تأملات روحية



«وتشهدون أنتم أيضاً»
(يو 15: 27)

بعض معاني الشهادة:

+ قد تحمل الشهادة معنى الإقرار بفضيلةٍ ما: «ويشهـد فيَّ برِّي يـومَ غـدٍ» (تك 30: 33)، «لأن... العـينَ رأتْ فشَهِـدَت لي» (أي 29: 11)، «كـان الجميع يشهـدون لـه» (لـو 4: 22)، «شهـدوا بمحبتك أمام الكنيسة» (3يو 6).

+ وتحمل الشهادة أيضاً معنى الكشف عـن سـيرة الإنسان، إنْ كـانت صالحة أم طالحة: «وخطايانا تشهد علينا» (إش 59: 12)، «آثامنا تشهد علينا يـا رب» (إر 14: 7)، «لأني أشهد لهـم أن لهـم غَيْرَةً لله» (رو 10: 2)، «تكـون له شهادةٌ حسنة» (1تي 3: 7).

+ وقـد تعني الشهادة، اختيار الله لأشخاصٍ مُعيَّنين ليُعلِنوا شخصـه أو يُبلِّغوا كلامـه: «أنتم شهـودي يقول الـرب، وعبدي الذي اخترتـه؛ لكي تعرفوا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنـا هو» (إش 43: 10)، «ومتى جـاء المعزِّي... روح الحق... فهـو يشهد لي. وتشهـدون أنتم أيضاً، لأنكم معي من الابتداء» (يو 15: 27،26).

+ وقـد تكـون الشـهادة هـي اعـترافَ الشفتين بالرب يسوع اعترافـاً نابعاً مـن إيمانٍ قلبي بشخصه الإلهي: «وأنا قد رأيتُ وشهدتُ أن هذا هـو ابـن الله» (يو 1: 34)، «الذي كان من البدء... الذي شاهدناه... فإنَّ الحياة أُظهِرَت، وقـد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا» (1يو 1: 2،1).

+ وقـد تكون الشهادة هي الاعتراف العلني أمـام شهودٍ كثيريـن بالإيمان بـالرب يسوع والاعتراف بألوهيتـه، مِمَّـا يؤدِّي بـالذي يشهد ويعترف بإيمانـه إلى الآلام والعذابات حتى إلى سَفْك الدم: فقد ذَكَـر سِفْر أعمال الرسل اعتراف القديس اسطفانوس الذي أدَّى إلى رجمه بالحجارة عندما شهد قائلاً: «ها أنا أنظُر السموات مفتوحة، وابن الإنسان قائماً عـن يمين الله» (أع 7: 54-60)، واستشهاد بعض المؤمنين بـالرب يسـوع على يدَي شاول الطرسوسي: «أمَّا شاول فكان لم يَزَل ينفث تهدُّداً وقتلاً على تلاميذ الرب» (أع 9: 1)، وشهادة يعقوب الرسول أخي يوحنا الحبيب بحدِّ السيف (أع 12: 2). ثم اضطهاد الأباطرة والملوك والولاة للمسيحيين في كلِّ مكان، بغرض إبادة المؤمنين بالرب يسوع، واقتلاع المسيحية من جذورها؛ ولكن أنَّى لهم وللشيطان مُحرِّكهم في ذلك فـ «كل آلةٍ صُوِّرتْ ضدَّكِ (يا كنيسة المسيح) لا تنجح، وكـل لسان يقوم عليكِ في القضاء تحكمين عليـه» (إش 54: 17)، وكمـا وَعَدَنـا الرب يسوع: «... على هـذه الصخرة (صخرة الإيمان بـه وبألوهيته) أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تَقْوَى عليها» (مت 16: 18).

ما يحمله الشهداء في قلوبهم من إيمانٍ عميق:

+ يقول العلاَّمـة كليمندس الإسكندري (من القرن الثالث الميلادي):

[إنَّ الشهيد بسبب حبِّه للـرب، يُفارِق الحياة بمنتهى السـرور... ولـذلك نحـن ندعـو الاستشهاد ”كمالاً“، ليس لأن الإنسان يصـل به إلى تكميل حياتـه مثل الباقين؛ بل لأن به يُظهِر كمال فِعل المحبة](1).

فالآلام والعذابات التي يجوزها المؤمنون هي بمثابة اختبار لمدى ثبات إيمانهم وعُمق محبتهم للرب يسوع.

+ ويقـول القديـس إغناطيـوس أسـقف أنطاكية الذي استُشهِدَ أيـام حُكْم الإمبراطـور تراجان (98- 117م) في رسالته إلى رومية:

[لقد استجاب الله صلاتي، وعمَّا قريب سوف يُريني وجوهكم المقدَّسة، وبذلك حصلتُ على أكثر مِمَّـا طلبتُ. بما أني مُقيَّـدٌ في المسيح يسوع، فإني آمـل أن أُحييكم - إن كـانت هذه إرادته - ليؤهِّلني لبلوغ غايتي.

لا أُريـدكم أن تبتغوا مـرضاة الناس، بـل مرضاة الله، كمـا أنتم الآن. فأمـامي الآن فرصة نادرة لأصل إلى الله. وإن لزمتم الصمت، تُسجِّلون لأنفسـكم عملاً حسناً. إن لزمتم الصمت فيما هـو لي، فسـأكون كلمة شهادة لله. أمـا إن أحببتم جسـدي، فسوف أكون مجرَّد صرخـة تضيع هباءً. لا أطلب منكم سـوى أن أكـون سـكيباً لله مـا دام المذبـح مُعـدّاً... حسناً لي أن أنـام بعيـداً عـن العالم قريباً من الله، حتى أقوم له](2).

الشهداء يتحمَّلون العذابات حُبّاً في الرب:

قد أثبت بولس الرسول قوَّة إيمانه واستهانته بالعذابات حُبّاً في مَـن أحبه أولاً، عندمـا أجاب المؤمنين الذين أرادوا أن يثنوه عـن الذهاب إلى أورشليم حيث المخاطر وربمـا الموت: «مـاذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أن أُربط فقط، بـل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).

+ هـذا هـو لسان حال كل مُعترفٍ وشهيد. ففي قصـة استشهاد القديس أمونيـوس أسقف إسنا، الذي استُشهِد مـع رعيته في القرن الثالث، وذلك أثناء حُكْم الإمبراطور دقلديانـوس، يقـول لأولاده:

[يا أولادي، اصبروا، فـإنَّ أتعاب هذا العالم كلا شيء أمام المجد الذي يُعطيه الله لمُحبي اسمه القدوس. اصبروا، يا أولادي، فإنَّ الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلُص](3).

رجاء الشهداء وتطلُّعهم للوطن السماوي:

يقول القديس بولس: «لأن خِفَّة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثِقَـلَ مجدٍ أبديـاً» (2كو 4: 17)، ولأن «آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا» (رو 8: 18). ولذلك فكل شهود الإيمـان، «الآن يبتغون وطناً أفضـل، أي سماويّاً. لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعَى إلههم، لأنه أعدَّ لهم مدينة» (عب 11: 16).

+ ويقول القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا (أزمير بآسيا الصغرى)، الذي استُشهِدَ في أيـام حُكمْ الإمبراطـور أنطونينوس بيوس في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي:

[أيها الـرب الإله القادر على كـلِّ شيء... أُباركك، لأنـك رأيتَ أن تُنعِمَ عليَّ في هـذا اليوم وفي هذه الساعة، أن أُشارِك - مع عداد شهدائك - في كـأس مسيحك، وأَعْبُر إلى الحياة الأبدية](4).

محبة الشهداء لمُضطهديهم والصلاة من أجلهم:

لقد اقتفى الشهداء مثال الرب يسوع الذي وهو على الصليب لم يطلب نقمةً أو عقاباً لصالبيه، بل طلب مـن أجلهم قائـلاً: «يـا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون مـاذا يفعلون» (لو 23: 34). وهـذا مـا نـراه أيضـاً في قصـة استشهاد القديـس اسطفانوس، فبينما حَنَـق اليهود عليـه بقلوبهم، وبدأوا يرجمونه بالحجارة، إذا بـه يجثو على رُكبتيـه ويصرخ بصوتٍ عظيم: «يا ربُّ، لا تُقِمْ لهم هذه الخطية» (أع 7: 60).

+ ويُخبرنـا يوسابيـوس القيصري (263-340م) عـن قصة شهيدٍ في قيصرية يُـدعَى بولس، هذا طلب مهلة قبل استشهاده ليرفع صلاة إلى الله مـن أجل المؤمنين، ومـن أجل اهتداء اليهود والأُمم الذيـن يعيشون في ضلال، ومـن أجـل الجمهور المحتشد في ساحة الاستشهاد. ثم ليتوسَّل إلى الله مُتضرِّعاً مـن أجـل القاضي الـذي حَكَمَ عليه بالموت، ومـن أجـل الولاة، وكذلك مـن أجـل الإنسان الذي كان مُزمعاً أن يقطع رأسه بحـدِّ السيف. وهـو يتوسَّل إلى الله من عمـق قلبه أن لا يَحسِب عليهم خطيَّتـهم بسبب ما اقترفوه من نحوه ومن نحو إخوته المؤمنين(5).

+ وفي الرسالة التي كتبها صاحبها المجهول الهويَّة إلى ديوجنيتس Diognetus (أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني)، يقول:

[الروح كائنةٌ في الجسد، لكنها ليست منه؛ والمسيحيون مُقيمون في العالم، لكنهم ليسوا من العالم. الجسد المنظور يُغلِّف الروح التي لا تُرَى، والمسيحيون كائنون في العالم، لكن صلاحهم يظـلُّ مخفيّاً. الجسد يُبغِض الروح ويُحاربهـا، لكـن الروح تحـب الجسد الذي يُبغضها... وهكـذا المسيحيون يحبُّـون مَن يُبغضونهم](6).

طهارة سيرة الشهداء ونقاوة حياتهم:

الإنسان المسيحي الحقيقي الذي له إيمانٌ قويٌّ بالرب يسوع، نجـده في سيرة مقدَّسـة وتقوى، وذلك نظير القدوس الذي دعاه (1بط 1: 15). فـإذا واجهته ضيقات واضطهادات يظـلُّ مُتمسِّكاً بإيمانـه القويم، وفي نفس الـوقت حافظـاً عفَّته وطهارته. ولـذلك فهـو يستهين بالعالم وشهواته، وكذلك بميول الجسد وأهوائه.

ويحكي يوسـابيوس القيصري عن بوتامينا العفيفة، كيف أنها توسَّلت إلى الوالي ألاَّ يُجرِّدها الجنود من ثيابها وهم يُعذِّبونها؛ بل يَدَعونها تنزل ببطء إلى الإنـاء الضخم الذي به القار المغلي، وهي بملابسها، حتى يتأكَّدوا مـن قوَّة الاحتمال التي يَهَبَها المسيح لها - هـذا من جهةٍ - ومن جهةٍ أخرى، حتى تُحافظ على طهارتها(7).

+ وفي هـذا الصدد عينـه يقول يوسابيوس القيصري:

[لم تكـن النساء أقل مـن الرجال بسالة في الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهي؛ بل قد نلن مع الرجال نصيباً مُساوياً مـن الأكاليل من أجل الفضيلة... وكُنَّ يُفضِّلْن تسليم حياتهُنَّ للموت عن تسليم أجسادهن للنجاسة](8).

تعزية الرب لهم وقت آلامهم واستشهادهم:

قد تنفتح بصيرة الشهداء أثناء تعذيبهم ووقت استشهادهم، فيَرَوْا مجـد الرب يسـوع، الذي يؤازرهم ويُعِدُّ لهم أكـاليل المجد، وذلك مثلما حدث للشهيد اسطفانـوس في أثناء رَجْمـه، إذ «رأى مجد الله، ويسوع قائماً عـن يمين الله»، وعندمـا رأى مجـد الرب قـال بنشوةٍ روحية: «ها أنـا أنظُر السموات مفتوحـةً، وابن الإنسان قائماً عـن يمين الله» (أع 7: 56،55). ومثلمـا حدث مع بولس الرسول في مدينة لسترة، عندما هجمت الجمـوع عليه بسبب تحـريض اليهود، «فرجموا بولس وجرُّوه خارج المدينة، ظانِّين أنه قـد مات» (أع 14: 19). وفي هذه الأثناء رأى «ما لم تَرَ عين، ولم تسمع أُذُن، ولم يخطر على بـال إنسان» (1كو 2: 9)، إذ قد اختُطِفَ إلى الفردوس «... وسَمِعَ كلماتٍ لا يُنطَـق بها، ولا يَسُوغُ لإنسانٍ أن يتكلَّم بها» (2كو 12: 1-4).

+ ومِمَّا لا شكَّ فيه أن الرؤى السماويَّة التي كـانت تُعلَن للمعترفين، كـانت تُشدِّدهم وتُنسيهم آلامهم التي تفـوق الوصف. فكثيراً مـا كـان الشهـداء يَـرَونَ الـرب يسـوع وملائكتـه والقدِّيسين وهم يفتقدونهم ويُشجِّعونهم.

+ فقد رأت الشهيدة بربتوا في حُلمٍ، سُلَّماً ذهبياً يصل الأرض بالسماء، كان ضيِّقاً بحيث لا يتَّسع إلاَّ لشخصٍ واحـد، ومـن أسفل تنِّين مُرعـب عند الدرجات الأولى لهذا السُّلَّم. وفي الحُلم رأت مُعلِّمها ساتوروس Saturus وهـو يصعد. وحينما وصـل إلى نهاية السُّلَّم من أعلى، قال لها: ”بربتوا... إني في انتظاركِ. ولكـن احذري لئلا يلتهمك التنِّين“. حينئذ قـالت بربتوا: ”باسم يسوع المسيح سأصعد، ولن أخـاف التنِّين“. وبجرأة وَضَعَت رجليها على التنِّين، وكأنه الدرجة الأولى مـن درجات السُّلَّم، ثم ابتدأتْ تصعد مُسرعـةً، وأخيراً وصلتْ. وهنـاك وجدت الراعي الصالح في انتظارها مُمتلئاً رِقَّة نحو خرافه، ثم رفع السيِّد رأسه ونظر إليها قائلاً لها: ”مرحباً بطفلتي“. وحينئـذ سمعت أصوات الذيـن وقفوا حولها يُردِّدون كلمة: ”آمين“(9).

(1) المتفرِّقات 4: 4.
(2) الرسالة إلى رومية 1: 1؛ 2: 2،1.
(3) ”شهداء إسنا“، ميمر للأنبـا بـولس أسقف أسيوط وأبو تيج ومنفلوط. وقـد اعتمد في كتابتـه على نبـذة بقلم الأنبا دوروثيئوس الذي خَلَف القديس أمونيـوس على كرسي إسنا بعد استشهاده، ص 17.
(4) الرسالة إلى سميرنا: 14.
(5) ”شهداء فلسطين“: 8.
(6) الرسالة إلى ديوجنيتس: 5.
(7) ”تاريخ الكنيسة“، 6: 5.
(8) ”تاريخ الكنيسة“، 8: 14.
(9) ”الاستشهاد في المسيحية“، المتنيِّح أنبا يؤانس أسقف الغربية، ص 132،131.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis