طعام الأقوياء
- 115 -



«لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَانًا لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ.
وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ»
(يو 9: 41)



يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ:

هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟

عندما سأل التلاميذ ربَّ المجد عن المولود أعمى قائلين: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» أجاب يسوع: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ»، ثم أردف قائلًا: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 2 - 5).

أعتقد أن إجابة الرب هذه هي لكي يحوِّل نظر السائل إلى اتِّجاهٍ آخر، ولكي يقودنا من الاهتمام فيما يفوق إدراكنا كبشر إلى ما يتناسب مع ما يلزمنا التسليم به في حدود ما يسمح الله لنا من معرفته. فحينما سأل التلاميذ القديسون الرب يسوع عن مجيئه الثاني، وهل في هذا الوقت تردُّ الملك لإسرائيل، فقال لهم: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهَودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع 1: 7، 8).

فهوذا الرب يبيِّن لنا أنه لا يسمح لنا بالمرَّة أن ندخل في تلك الأمور التي لا تناسبنا، بل بالحري يوجِّهنا أن نرجع إلى ما هو ضروري لنا.

وفي هذا السؤال الذي سأله تلاميذه بخصوص المولود أعمى، كانت إجابة الرب لهم، كما لو كان يدعوهم أن يتأكدوا من أن الله يتمجَّد في كل ما يفوق إدراكهم أو سعيهم في معرفته.

كما أن الرب قد قال لهم بعد ذلك: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ» (يو 9: 4).

ها هو في هذه الكلمات أيضًا، بطريقة واضحة وملائمة، يوبِّخ تلاميذه بأسلوب مناسب، وكأنهم قد فعلوا شيئًا ما، لم يكن من الواجب أن يفعلوه، وتركوا الطريق الآمن، ودخلوا في طريق آخر غير ملائم لهم. فليس هذا هو وقت لمثل هذا الفحص، بل هو وقت للعمل والاجتهاد. لذلك يقول الرب: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ». لأنه حيث أن النهار جُعِلَ لتتميم الأعمال، فالليل جُعِلَ للراحة والنوم.

ثم أردف الرب قائلًا: «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).

هل معنى هذا أن المسيح لم يَعُدْ موجودًا في العالم بصعوده إلى السماء بعد قيامته من الأموات؟ بل إنه لكونه إلهًا حقيقيًّا فهو يملأ ليس فقط السماء، بل ويملأ العالم كله، والأرض وكل المسكونة ولا يخلو منه مكان. وكما أنه حينما عاش مع الناس بالجسد، لم يكن غائبًا عن السماء، هكذا أيضًا حينما صعد إلى السماء، فهو حاضر مع كل مَنْ يؤمن به. فإن طبيعته الإلهية تهيمن على الكون كله.

معجزة فتح عيني المولود أعمى:

لقد صنع الرب هذه المعجزة دون أن يسأل أحدًا، بل بالحري من تلقاء ذاته و”لكي تظهر أعمال الله فيه (أي في المولود أعمى)“.

أمَّا عن طريقة الشفاء، فإنه يليق بنا حقيقة أن ندهش ونقول: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مز 104: 24). فربما يقول قائل: لماذا؟ رغم أن الرب يستطيع بكلمة من فِيهِ أن يشفي أي مريض وأن يفتح عيني مولود أعمى، فلماذا صنع من التفل طينًا، وطلى به عيني المولود أعمى، مع أن الطين يعمي العينين! ثم قال له: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ»؟!

لا شك أن وراء ذلك سرًّا عميقًا، يختبئ وراء ما فعله الرب يسوع! وكأن الرب قد أعاد للأعمى خلقة عينيه من جديد. فهو الذي شكَّلنا من البدء، وهو الذي خلق الكون كله من العدم وخلق الإنسان من الطين. ولم يكن الأمم قادرون أن يتحرَّروا من العمى الذي أصابهم وأن ينظروا النور الإلهي، أي ينالوا معرفة الثالوث القدوس المساوي في الجوهر، إلَّا بأن يُعطى لهم أن يصيروا شركاء جسده المقدس وأن يغتسلوا من خطيئتهم التي هي مصدر عماهم، وأن يجحدوا سلطان الشيطان بواسطة المعمودية المقدسة.

وكصورة للمعمودية المقدسة فقد أمر يسوع الأعمى أن يغتسل في سلوام، الذي تفسيره ”المُرسَل“، وهو ليس سوى الله الابن الوحيد مفتقِدًا إيَّانا ومُرسَلًا من فوق، أي من الآب.

وهكذا ذهب الرجل المولود أعمى واغتسل في سلوام وعاد بصيرًا. وكثُرت التساؤلات حول هذه المعجزة الفائقة، «فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلًا أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟ آخَرُونَ قَالُوا: ”هذَا هُوَ“. وَآخَرُونَ: ”إِنَّهُ يَشْبِهُهُ“. وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: ”إِنِّي أَنَا هُوَ“» (يو 9: 8، 9).

فقالوا له كيف انفتحت عيناك؟

ألم يكن هذا الذي وُهِبَ البصر والبصيرة من الرب القدوس القادر على كل شيء، فإن الذي أبرأه هو يسوع المخلِّص والإله بالطبيعة. لذلك أجاب وقال: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِينًا وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ» (يو 9: 11).

وللأسف، لم يكن الذين يسألونه عن يسوع، مدفوعين إلى السؤال عن مكانه، لكي يذهبوا إليه لكي ينالوا منفعة من أعماله، بل كانوا عميانًا في عيون أذهانهم بما هو أكثر مما أصاب عيني جسد الأعمى، فإنهم اشتعلوا غضبًا غير مبرَّرٍ بالمرة وثاروا مثل وحوشٍ غير مروَّضَةٍ، معتقدين أن مخلِّصنا قد كسر السبت، بصنعه المعجزة وتفتيح عيني المولود أعمى في يوم سبت. وازداد هياجهم بأنه صنع طينًا وطلى به عيني الأعمى، ثم تجاسر وأمره أن يمضي ويغتسل في البركة، كلُّ هذا صنعه الرب في يوم السبت. ثم أتوا إلى الفريسيين، وقد تأكدوا من وقوع المعجزة وسمعوا اعتراف الرجل الذي أبصر بتفاصيل شفائه بقوله: «وَضَعَ طِينًا عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ»، ومع ذلك ازداد هياجهم ضد يسوع، ولم يُذهلهم قوة المعجزة وقدرة صانعها.

ثم دعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى، وقالوا له: «أَعْطِ مَجْدًا للهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ». ولأن الفريسيين لم يستطيعوا أن يوقفوا الرجل من أن يتكلَّم حسنًا عن المسيح، أرادوا أن يصلوا إلى هدفٍ مماثل بطريقة خبيثة، حاولوا أن يثيروه بطريقة متملِّقة لكي يحققوا غرضهم الخاص. فإنهم يقولون له بخبثٍ شديد: أعطِ مجدًا لله. وهكذا يتظاهرون بالتقوى. ومع ذلك يطلبون منه أن يتوافق معهم ويصدِّقهم حينما يحتفظون بأشنع كُفرٍ ممكن بقولهم عن الذي جاء لكي يُحطِّم الخطية، إنه خاطئ. وهم لا يقدِّمون أي برهان على هذا التأكيد المملوء بالتجديف. فأجاب ذاك (الذي أبصر) وقال: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ» (يو 9: 25).

ورغم ذلك لم يكفُّوا عن محاورته لعلَّه يوافقهم على ادعائهم بأن الذي أعطاه البصر إنسان خاطئ!؟ إذ قالوا له أيضًا: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فما كان من ذلك الرجل الذي أبصر إلَّا أن قال لهم: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضًا؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟».

لقد اعترف هذا الرجل المبصر الآن بوضوح وبدون أي تهرُّب أنه قد صار تلميذًا للذي أبرأه، ليس بالتعليم لكن بالعمل المعجزي. لأنه حينما قال لهم: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟» فكأنه كشف بهذا فكره الخاص، أي أنه لم يكن فقط راغبًا أن يصير تلميذًا بل قد صار هكذا فعلًا. فقد كان مستعدًا في الحال وبدون مواربة أن ينقل إليهم ما انتفع به، مؤكدًا لهم بدون أي تردد روايته للعمل المعجزي الذي حدث معه ...

فما كان من هؤلاء الفريسيين المتعصِّبين إلَّا أن شتموه وقالوا له: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى»!! ثم أضافوا قائلين بجسارة: «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ، وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ»؟!

فأجاب الرجل بكل شجاعة وقال لهم: «إِنَّ فِي هذَا عَجَبًا! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ، فَلِهذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيئًا» (يو 9: 27-33).

وهنا انفعل عليه الفريسيون، وعرفوا يقينًا أنه قد آمن بالمسيح، فأهانوه قائلين: «فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجًا» (يو 9: 34).

فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا، فوجده وقال له: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟ أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ» (يو 9: 35 - 38).

ذلك الإنسان الذي كان أعمى، أسرع ليقدِّم اعترافًا بإيمانه بالرب يسوع، وهو جاء إليه بالتقوى، وحينما عرف أن ذلك الشخص الحاضر معه والذي يراه بعينيه هو بالحقيقة الابن الوحيد الجنس، فإنه سجد له كإله رغم أنه كان يراه بالجسد بدون المجد اللائق بالله. ولكن لأن قلبه قد استنار بحلول قوة المسيح وسلطانه فيه، فإنه قد صار يحيا في نور المسيح ليس فقط بعينين بصيرتين وإنما أيضًا ببصيرة داخلية. وهنا قال الرب يسوع هذا القول الذي يعلن حقيقةً واقعة بمجيئه إلى العالم: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ» (يو 9: 39).

«فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضًا عُمْيَانٌ؟ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَانًا لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ» (يو 9: 40 و41).

وهنا يواجههم المسيح بقوة الحق. فهو يوضِّح لهم أنهم لا يحصلون على أية منفعة من كونهم مبصرين، أو بالأحرى أنهم يسقطون في حالة أكثر سوءًا مِمَّنْ لا يستطيعون أن يُبصروا بالمرة.

فهو يقول: إن الرجل الأعمى وهو لم ينظر أي فعل من الأفعال المعجزية، فإنه مضى ليغتسل دون أن يُخطئ، وهكذا فهو بلا لوم، أمَّا هم الذين كانوا يراقبون وينظرون الفعل المعجزي، وبحماقة عظيمة وميل خبيث لم يَقبلوا الإيمان عندما رأوا، لذلك فهم يجعلون خطيئتهم صعبة الغفران. وفي الحقيقة يعسر عليهم أن يفلتوا من الدينونة لأنهم يقولون إنهم يبصرون، لذلك فخطيتهم باقية.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis