الليتورجية الكنسية

عبادتنا اللِّيتورجيَّة
هي ترتيل عقائدنا الإيمانيَّة (1)
(5)


(2) قضيَّة سقوط الإنسان في بعض النُّصوص اللِّيتورجيَّة
وعند بعض آباء الكنيسة

تك 15:2-17 ، 1:3-13، 22-24
رو 20:3-26 ، 14:6، 15 ، 4:14 ؛ أف 1:2-8 ؛ 1تي 9:6 ؛ 2بط 17:3، 18


في العدد الماضي ذكرتُ جانبًا من أقوال آباء الكنيسة فيما يختص بقضيَّة سقوط الإنسان، وهي القضيَّة التي تندرج تحت ثلاثة بنود أساسيَّة هي:

2: 1 أسباب السُّقوط؛ 2: 2 مراحل السُّقوط؛ 2: 3 نتائج السُّقوط

وأُكمِّل في هذا العدد بعضًا آخر من أقوالهم.

يواصل البابا أثناسيوس الرَّسولي كلامه عن سقوط الإنسان فيقول:

[الله لم يكتفِ بأن يخلقنا من العَدَم، ولكنَّه أيضًا وهبنا مجانًا، بنعمة الكلمة، حياة منسجمة مع الله. ولكن البشر إذ رفضوا الأمورَ الأبديَّة، وتحوَّلوا إلى الأمور الفاسدة بمشورة الشيطان، صاروا سببًا لفساد أنفسهم بالموت، لأنهم - كما ذكرتُ سابقًا - بالطَّبيعة فاسدون، لكنَّهم تعيَّنوا للخلاص من حالتهم الطَّبيعيَّة (الفاسدة هذه) بنعمة اشتراكهم في ”الكلمة“ - إن استمرُّوا صالحين.

ولأنَّ ”الكلمة“ حلَّ فيهم، فحتى فسادُهم الطَّبيعي لم يجسُر أن يقترب منهم، كما تقول الحكمة أيضًا: «لأنَّ الله خَلق الإنسان في عدم البلى(2) وصنعه على صورة أزليَّته، لكن الموت دخل إلى العالم(3) بسبب إبليس». وعندما تمَّ ذلك (4)، بدأ البشر يموتون، وساد عليهم الفساد(5) من ذلك الوقت فصاعدًا، وصار له (أي الفساد) سُلطان على كلِّ الجنس البشري، أكثر من سُلطانه الطَّبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال عصيان الوصيَّة.

لأنَّ البشر لم يقفوا عند حدٍّ معيَّن حتى في سوء أفعالهم، بل تدرَّجوا في الشَّر حتى تخطوا كلَّ حدود، وأصبحوا يخترعون الشَّر ويتفنَّنون فيه، إلى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد. وبعد ذلك إذ توغَّلوا في الرَّذيلة، ولم يقفوا عند شرٍّ واحد، بل راحوا يخترعون كلَّ جديد من الشَّر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبَّعة بالخطيئة] (تجسُّد الكلمة 1:5-3).

[ إذًا فمن أجل هذا ساد الموت على البشر، وعمَّهم الفساد، وكان الجنس البشري سائرًا نحو الهلاك، وكان الإنسان العاقل الذي خُلق على صورة الله آخذًا في الاختفاء، وكانت صَنعة الله آخذة في الانحلال ...

كان أمرًا مرعبًا لو أنَّ الله بعد ما تكلَّم يصير كاذبًا، إن كان بعد أن أصدر حُكمه على الإنسان بأن يموت موتًا إن تعدَّى الوصيَّة، لا يموت، بل تبطُل كلمةُ الله. ولو كان الإنسان لم يمُت بعد أن قال الله إننا نموت، لأصبح اللهُ غيرَ صادق.

وكان أيضًا أمرًا غيرَ لائق، أنَّ الخليقة التي خُلقت عاقلة، والتي شاركت ”الكلمة“، يصبح مصيرها الهلاك، وترجع إلى عدم الوجود بالفساد ...

لأنه لو لم يكن قد خُلق جنس البشر، لما تجاسر إنسان أن ينسب إليه الضَّعف. أمَّا وقد خَلقه، وخَلقه من العَدَم، فقد كان يُعدُّ أمرًا مُشينًا جدًّا أن يفنى المخلوق على مرأى من الخالق. لهذا أصبح أمرًا محتَّمًا ألا يُترك الإنسان لتيار الفساد، لأنَّ ذلك يُعتبرُ عملًا غيرَ لائق، ولا يتَّفق مع صلاح الله] (تجسُّد الكلمة 1:6، 3، 4، 9، 10).

ويشرح القدِّيس كيرلس الكبير، أنَّ السُّقوط كان بسبب التَّهاون في حفظ الوصيَّة، فيقول:

[لقد سبق أن مُنح الرُّوح في القديم لآدم باكورة جنسنا، ولكن هذا صار متهاونًا من جهة حفظ الوصيَّة المعطاة له، واستهتر بما أُمر به، فسقط في الخطيئة، وبالتَّالي لم يجد الرُّوح راحة ἀνάπαυσιν بين النَّاس، لأنَّ «الجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 12:3). ثم إنَّ الكلمة ابنَ الله الوحيد، صار إنسانًا، ولكن دون أن يتحوَّل عن كونه إلهًا. فلمَّا صار مثلَنا وهو غيرُ قابل لأن ينساق نحو الخطايا، حينئذ ارتاح الرُّوح القُدُس في طبيعة الإنسان، فيه هو أولًا بصفته الباكورة الثَّانية لجنسنا، حتى يرتاح فينا أيضًا، ويثبُت في نفوس المؤمنين، محبًّا للسُّكنى فيها] (شرح إشعياء 1:11).

ويشرح القدِّيس إيريناؤس (130-200م) أنَّ مخالفة الوصيَّة بدأت من البطن. فيقول:

[في البدء أغوى الشيطان الإنسان بالطَّعام مع أنه لم يكن جائعًا، وجعله يخالف وصيَّة الله. وأمَّا في هذه المرَّة الأخيرة، فلم يستطع أن يُثني (المسيح) الجائع من أن ينتظر الطَّعام الذي من عند الله ... وهكذا فإن شَرَه الإنسان في الجنَّة بالأكل المضاعَف قد أُبطِلَ بواسطة الامتناع (عن الأكل) الذي (احتمله المسيح) في هذا العالم ... وكذلك العصيان الذي ارتكبه آدم ضد وصيَّة الله قد أُبطِلَ لمَّا حفظ ابن الإنسان وصيَّة النَّاموسِ، ولم يخالف وصيَّة الله](6).

ويؤكِّد القدِّيس يوحنَّا ذهبي الفم على القَول السَّابق فيقول:

[آدم بسبب عدم انضباط بطنه، قد أُخرج من الفردوس. وهذه الرَّذيلة أيضًا هي التي تسبَّبت في الفيضان أيام نوح، وأيضًا في نزول نار من السَّماء على سدوم. فمع أنَّ أهل سدوم كانوا مُدانين بالزِّنا، إلاَّ أن أصل كلِّ العقوبات ينشأ من هنا (أي من التعبُّد للبطن)، الأمر الذي نوَّه عنه حزقيال قائلًا: «هذا هو إثم سدوم، أنهم بالكبرياء وبالشِّبع من الخُبز، وبالملذَّات، قد تنعَّموا» (حزقيال 49:16 حسب السَّبعينيَّة). وهكذا اليهود أيضًا اقترفوا أعظم الشُّرور وانجرفوا للإثم بسبب السُّكْر والتَّلذُّذ بالأطعمة (خروج 6:32). فلهذا السَّبب بالذَّات، قد صام الرَّبُّ أربعين يومًا، مُظهرًا لنا أدوية الخلاص] (عظة 13 في تفسير متى 2:4).

ويقول الأنبا أنطونيوس أب جميع الرُّهبان:

[يا أحبائي ... تحفَّظوا من مشورات الشيطان الرَّديئة. لأنه يأتي بصورة من يقول الحق، ليخدع ويَطغَى على من يقبله ... لأنه يصطاد المؤمنين بأساليب تبدو حسنة، وهى ليست كذلك. والذين لم يدركوا الكمال بعد، لا يعرفون حِيَل الشيطان هذه، ولا ما يُلقيه فيهم كلَّ وقت. أمَّا الكاملون الذين درَّبوا حواسَّهم، وعرفوا تمييزَ الخير من الشَّر (عبرانيِّين 14:5)، فهؤلاء لا يقدر العدو أن يُطغيَهم. أمَّا المؤمنون الذين لم يكمُلوا (بعد)، فإذا لم يحترسوا لذواتهم، فإنه يخدعهم بطعامه الطيِّب في مظهره، وهو ليس بطيِّب، ويجتذبهم كما يجتذب الصيَّاد السَّمكة بعدما يُغطِّي رأسَ الصِنَّارة بالطُّعْم. فالسَّمك لكونه لا يَعلَم بالصنَّارة المستورة بالطُّعم، يتقدَّم ويبلع الطُّعم، فيُؤخذ عاجلًا وبسهولة. فافهموا هذا أنَّ ... المؤمنين غير الكاملين، فالعدو يصيدهم بالأسباب التي تُشبه الحق، كما يقول سليمان الحكيم: إنه «قد توجد طريقٌ يُظنُّ بها أنها مستقيمة، وآخرتُها تؤدي إلى أسافل الجحيم» (أمثال 25:16).

ومكتوب أيضًا في عاموس النَّبي: «يا عاموس، ماذا تصنع هنا؟ فقال: إني أرى شبكةً لصيد الطَّير» (عاموس 2:8). ومعلوم أنَّ الطَّير، لفزعه من أن يُؤخذ في الأرض، فهو يتعالى في الجو ويصنع له مكانًا لراحته ورُقاده. فإذا رقد، يكون بلا همٍّ، كونُه لا يصل إليه أحدٌ فيمسكه. لكنَّنا نرى الصيَّاد يتحايل، ويأتي تحت مكانه، وينصب له شبكته، ويخدعه بالطُعم، وبذلك ينزل به من ذلك العلو ويقتنصُه. والشيطان يفعل هكذا، ويصيد المؤمنين غير الكاملين بحيَله التي هي شبيهة بالحق وهي ليست كذلك، ويُنزلهم من علوِّهم.

لأنه هكذا فعل (الشيطان) لمَّا اختفى في الحيَّة، وقال لحواء: «إنكما إذا أكلتما من الشَّجرة تصيران آلهة، وتنفتح أعينكما» (تكوين 5:3). فلمَّا سمعت حواء هذا الكلام، مال قلبُها إليه، وظنَّت أنه حق، لأنها لم تفحصه. فلمَّا أكلتْ وأطعمتْ آدم، أصابهما الذُّلُّ العظيم، وسقطا كلاهما من علوِّهما.

هكذا يفعل الشيطان بالمؤمنين الذين لم يُدركوا الكمال بعد، عندما لا يفرِّقون بين الخير والشَّر، بل يتبعون أهويتهم ويقنعون برأيهم، ولا يرجعون ليتعلَّموا من آبائهم الذين قد كَمَلوا، وميَّزوا بين الخير والشَّر، ويظنُّون أنهم قد صاروا كاملين ومبارَكين وحدَهم مثل آبائهم. فهؤلاء، يا أولادي الأحباء، يشبهون تلك الطُّيور التي صنعت أوكارها في الجو وهبطت إلى الأرض، فاقتنصها الصيَّادون بالحيل المخادعة. وهذا يكونُ لهؤلاء، بسبب اتكالهم على ذواتهم، وعملهم مشيئاتهم، وتكميل إرادتهم، وعدم طاعتهم لآبائهم ... لأنَّ التَّعلُّم من الآباء صار صعبًا عليهم، لظنِّهم أنهم قد عرفوا كلَّ الأشياء] (الرِّسالة 5:18، 6).

وينقل لنا القدِّيس أنبا أنطونيوس وصيَّة غالية، تُكمِّل قوله السَّابق مباشرة، فيقول:

[موسى أوصى شعبه في البريَّة أن لا ينسوا خطاياهم الأولى، بقوله لهم: «إذا ما دخلتم الأرض التي ترثونها، فاحترسوا إذا استغنيتم، من أن تأكلوا وتشربوا وتبطروا؛ لكن اذكروا العبوديَّة التي كانت لكم في مصر(7)، وما أغضبتم الرَّبَّ به أيضًا في البريَّة (تثنية 7:9)؛ ويكون هذا التَّذكار لكم، طولَ أيام حياتكم (تثنية 9:4).

وهذا تعليمٌ لنا، يا أولادي الأحباء، إذا ما صرنا عبيدًا زمانًا بمصر، التي هي الخطيئة التي استُعبِدنا لها بإرادتنا. فلنجاهد، إذًا، أن ندخل أرض الميعاد. وإذا دخلنا، فلا ننسى عبوديتَنا، بل نذكرها دائمًا، لئلا نأكل ونشبع ونبطر. وليس موسى وحده هو الذي يُعلِّمُنا ذلك، بل وسائر الأنبياء أيضًا هكذا يعلِّموننا أنْ لا ننسى خطايانا التي غفرها الله لنا ونسيها هو. بل نكون نحن ذاكرين لها كلَّ حين، لكى ما نكون على الدَّوام متَّضعين أمام الرَّب، مثلَ قوم ماثلين أمام من له عليهم دَين] (الرِّسالة 9:16).

خَلَقَ الله الإنسان، ليكون حبيبًا وصديقًا له، يتمتَّع برؤيته والحديث معه، والتأمُّل فيه، ولكن الإنسان، سقط سقوطًا عظيمًا، وطُرد من أمام وجه الله، ونُفي إلى الأرض التي أُخذ منها. واستحق الحُكم «موتًا تموت» (تكوين 17:2)، و«أنت تراب وإلى تُراب تعود» (تكوين 19:3).

ولكن شكرًا لله، و”سلام لبيت لحم، مدينة الأنبياء، التي وُلد فيها المسيح آدم الثَّاني، لكي يردَّ آدم الإنسان الأوَّل الذي من التُّراب إلى الفردوس، ويحل قضيَّة الموت، أنك يا آدم أنت ترابٌ وإلى التُّراب تعود. لأنَّ الموضع الذي كثُرت فيه الخطيئة، تفاضلت فيه نعمة المسيح“(8).

لقد استوجب هذا السُّقوط الذي أصاب الإنسان، أن ينزل الرَّب إلينا على الأرض، لكي يُعيد خَلق الإنسان من جديد، خلقًا ثانيًا روحيًّا. فحديثنا القادم هو عن تجسُّد ابن الله، الذي صار إنسانًا من أجلنا.

(يتبع)

__________________________________


(1) المقال مأخوذ عن كتاب: محاضرات في ليتورجية كنيسة الإسكندرية، للراهب أثناسيوس المقاري.

(2) أو ”خالدًا“ حسب ترجمة اليسوعيِّين.

(3) حكمة 23:2، 24

(4) أي بعد أن أغوى الشيطان الإنسان فسقط.

(5) واضحٌ من الكلام هنا، أنَّ المقصود بالفساد هو موت أو انحلال الجسد، وهلاك النَّفس، أي طرحها بعيدًا عن الله.

(6) ضدَّ الهرطقات 1:21:5، 2

(7) قارن تثنية 11:8-14

(8) القطعة السَّابعة من ثيئوطوكيَّة الاثنين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis