من تاريخ كنيستنا
- 187 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
أراخنة هذا العصر
(ويصا واصف باشا؛
سينوت حنا باشا)


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)

ويصا واصف باشا (1873م – 1931م):

وُلِدَ بطهطا عام 1873 وتُوفِّي عام 1931. بدأ مشواره السياسي بكتابة مقا?ت في جريدة ”اللواء“ التي كان يُصدرها مصطفى كامل، حيث صار عضوًا في الهيئة الإدارية للحزب. استقال من الحزب بعد رحيل مصطفى كامل عام 1908، لارتباط الحزب بالخلافة العثمانية. الشيخ عبد العزيز جاويش المتشدِّد دينيًّا كتب سلسلة مقالات في صحيفة ”اللواء“ يهاجم الأقباط ويطالب بالقضاء عليهم، تحت عنوان ”الإسلام غريب في أرضه“. أمَّا أحمد لطفي السيد فقد انقسم على الحزب الوطني لاتجاهه الليبرالي، وأسَّس حزب الأمة، وأصدر جريدة ”الجريدة“، التي هاجم فيها الأقباط مردِّدًا آراء المعتمد البريطاني كرومر المعادية للأقباط. وشاركت صحف أخرى في الحملة ضد الأقباط، بدعم الاستعمار البريطاني بهدف إحداث انقسامًا في الشعب المصري. بعد أحداث دنشواي أجبرت حكومة بريطانيا اللورد كرومر على الاستقالة واستبدلته بغورست الذي حافظ على العداء الشديد للأقباط. وبعد مقتل بطرس باشا غالي تزايدت المتاعب القبطية جدًّا، بالرغم من كل ما قدَّموا من خدمات وطنية للمجتمع المصري، فكانوا يتعرَّضون لحرب شديدة من كلا الحزبين الوحيدين في مصر، الحزب الوطني، وحزب الأُمة! قلة من المسلمين الوطنيين المخلصين، هم مَنْ كانوا يُقدِّرون الدور الوطني الحضاري القبطي، مُدركين أهداف الاستعمار، منهم سعد زغلول وأخوه. مرَّ الأقباط بوقت حرج في السنوات السابقة على الحرب العالمية الأولى. الغريب جدًّا أن ويصا واصف وقف لجوار أحمد لطفي السيد تصديًا للمؤتمر القبطي في أسيوط! فتحمَّل الكثير من الإهانات، ولقَّبه البعض باسم ”يهوذا“، بينما كان لتصرفه الحكيم في ذلك الوقت أن فوَّت الفرص على الاستعمار ومروِّجي الفتن لعمل انقسام في الشعب المصري. وقد كان للمواقف الحكيمة للبابا كيرلس الخامس وصلواته أن عبرت مصر تلك الأزمة بسلام. وبإعلان الحرب العالمية الأولى وموقف تركيا المعادي لبريطانيا، تغيَّر وضع مصر الدولي من ولاية عثمانية إلى كيان تحت الحماية البريطانية (18 ديسمبر 1914). وبذلك انتهى دور الحزب الوطني المؤازر للخلافة العثمانية، الذي كان يثير التعصُّب والعداء ضد الأقباط.

مَرَّ زمن صعب جدًّا على المصريين أثناء الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء الحرب تفككت الدولة العثمانية. وصدر التصريح البريطاني الفرنسي، ”الخاص بتحرير الشعوب التي أُنقِذَت من الظلم العثماني، وحقها في إقامة حكومات وطنية مستقلة“. كان ذلك التصريح خاص بسوريا والعراق، كما كانت بريطانيا قد أقامت مملكة عربية ”سعودية“ مستقلة في الحجاز أثناء الحرب، واستعد الأمير فيصل لتمثيل بلده أمام مؤتمر باريس. كل ذلك حرك الوطنيين المصريين، فقاموا بتشكيل ”وفد مصري“ لتمثيل مصر أمام مؤتمر الصُّلح وعرض مطالب الشعب المصري في الاستقلال. تشكل الوفد بزعامة سعد زغلول باشا، وكيل الجمعية التشريعية، كما تألف وفد آخر رسمي من حسين رشدي رئيس الوزراء وعدلي يكن. ثم التقى سعد زغلول وزميليه أعضاء الوفد، مع المندوب السامي البريطاني السير ”رجنالد ونجت“، وطالبوا باستقلال مصر. ولمَّا تجاهلت السلطات البريطانية تلك المطالب ولم تسمح بسفر الوفد لعرضها على مؤتمر الصلح، دفع ذلك سعد زغلول لإعلان بطلان الحماية في 7 فبراير 1919، وأرسل احتجاجًا إلى السلطان أحمد فؤاد لقبوله استقالة وزارة حسين رشدي حيث كانت تنوي بريطانيا إعلان السلطان فؤاد خليفة للمسلمين (تحت الحماية البريطانية) بدلًا من الخليفة العثماني. وفي 8 مارس 1919 أُلقي القبض على سعد زغلول مع آخرين ونُفوا إلى مالطة. وفي اليوم التالي انفجر بركان الثورة في مصر مما أجبر بريطانيا على التراجع. بعد عودة سعد من الاعتقال ذهب لمقابلته كل من ويصا واصف وفخري عبد النور وتوفيق أندراوس، وطلبوا أن ينضموا إلى الوفد, فرحَّب بموقفهم الوطني الرائع وقبلهم فورًا. وبانضمام الأقباط إلى الوفد أصبح قوة أمام القصر والمستعمر الإنجليزي, وصار حصن أمان للوطن. وعند سفر الوفد إلى باريس لعرض مشروع استقلال مصر ضَمَّ الوفد ويصا واصف عضوًا ومستشارًا للوفد فكان بمثابة المتحدِّث الرسمي له بسبب لباقته وتمكنه اللغوي.

ولمَّا انقسم الوفد وتخلى عن سعد جميع أعضاء الوفد ظلَّ إلى جانبه الوطنيين وأغلبهم من الأقباط، منهم ويصا واصف وسينوت حنا وحافظ عفيفي وواصف غالي، ومكرم عبيد ومصطفى النحاس، حيث كانوا قوة ضد القصر وتيار عدلي يكن الموافق لمطالب المستعمر الإنجليزي. وعندما شكل عدلي يكن الوزارة تقرَّر نفي سعد زغلول وجماعته للمرة الثانية، وتم وقتها القبض على ويصا واصف من المحكمة بعد جلسة كان يترافع فيها.

ويُعتبر ويصا واصف هو أول قبطي يترأس البرلمان المصري في فترتين (20 مارس - 18 يوليو 1928) و(11 يناير - 21 أكتوبر 1930)، ليكون أول قبطي يتولى رئاسة البرلمان منذ نشأة الحياة النيابية في مصر. شغل منصب وكيل لمجلس النواب في وزارة سعد زغلول، ثم رئيسًا له. ثم صار رئيسًا للبرلمان المصري المنتخب بإجماع شعبي في أول برلمان بعد سعد زغلول، في عهد مصطفى النحاس باشا! ومن مواقفه الوطنية التي يشهد لها التاريخ ما حدث أثناء الخلاف الدستوري بين الملك فؤاد والنحاس باشا في عام 1930. فأصدر الملك قرارًا بتعطيل الحياة البرلمانية، وأمر بإغلاق أبواب البرلمان بالسلاسل. فانفجرت المظاهرات في القاهرة وتمَّ إطلاق النار على المتظاهرين، وسارعت بريطانيا بإرسال بارجتين عسكريتين إلى شواطئ الإسكندرية. ولما حاصرت قوات الجيش جميع الشوارع المؤدية للبرلمان، إذ بويصا واصف يتقدَّم الصفوف بصفته رئيسًا للبرلمان، ومن خلفه النواب ليصلوا لمقر البرلمان المُغلَق. ويأمر بتحطيم السلاسل وفتح الأبواب، وتقدَّم النواب غير عابئ بقرار الملك المُدعَّم من الإنجليز. ودخل ويصا البرلمان وعقد الجلسة البرلمانية وألقى فيها خطابًا وطنيًّا ناريًّا، كما تحدَّث في تلك الجلسة مصطفى النحاس باشا. وبعد تعطيل البرلمان، لمَّا عُرِض على ويصا واصف منصب الوزير في وزارات موالية للاستعمار البريطاني مثل وزارة أحمد زيور باشا، ووزارة إسماعيل صدقي باشا كان يرفضها. وعاد ويصا واصف إلى العمل بالمحاماة، يقف أمام المحاكم المختلطة يدافع عن المظلومين والثوار وعن كل وطني شريف. وكان لا يتقاضى أجرًا من غير القادرين.

وفي 27 مايو 1931 ودَّع شعب مصر ويصا واصف حيث تزاحم المسلمون والأقباط في حمل نعشه وسط هتافات (لن ننساك يا ويصا ... لن ننساك يا محطم السلاسل ... بلِّغ الظلم لسعد يا ويصا). لقد رحل ويصا واصف باشا تاركًا تراثًا مجيدًا متمثلًا في وحدة مصر، ونموذجًا رائعًا للوطنية، والشجاعة، والعمل المُتقَن، والوفاء، لأجيال قادمة.

سينوت حنا باشا ( 1874 م - 1930م):

سينوت حنا باشا مثال رفيع للوطنية والفداء، وُلِدَ عام 1874 لعائلة ثرية بأسيوط. كان صديقًا للزعيم مصطفى كامل، ووثيق الصلة بويصا واصف عضو اللجنة الإدارية للحزب الوطني. انضم سينوت حنا للوفد المصري عام 1918 لمفاوضة الإنجليز، حين بزغ نجمه.

مع انصهار الأقباط والمسلمين في بوتقة ثورة 1919، أصدر الفيلد مارشال اللنبي أمرًا بمنعه هو وسعد زغلول مع ثمانية من أعضاء الوفد من القيام بأي عمل سياسي. ثم تقرر نفيه، فكان أحد الرفاق الخمسة الذين نفاهم الإنجليز لجزيرة سيشيل مع سعد زغلول في سبتمبر 1920 [سينوت حنا، مكرم عبيد، مصطفى النحاس، فتح الله بركات وعاطف بركات].


سعد زغلول والخمسة الذين تم نفيهم إلى جزيرة سيشيل

بعد عودتهم، واصل سينوت دعمه للوفد الذي لم يبخل عليه بالمال فهو سليل أثرياء أسيوط. كتب سلسلة من المقالات تحت عنوان ”الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا“، كانت لها أثرًا كبيرًا في تدعيم نسيج الوحدة بين المصريين. بسبب مقالاته النارية قامت السلطة العسكرية البريطانية بتعطيل صحيفة ”مصر“ (صحيفة قبطية)، ثم تم إبعاده عن القاهرة وتحديد إقامته في مدينة الفشن ”بالوجه القبلي“. انتخب عضوًا في مجلس النواب عام 1924. وكانت الصحف تزخَر برسائل التأييد له، حيث وصفته الجماهير بـ”النائب الحر الجريء“. كان من قليلين، استمر يعمل إلى جانب سعد زغلول في الدفاع عن الوطن حتى النهاية.

افتداء الزعيم مصطفى النحاس باشا من طعنة قاتلة:

في الثامن من يوليو 1930 كان سينوت حنا في جولة مع الزعيم مصطفى النحاس في عربة (حنطور) بمدينة المنصورة حين هاجم أحد العساكر مصطفى النحاس بسونكي بندقية (وقيل بحربة) لاغتياله، بتدبير حكومي بريطاني. ألقى سينوت بنفسه على النحاس الذي كان بجواره ليتلقَّى الطعنة القاتلة. ولما ألقى النحاس خطبته في المنصورة، قال: ”كان عن يساري وكانت الطعنة مصوبة إلى ظهري، فدافع عني وتلقَّى الطعنة بذراعه بدلًا مني! أعز عزيز على نفسي من نفسي“. إلَّا أن سينوت حنا توفي سريعًا متأثرًا بتلك الطعنة، وقيل إنَّ السونكي كان مسمومًا.

***

المراجع:

1- ويصا واصف باشا - ويكيبيديا.

2- سينوت حنا باشا - ويكيبيديا.

3- بعض الكتب التاريخية.

(يتبع)
م. فؤاد نجيب يوسف

_
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis