من تاريخ كنيستنا
- 95 -
من تاريخ كنيستنا
- 150 -


الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر
البابا بطرس الجاولي
البطريرك التاسع بعد المائـة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1809 - 1852م)
- 14 -

«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18)

(تكملة) ”الأراخنة“ الأقباط في ذلك العصر:

+ المعلِّم إبراهيم نخلة وعـائلته: نشـأ هـذا الأَرخن في قرية ”أُم خنان“ (من قُرَى الجيزة)، ثم أصبح من كبار الكَتَبَة العاملين في ديوان محمد علي باشا. وكـان أكبر أولاد المعلِّم إبراهيم هو ”المعلِّم نخلة“ الذي أَلحَقَه أبوه بالكُتَّاب في طفولته، تبعاً لعـادة القبط آنـذاك. فتفوَّق في اللغتين القبطية والعربية، كما أتقن الحساب والخط. وأهم من هذا كلـه، تعلَّم مـزامير داود النبي والتسبـحات (الأبصلمودية) والمردَّات الكنسية. فلما بلغ سِـن الشباب، اتَّخذه أبوه مُساعداً له في أعمال الديوان ليُدرِّبه عليها. وقـد تجاوَب الشاب مـع عناية أبيه ورغباتـه، فـأصبح ماهراً في مختلف الأعمال الحسابية والكتابية والإدارية. وهكذا كانت مهارته سبب تزكية لدى شريف باشا الكبير الذي اتَّخذه كاتم أسراره (أي سكرتيراً خاصّاً له). ولمَّا كـان هـذا الباشا يُقيم في الإسكندرية، فقد انتقل المعلِّم نخلة هو وعائلته إلى هناك، إذ كان قد أصبح رب بيت.

+ ثم حدث أن طالَبَ محمد علي باشا كبير كَتَبَة ديوانه ”المعلِّم وهبة إبراهيم“ آنـذاك، أن يُقدِّم له حسابـاً شاملاً عـن أمور الدولة. ولكن الكاتب عَجَزَ عن تلبية أَمْر الوالي، فغضب عليه ونحَّاه جانباً. ولثقة شريف باشا في كاتم أسراره، حـوَّل طلب الوالي على المعلِّم نخلة إبراهيم. فـاضطرب المعلِّم نخلـة، وخشي أن يُصيبـه مـا أصاب المعلِّم وهبة. ولكنه، في حيرتـه، استشفع بمـار مـرقس الإنجيلي كـاروز الديار المصرية، ثم نَذَرَ بأن يوقِف كل ما يملك من أراضٍ على الكنيسة (وهـذه الأراضي تقع الآن مـا بين شـوارع شريف باشـا وسيزوستريس والكنيسة القبطية وطوسون بالإسكندرية).

وبعد أن اطمـأن إلى شفاعة ناظـر الإله الإنجيلي مرقس الرسول الطاهر والشهيد، قَصَدَ إلى رأس التين لمُقابلة محمد علي باشا. وقد مكث في ذلك القصر يومين، نجح خلالهما في إنجاز العمل المطلوب وقدَّمه إلى الوالي، الذي أبدى له كل الرِّضا. وحالما غادر القصر، ذهب لساعته إلى الكنيسة المرقسية، وقـدَّم الشكر لله ورفـع التمجيد لقديسه مار مرقس الرسول، ثم قابَل المسئولين بها، واتَّخذ معهم الخطوات اللازمـة لتنفيذ نَذْره. وبعد ذلك عاد إلى بيته.

+ وقـد أنجـب المعلِّم نخلة ثلاثـة بنين هم: إبراهيم، وصالح، وسمعان. وقد ربَّاهم تربية مسيحية حقَّة(1).

+ ومن أحفاده: الشمَّاس ”كامل بن صالح“ المؤرِّخ المعروف الذي كتب الكثير من الكُتب والمقالات عـن بابـوات الإسكندريـة ومطارنة الكـرسي الأورشـليمي وغيرهم (والذي يُعتَبَر مـرجعاً أساسياً في سلسلة مقالات ”من تاريخ كنيستنا“ التي تُنشر في مجلة مرقس).

+ وكل هـذه الوقائع توضِّح لنا أن الشُّعلة المقدَّسة قد انتقلت من يدٍ إلى يد عن طريق الآباء؛ وليس ذلك فحسب، بل انتقلت أيضاً إلى جميع الذين التصقوا بالمسيح وأحبُّوا كنيسته، فكانوا أعضاءً حيَّة في جسده الذي هو بيعته المقدَّسة، وهؤلاء هم الذين نُطلق عليهم لقب: ”أراخنة الكنيسة“.

+ المعلِّم يوحنا المنقبادي: وَهَبَه الله ذكاءً فطرياً عجيباً. فبعد أن استوعب كلَّ المعلومات التي تلقَّنها في الكُتَّاب، أتقن اللغة التركية، وبها استطاع التفاهُم مع الحُكَّام والتقرُّب إليهم.

+ وفي عهـد محمد علي باشـا، تمَّ تعيينه سكرتيراً عامـاً لمديرية (محافظة) عموم الوجه القبلي، والتي كانت تمتدُّ مـن الروضة (بجنوب القاهرة) إلى وادي حلفا (جنوب الصعيد).

وبسبب أمانته وتفانيه في العمل، وَثَق به سليم باشا السلحدار مدير تلك المنطقة وترك له مهمة تدبير أمورها. ومِـن ثمَّ، أصبح له الحـق في التصرُّف في المسائل الإدارية وحوادث السَّطْو (جرائم السرقة بكلِّ فروعها)، وكذلك في تعيين العُمَد والمشايخ وفَصْلهم عن العمل، لأنه لم تكن توجد آنذاك قوانين ولا محاكم يُرجَع إليها.

+ ومع كل هذا النفوذ، ظلَّ على استقامته؛ كما لم يُثنِه نفوذه هذا عـن الاهتمام بشئون المواطنين الأقباط، فكـان يحضر دائماً المجالس الشـرعية الخاصة بالفصل في قضايـاهم الشخصية. كـذلك كان مواظِباً على الصلوات الكنسية، بل إنه كان يقوم أحياناً بإلقاء عظة القدَّاس.

+ ومـن حوادثه الطريفة، أنَّ مأموراً في مركز أسيوط اسمه ”حسن أغـا فرج“ كان يمرُّ يومياً في ذهابـه وإيابـه على كاتب قبطي لأحد العمارات الأميرية، فكان الكاتب القبطي يُحييه بقوله: ”صباح الخير يا بيه“، وعند إيابه يقول: ”مساء الخير يا بيه“. فسئم المأمور هـذه التحيات من شخصٍ لا يعرفه ولا يعمل عنده، ولمَّا كان له الحق في الحُكْم بالإعدام؛ لذلك أَمَرَ بشَنْق هذا الكاتب! فأسرع أحد أقاربه إلى المعلِّم ”يوحنا المنقبادي“ وأَبْلَغه بالأَمر. فسَارَعَ هذا بدوره إلى إنقاذ هذا الرجل من بطش المأمور. وليس من شكٍّ في أنه تمكَّن من إنقاذ غيره، لأن غيرته وعنايته شَمَلا المواطنين الأقباط والمسلمين على السواء(2).

جندي مجهول آخـر: وبالرغم من أنَّ مثل هؤلاء الجنود المجهولين قد أدَّوْا خدمات جليلة ذات أَثَر، فإننا نلمح إلى جانبهم مَن تحدَّث التاريخ عنهم، ومنهم:

+ عبُّود النصراني كـاتب الخزينة: وكـان طاهـر السـيرة، نـابغاً في صناعته، إلاَّ أنـه - بالإضافة إلى ذلك - كان يتميَّز بمُشاركاته وكلماته المناسبة في شتَّى المناسبات بإلقاء الآيات القرآنية، ويُضمِّن إنشاءاتـه ومُراسلاتـه بآياتٍ وأمثـالٍ وسَجَعَاتٍ (أي بكلمـاتٍ وألفاظٍ تُناسِـب المناسبات المختلفة). هذا أَخَذَ دار ”القيسرلي“ في حي ”دَرْب الجنينة“ ومـا حولها، وأنشأهـا داراً عظيمة، وزَخْرَفها، وجَعَل فيها بُستانـاً ومقاعد مفروشة بالرخـام الملوَّن وفساقي (جمع ”فسقية“ ماء يصعد منها الماء من باطن الأرض) وزجاج بلُّـور. وكـل ذلـك على حساب ”الميري“ أي ”الحكومة“. وكان له مُرتَّب واسع، وكان الباشا يحبه ويثق به، ويقول: ”لولا الملامة، لكنتُ قَلَّدته "الدفتردارية" (أي قِسْم الحسابات)“!

+ المعلِّم غالي: بـدأ حياته العملية بأن التحق بخدمة محمد الألفي، ثم صار كـاتبه. وحينما أراد محمد علي باشـا مراجعة حسابات المعلِّم جرجس الجوهري، زَعْماً منه أن هذا الأرخن الكبير قد جَمَع من الناس مبلغاً أكبر مِمَّا سلَّمه إلى الوالي؛ استدعى المعلِّم غالي لسؤاله عن حقيقة المبلغ. فلما تحقَّق الوالي أنَّ الحسابات مضبوطة، وأنَّ المعلِّم جرجس لم يأخذ من الشعب غير ما أورده للخزينة - رفقاً بالشعب المسكين - تراجع عن اتهامه.

+ ورغـم إثبات بـراءة المعلِّم جرجس الجوهري، فـإن محمد علي أحَلَّ المعلِّم غالي محلَّه. فأصبح المعلِّم غالي بهـذا التعيين ”كبير مُباشري مصر“.

+ ويُعطينا المؤرِّخ ”الجبرتي“ لمحاتٍ عن المعلِّم غالي، فيُخبرنا بأنه كان ساكناً في الجيزة. وفي بداية الأمر، أعفاه الباشا محمد علي حتى مـن المساهمة في مبلغ الأربعة آلاف وثمانمائة كيس التي كان قد فَـرَضها على المعلِّم جرجـس الجوهري وباقي الأقباط! ثم عيَّنه بالديوان الذي يرأسه ”الدفتردار“ (بمثابة ”وزير المالية“).

+ وحين شحَّ الفيضان، ثم عاد إلى ارتفاعه نتيجة الصلوات، تجمَّع الكُبراء معاً في مكانٍ مـا، وأشـار البعض منهم بدعوة الأقباط أيضاً. فحضر المعلِّم غالي وأصحابه الكَتَبَة، وذهبوا إلى مواطنيهم المسلمين وجلسوا في ناحية من الاجتماع يُدخِّنون، وظلُّوا جالسين إلى أن انفضَّ عَقْد المجتمعين.

+ وحدث عندما أراد محمد علي تحرير دفاتر بالضريبة المفروضة على الأطيان وتسجيل زيادتها، أنه قرَّر أن يُنظِّمها بتقسيم المسئولين بين مختلف المُباشرين، وجمعها في أقرب وقت، ثم تسليمها للباشا.

+ ثم عاد محمد علي، وطالَب الأقباط بثلاثين كيس، ولكي يضطرهـم إلى الدفع بلا مُماطلة؛ أَمَـرَ بالاحتياط (أي بالتحفُّظ) على بيوت عظماء الأقباط: كالمعلِّم غالي، والمعلِّم جرجس، وأخيه، وفَلْتيوس(3)، وعـددهم سبعة. فـأحضروهم في صورةٍ مُنكَرَة، وسمَّروا دورهم، وأخذوا دفاترهم. فلما حضروا بين يدَي الباشا، قال لهم: ”أُريد حسابكم بموجـب دفاتركم هـذه“. وأَمَـرَ بحبسهم، فطلبوا الأمان، وأن يـأذَن لهم في خطابه (أي التكلُّم معه)؛ فأَذِنَ لهم. فخاطبه المعلِّم غالي. فأَمَرَ الباشا بالإفراج عنهم مـن الحبس، غير أنـه تنازَل له عن مَطْلَبه مكتفياً بأن يدفعوا له سبعة آلاف كيس فقط.

+ وفي أحـد أيام سنة 1813م، قرَّر محمد علي الاستيلاء على دار إسماعيـل أفندي، أحـد الكُبراء. فاقترح أصدقاء إسماعيل عليه أن يكتب عرضحالاً ويذهب به مع بعض أخصَّاء الباشا، لعل شفاعتهم تجـد قبولاً. وفي الحـال كَتَبَ ”إسماعيل أفندي“ في ذلـك اليوم العرضحال، وتوجَّه إلى محمد علي باشا بصُحبة المعلِّم غالي لتقديمه. إلاَّ أن الباشا حالما رآهما، أدرك أنَّ المعلِّم غالي يـرغب في الاستشفاع لأجـل إسماعيل أفندي. فرفض حتى الاطِّـلاع على العرضحال! وردَّ الرجلين على أعقابهما في نفس الساعة!

+ ومن حوادث سنة 1816م، أنَّ أتباع أحد المسئولين الملتزمين كانوا يجمعون ”الجوالي“ (الضرائب)، فتطاولـوا على قبطي، ثم قبضـوا عليه، وأخذوا يتشدَّدون في مُطالبته بمـا كـان عاجزاً عن سداده. ثم اتَّضح لهم بعد ذلك كله، أنَّ هذا الشخص هو كاهن. ورغم هـذا استمروا في مُشادتهم. وبينما كانوا في هذا السِّجال، بلغ الخبر مسامع المعلِّم غالي. فأخذ على عاتقه دَفْع المبلغ المطلوب منه، منعاً من الأذى.

+ ومع كل هـذه الخدمات التي أدَّاها المعلِّم غالي، إلاَّ أنَّ محمد علي، بينما كان في الإسكندرية، أصدَرَ أَمْـراً بالقبض عليه وحبسه هـو وأخـوه ”فرنسيس“، وخازنـداره ”المعلِّم سمعان“. وكـانت القضية أنَّ محمد علي باشا كان قد بعث إلى المعلِّم غالي يُطالبه بستة آلاف كيس، فتأخر في إرسالها، مُعتذراً بعدم القدرة على أدائها، طالباً مُهلة ليتمكَّن من جمعها. ولكن طلبه رُفِضَ، وليس ذلك فقط، بل إن الكتخُدا نادَى بعض الأقباط وأَفْهَمَهم أنَّ على المعلِّم غالي ثلاثين ألفاً مـن الأكياس؛ فإن لم يدفعها هو، أصبحوا هم مُلزَمين بها. وبعد ذلك، أرسل إلى المعلِّمَيْن ”جرجس الطويل“ و”منقريوس البتانوني“، وخَلَع عليهما الخَلْع (أي مَنَحَهم ”مِنْحة“)، وولاَّهُما على رئاسـة الكَتَبَة، لعلَّه يتمكَّن مـن أَخْذ المبلغ المفروض، بواسطتهما.

+ واستمرَّ المعلِّم غالي في الحَبْس هو وأخوه وخازنداره (أي ”حارس بيته“). ثم استحضروهم من الحَبْس، وصَدَرَ الأَمْـر بضرب ”فـرنسيس“ أمـام أخيه ”المعلِّم غالي“. فتساءل: ”وأنا أيضاً أُضرب؟“. فقالوا له: ”نعم“. وضربوه على رجليه بالكرابيج. ثم تركـوه فترة، وعادوا يضربونـه ثانيةً. أمَّا ”سمعان“ فقد ضربوه ألف كرباج.

+ وبعد أيـام، صـدر الأَمْر بالإفراج عن ”فرنسيس“ وعن ”سمعان“ خوفاً مـن أن يموتا في السجن! وبالفعل انتقل ”سمعان“ إلى رحمة مولاه حالما وصل إلى بيته! أمَّا ”المعلِّم غالي“ فظلَّ في السجن.

+ ولمَّا رجع الباشا من الإسكندرية، تشفَّع مَن كان يُسمَّى ”جوني الحكيم“ في المعلِّم غالي وأخذه من الحبس إلى داره(4). وهكـذا عَبَرَت هـذه الشدَّة على المعلِّم غالي.

(يتبع)

(1) عـن: ”سلسلة تاريخ البابوات...“، كامل صالح نخلة، الحلقة الخامسة، ص 175-176.
(2) عن: ”مشاهير الأقباط في القرن العشرين“، ج‍ 3، ص 80-81.
(3) كان اسم: ”فلتيوس“، يأتي بعد اسم ”المعلِّم جرجس الجوهري“ مباشرة. وهو هنا ما يزال في الصف الأول من الأقباط، ومع ذلك لا نعرف شيئاً آخر عنه.
(4) لا نعرف عن هذا المعلِّم شيئاً. ولكن لابد أنه كان يتمتَّع بمكانة خاصة، وإلاَّ ما كان ليستطيع أن يتشفَّع في مثل هذا الموقف، وما كانت شفاعته لتُقبل.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis