لله عن أنفسهم ثم عن الشعب، وفي هذه الصلاة يطلب الكاهن في المقام الأول لأجل غفران خطاياه وتطهير نفسه وجسده من كل الأفكار والأعمال الخاطئة، وكل كاهن يقدِّم هذه الصلوات لله من أجل مغفرة خطاياه. وبعد أن يكمِّل الذبيحة الإلهية ويتمِّم الأسرار بحلول الروح القدس، لا يوزع السر المقدَّس على الآخرين قبل أن يتناول هو ذاته منه حيث إنه في احتياج إليه، معلنًا بذلك أمام الكنيسة كلها أنه يتناول قبل الجميع حتى ينال التكفير عن خطاياه، وبعد ذلك فقط يوزِّعه على الآخرين، وذلك حتى إن الصلاة التي قُدِّمت قبل ذلك أولًا عن نفسه ثم عن الشعب تصير لها فاعلية! لأنه لو لم يكن قد قدَّم صلاة عن نفسه أولًا لا يكون هو الأول في الاقتراب من الشركة المقدَّسة. وهكذا فإن تقدمته تشهد بأنه خاطئ، وأنه يتناول من السر المقدَّس باعتباره خاطئ لكي يحصل منه على الكفَّارة، ثم يوزِّعه على كل مَنْ هو في نفس حالته!

لهذا السبب، فهو عندما يوزع الأسرار على الشعب يصيح قائلًا: ”جسد الرب لمغفرة الخطايا، ودم ابن الله للتكفير عن الخطايا“، مستدعيًا بهذه الكلمات ما قاله الرب لتلاميذه عندما وزَّع عليهم أسراره: «هذَا هُوَ جَسَدِي ... هذَا هُوَ دَمِي ... الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (مت 26: 26 - 28). وهكذا فنحن نقترب من أسرار مخلِّصنا كخطاة محتاجين، لأنه لا يوجد احتياج للدواء إلَّا عندما يكون الإنسان مريضًا لأنه «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى» (مت 9: 12). فمن الواضح إذن أن كل مَنْ يقترب من الأسرار يتناولها لمغفرة خطاياه سواء كان كاهنًا أو من الشعب. وإن لم يكن الروح القدس بداخلنا لأننا خطاة، فبأي سلطان يستدعي الكاهن الروح أو يقرِّب الشعب من الأسرار؟!

وفضلًا عن ذلك، فإن لم يكن الروح القدس بداخلنا، لا تكون للمعمودية فاعلية فينا. وكيف يمكننا أن نقترب من السر المقدَّس دون أن نكون معمَّدين؟ فمن الواضح أنه إذا فارقنا الروح القدس عندما نخطئ، تفارقنا أيضًا معموديتنا لأنها هي بالروح القدس. فعندما قال الرب لتلاميذه: «يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ» (أع 1: 5)، كان يتكلَّم عن الروح القدس الذي حلَّ على التلاميذ في العلِّيَّةِ في هيئة ألسنة من نار. وهذا الحلول للروح القدس يسميه الرب ”معمودية“، لأن معمودية الرسل حينئذٍ كانت بالروح وحده، لأنهم كانوا قد تعمَّدوا فعلًا من يوحنا(3)!

روح الله الذي تعمَّدنا به يبقى معنا بعد الموت:

هو نفس الأمر الآن الذي معنا نحن الذين تعمَّدنا: فلا رطوبة الماء الذي تعمَّدنا فيه ولا دهن الزيت الذي مُسحنا به سيبقى معنا بعد موتنا، ولكن الروح القدس الذي اتحد بنفوسنا وأجسادنا بواسطة الزيت والماء يبقى معنا في هذه الحياة وبعد موتنا، لأنه هو معموديتنا الحقيقية، ولهذا السبب نظل دائمًا معمَّدين لأن الروح القدس يكون موجودًا بداخلنا على الدوام، ولا يمكن لأي خطية أن تجرِّدنا من معموديتنا: لا زنى ولا سرقة ولا فسق ولا شهادة زور ولا أي عمل من هذا النوع، بل فقط إنكار الله (أي إنكار الإيمان) والاتفاق مع الشياطين يمكنهما أن يفعلا ذلك، لأنه في مثل تلك الأحوال يفارق الروح القدس الإنسان بالفعل، لأنه لا يقبل أن يبقى في مكان يسكن فيه الشيطان، «لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟» (2كو 6: 14 - 16)!

فإذا كان مسموحًا لنا أن نقول إن الروح القدس يفارق النفس التي نالته في المعمودية، إذن فهو يفارقها كنتيجة لهذه الخطايا، أي أنه يرحل في مواجهة هذا الانحراف، لأنه ليس من الصواب أن تسمَّى مثل تلك الأمور مجرَّد خطايا، إنه تمرُّد سافر ضد سيادته. إنها حالة عداوة وشنّ حرب سافرة معه. فمهما كثرت أخطاء مواطني مدينة أو سكان قطر خاضع للإمبراطور أو تعدِّيهم على قوانينه، سواء علنًا أو خفيةً، فطالما أنهم لم يحطموا تماثيله ولم يحرقوا صوره، فهذه لا تُعتبر حالة تمرُّد، ولكن إذا حدث ذلك كنتيجة لاضطرابات بين عامة الشعب، فإن القضاة يعالجون الأمر على الفور، ويُعاقَب المحرِّضون بالموت. وإذا حدث أن تمرَّد جبَّارٌ ظهر في مدينة وتمرَّد الشعب معه، مشوِّهين ومحطِّمين جميع تماثيل وصور الإمبراطور التي تُعتبر رمزًا لسلطانه على تلك المدينة، فبعملهم هذا ينبذون سلطان الإمبراطور على المدينة، ويُظهِرون عصيانًا سافرًا ضدَّه.

واضحٌ أن هذا هو حال الذين ينكرون الله بعد إقرارهم بالإيمان في المعمودية، وذلك سواء بالتضحية للكائنات الشيطانية، أو بالموافقة مع الذين يمارسون السحر، فلأنهم أنكروا سيادة ملكهم واعترفوا بطاغية غريب، فإن الروح القدس الذي نالوه في المعمودية يُفارقهم، تمامًا كما أن السيادة الإمبراطورية بقوانينها تختفي من تلك المدينة التي أقام المتمرِّد الجبَّار نفسه سيِّدًا عليها.

وهذه الحالة يمكن فهمها من وجهة النظر العكسية تمامًا، فهناك بين الوثنيين الذين يعبدون المخلوقات، وبين الفلاسفة الذين صنعوا لأنفسهم أسماء بين اليونانيين، يمكن أن توجد فضائل متنوِّعة. ففي بعض الأحوال توجد فضيلة العدل، وأحيانًا توجد النزاهة، بينما يتغلَّب البعض على شهوات الجسد أو يحتقر محبة المال. كما توجد عند البعض منهم شفقة طبيعية. إلَّا أن جميع هذه كانت منبوذة من الشيطان الذي يخدمونه رغم ذلك. والشيطان لا يرغب أنَّ أحدًا من خُدَّامه يعرف أيَّة فضيلة، ومع ذلك فإن هؤلاء الناس لم يتمرَّدوا عليه بسبب تلك الفضائل، ولا يمكن أن يُقال عنهم إنهم أنكروا الشيطان أو خانوه واعترفوا بالله، وذلك لأنهم حازوا على تلك الفضائل، ولكنهم لا زالوا وثنيين وعابدين للأرواح الشريرة.

واليوم، إذا اقترب وثني أو سامري غير معمَّد، حتى ولو كان لم يتُب عن سلوكه السابق الرديء، فإنَّ حقيقة إنكاره للشيطان واعترافه بالمسيح تجعله بين الأبرار وتضعه في دائرة ملكوت المسيح، فهو يتعمَّد وينال الروح القدس بإيمانه وليس بأيَّة أفعال من جهتهِ. ولكن كيف يكون ذلك رغم أنه كان يسلك في كل نوع من الإثم؟ فإن كان نتيجة لإيمانه بالله ومعموديته باسمه فقط ينال الروح القدس، فواضحٌ إذن، أنه فقط بإنكاره لاسمه وتوافقه مع القوات الشيطانية يفارقه الروح القدس، لأنه لا يرضى بالبقاء في مكان لا يكون لسلطانه فيه أي فاعلية، أو أن يعيش كمتغرِّب في بلد أجنبي.

(يتبع)

__________________________________


(1) On the Indwelling of the Holy Spirit, The Syriac Fathers on Prayer and the Spiritual Life, Sebastian Brock, p. 106.

(2) لقد اتفقت تعاليم الآباء على أن المعمَّدين وحدهم، الذين أصبحوا أبناء لله بالتبني (رو 8: 15) هم الذين يمكنهم أن يخاطبوا الله كأب وأن يستعملوا الصلاة الربانية.

(3) يبدو أن القديس هنا يلغي عنصر الزمن بين وقت معمودية التلاميذ بالماء على يد المعمدان ويوم الخمسين عندما تعمَّدوا بالروح القدس لكي ينطبق عليهم الشرط: ”إن لم يولد الإنسان من الماء والروح ...“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis