سنة قبطية جديدة


اضطهاد لا يتوقف
وماذا بعد؟

تحتفل الكنيسة هذه الأيام برأس سنة جديدة في التقويم القبطي (1734ش)، والذي تعود جذوره إلى أكثر مـن ستة آلاف عام، ولكـن جعل له المصريون بدايـة جديـدة تُواكِب إعلان إيمانهم بالمسيح.

ولم يكن دخول الإيمان المسيحي إلى العالم، بعد تأسيس الكنيسة يوم الخمسين، سهلاً هيِّناً؛ بل اجتاز في بحار الدم امتداداً لِمَا واجهه المؤمنون وقـادتهم في أورشليم واليهوديـة (القديسـان استفانوس: أع 7: 59؛ ويعقوب بن زبدي: أع 12: 2)، وفي رومـا (الرسـولان بطـرس وبـولس)، وفي مـصر حيث بـدأ الاضطهـاد بـاستشهاد القديس مـرقس(1) مُبشِّرها (68م). وعـدا القديس يـوحنا، الذي نُفي في جزيـرة بطمس اليونانية، فكل تلاميذ الرب ورُسله قدَّموا حياتهـم على مذبـح الاستشهاد في البـلاد التي بشَّروها بالمسيح(2).

وخـلال القرون الثلاثة الأولى، حيث كـان الحُكْم الروماني سائـداً، أَخَذَت أعـداد شهداء الإيمان في التصاعُد بدءاً من عهد نيرون Nero (54-68م)، وخُلفائـه العشرة، حتى دقلديانوس Diocletian (284-305م)، آخــر الطُّغـاة وأعتاهم في اضطهاده، الذي جـاء إلى مصر (303م) ليتولَّى بنفسه أَمْر عقاب مسيحيِّي مصر. إلى أن أَذن الله بفترة من السلام بتولِّي قسطنطين الحُكْم الروماني (312م)، الذي أَصدَرَ ما يُعرف بمرسوم ميلان للتسامُح (313م)، وفيما بعد أَعلن إيمانه بالمسيح، بعد أن آمنت أُمه الملكة هيلانة، التي أسهمت في اكتشاف الصليب.

ولأن موجة الاضطهاد الأخيرة التي واجهتها مصر المسيحية كـانت قاسية جدّاً (800.000 شهيد) كأكبر عدد من شهداء الإيمان قدَّمته كنيسة مسيحية، فقد اختار الآبـاء يـوم وسنة اعتلاء دقلديانوس الحُكْم (29 أغسطس 284م)(3) بداية جديـدة لتقويمهم وأسموهـا: سنة، أو تقويم، الشهداء، تمجيداً وافتخاراً بشهداء الكنيسة الذين أكَّدوا حبهم للملك المسيح، وتمسُّكاً بإيمانهم حتى الدم. وصار يـوم الأول مـن شهر توت، إكليل السنة القبطية، ”عيداً للشهداء“، والذي يُعرَف أيضاً بعيد النيروز(4).

+ موجات الاضطهاد تتوالى:

كما نعرف، فإنه لم تكد تمضي ثلاثة قرون أخـرى حتـى دارت عجلـة الاضطهـاد مـن جديد، باجتياحٍ فارسي ثـم عربي مـن الشرق. وتصاعَد التنكيل مـن كـلِّ الغُزاة، فامتدَّ مـن هـدم الكنائـس والأديـرة أو حـرقها ومَنْـع بنـاء كنائـس جديـدة، إلى التمييز في الحقوق وتولِّي الوظائف؛ بل وفي لون الملابس، وإرغام المسيحيين على وَشْـم الصليب لتمييزهـم عـن غيرهم(5)، وإرهـاق الكنيسة ماديـاً ومعنويـاً، وحصـار اللغة القبطية وإحـلال العربيـة، التي سادت منذ القرن العاشر.

وكانت موجة الاضطهاد تعلو وتهبط بحسب الحاكـم، حتى خضعت مصر للحُكْـم العثماني الشديـد الوطأة (1517-1805م). ومع بدايـة القرن التاسع عشر بَـدَأَت رياح التغيير بتأسيس الدولة المدنية والمجالس النيابية والانفتاح على الحضارة الأوروبية.

على أنـه مـع الحُكْم الديموقراطي، بـدأ ظهور الجماعات الدينية في النصف الأول مـن القـرن العشريـن، فتحـوَّل الاضطهاد الـذي كـان يتولاَّه الغُزاة ليصبح - بصورة رئيسية - في يـد الجماعات المُتطرِّفـة والإرهابيـة، التي هي - في الأسـاس - تسعى لتولِّي السـلطة. فهي تُحـارِب الدولـة وتغتال رموزهـا وتقتل جنودهـا، وفي السياق تقتل المسيحيين الذيـن تراهـم كُفَّاراً لا يستحقُّون الحياة، وتصاعَـدَت هجماتهم خاصة في العقود الأخيرة.

فـإضافة إلى الذَّبْـح على الهويَّة، واختطاف الفتيات المسيحيات وإجبارهن على إنكار الإيمان، كـان القتل الجماعي بـإطلاق النار أو التفجير الانتحاري وسط المُصلِّين في الكنائس خاصة أيام الأعياد(6). وعلى غـير مـا يبغي العـدو، فقد أفرزت موجة الاضطهاد العنيف نماذج عظيمة من إيمانٍ قويٍّ يتحدَّى العالم ولا يهاب الموت.

وفي القـرن الحالي، ظهرت جماعة داعش الإرهابية التي احتلت مساحـاتٍ في سوريـا والعراق(7) وليبيا(8)، وأشـاعت الدمـار فيها، وأعملت في مسيحيِّي هـذه البلاد ذبحـاً وتقتيلاً وتهجيراً، كما دمَّـرت كنائسهم وأديرتهم سعياً لإنشاء دولتهم في هـذه المناطـق خالية مـن المسيحيين.

ورغم انحسـار سـطوة داعش، خاصةً في العراق الذي طـردهم مـن الموصل، فلا تزال عصابة الشر تنفث تهدُّداً وقتلاً، وهي تتسلل إلى بلادنا من حدودها الغربية، وضحاياها من الجنود والمسيحيين، كما أنَّ إرهـابها طـال البـلاد الأوروبية بالتفجير وسط التجمُّعات أو ذَبْح الأفراد باعتبارهم كُفَّاراً يُستَحَلُّ دمهم.

+ الدائرة تتَّسع:

على أنَّ الاضطهاد الذي عرفته البلاد التي آمنت بالمسيح منذ القديم(9)، طال أيضاً تلك التي ظلَّت قرونـاً في الظلام قبل أن يغمرها نور المسيح(10). ففي العالـم المتَّسع حولنا عـانت الكنائس القديمة أو الوليدة، كما عانَى الكارزون، صنوف الاضطهاد تحت كل النُّظم السياسية.

فالشيوعيـة التي حَكَمَت الاتحـاد السوفييتي القديم (1917م) وغيره مـن البلاد في الغرب والشرق، عادَت الإيمان المسيحي قتلاً وتشريـداً وحصاراً للكنيسة(11)، ومُصادرةً للكُتُب المقدَّسة، وتشويهاً للإيمان؛ إلى أن انهار النظام الشيوعي وتفكَّكت الدولة واستعادت روسيا وجهها المسيحي من جديد.

وبـالمثل خاصَم الحُكْم النازي الكنيسـة في ألمانيا واضطهد قادتها ومؤمنيها، وشجَّع الإلحـاد والمادية حتى هزيمته في الحرب (العالمية الثانية: 1939-1945م). وفي معظم الدول الأوروبيـة والأمريكية، حيث تسود المسيحية وتكثر الكنائس والمعاهد اللاهوتية، فإنَّ الغالبية لا تَحْفَل بالدِّين، والحرية عندهم فرصة للجسد، ويَرَوْنَ في التديُّن تخلُّفاً وارتداداً إلى الماضي. ولكـن الله لا يترك نفسه بلا شاهد.

فلقد قدَّم المئات من المُرسلين والكارزين من الغرب حياتهم مـن أجل البشارة بالإنجيل في الصين، ذات المليار ونصف، التي قاومت الإيمان المسيحي بأديانها القديمة ونظام حُكْمها الشيوعي. والملايين التي قَبِلَت الإيمـان، تُمارِس عبادتهـا تحت أقسى الظروف.

والأمر ينطبق على سائـر بـلاد شرق آسيا ووسطها، حيث الريـح مُضادة لانتشار الإيمان، ويتعرَّض المؤمنـون ومُبشِّريهم لكـلِّ صنوف المُقاومة والآلام حتى الموت.

وفي أفـريقيا السـوداء، تواجِـه الكـرازة المصاعب وسط التخلُّف والأوبئـة والأخطـار، وصراع القبائـل والأديـان، بما يجعـل الإيمان بالمسيح قبولاً للموت بالنيَّة.

+ لماذا الاضطهاد؟

ولكن لماذا كل هذه المُقاومة الدامية للإيمان المسيحي الذي يُبشِّر بالكلمة ولا يعرف العنف؟ ولماذا يظل الاضطهاد هو ردَّ العالم على دعوة المسيح للخلاص؟

ماذا يقول الكتاب؟

(بقية المقال العدد القادم)

دكتور جميل نجيب سليمان

**************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار
صدر حديثاً الكتب التالية:
1. قيامة المسيح من بين الأموات وقيامتنا معه
(للأب متى المسكين)
16 صفحة (من القَطْع المتوسط) الثمن 3 جنيهات
2. القصد الخلاصي من إرسال الروح القدس
(للأب متى المسكين)
48 صفحة (من القَطْع المتوسط) الثمن 7 جنيهات
3. تحليل ألحان ومردات الأعياد والأصوام
إعداد الراهب أندرياس المقاري
624 صفحة (من القَطْع الكبير - تجليد فاخر) الثمن 85 جنيهاً
**************************************************************************************************

(1) عن حياة القديس مرقس وكرازته واستشهاده، راجع مقال ”عيد مار مرقس“، عدد مايو 2017، ص 48.
(2) فالقديس يعقوب (بن حلفى) أسقف أورشليم أُلقي مـن فوق الهيكل وضُرِبَ فيما بعد حتى الموت؛ والقديس متى قُتِلَ في إثيوبيا طعناً في ظهره بالسيف (وقيل أنـه استُشهد في مدينـة هيرابوليس اليونانية)؛ والقديس = = أندراوس عُلِّق على صليب على شكل حرف X في باترا غربي اليونان، وظل يومين على الصليب يُبشِّر بالمسيح حتى أَسْلَم الروح؛ والقديس فيلبُّـس صُلِبَ مُنكَّس الرأس؛ والقديس برثولماوس (نثنائيل) استُشهِدَ في أرمينيا بسَلْخ جلده ثم صلبه؛ والقديس توما طُعِنَ برُمح قُرب مدراس بالهند؛ والقديس يهوذا (بـن حلفى) صُلِبَ في آراراط بأرمينيا وقُتِلَ بالسهام؛ والقدِّيسان سمعان القانوي وتدَّاوس قُتلا في فارس أو أرمينيا؛ والقديس متياس رُجِمَ في إثيوبيا ثم قُطِعَت رأسه؛ والقديس لوقا قُتِلَ بحدِّ السيف في اليونان.
(3) بسبب فارق الـ 13 يوماً بين التقويمين القبطي والجريجوري، صارت بداية السنة القبطية 11 أو 12 سبتمبر.
(4) على الأرجح من الكلمة الفارسية ”نوروز“ (ني روز)، وتعني: ”اليوم الجديد“ أو ”يوم الاحتفال“ (وهو بإيران بداية العام الجديد). وقد حملت رأس السنة القبطية هـذا الاسم منـذ احتلال الفُرس لمصر (525-405ق.م) بقيادة قمبيز، وحتى اليوم. وإنْ كـان البعض ينسب الكلمة إلى اللغة المصرية القديمة. وكان عيد النيروز واحداً من أهم أربعـة أعياد مسيحية في زمـن الدولة الفاطمية (969-1171م) (باعتباره عيد الفيضان) في مصر، مع ليلة الغطاس وخميس العهد وعيد الميلاد. وقد احْتُفِلَ بعيد النيروز في مصر لأول مرَّة (12/9/2007م) في القرية الفرعونية بحضور عدَّة مئات مِمَّن يحفلون بتاريخهم الفرعوني القديم.
(5) وهو ما رحَّب به المسيحيون واستمروا يُمارسونه منذ الطفولة شهادةً وافتخاراً.
(6) نُشير هنا إلى بعضها للتاريخ:
- إطلاق النار أمام كنيسة مار يوحنا بنجع حمادي ليلة عيد الميلاد 7/1/2010 (6 شهداء). =
= - تفجير كنيسة القدِّيسَيْن بالإسكندريـة في رأس السنة الميلادية 1/1/2011 (21 شهيداً).
- تفجير كنيسة القدِّيسَيْن بطرس وبولس (البطرسية) بالقاهرة في صوم الميلاد 11/12/2016 (29 شهيداً).
- تفجير كنيسة مار جرجس بطنطا في أحد السعف 9/4/2017 (30 شهيداً).
- تفجير أمام الكنيسة المرقسية بالإسكندرية في أحد السعف 9/4/2017 (9 شهداء).
(7) أواخر 2014، تمَّ إخلاء مدينة الموصل (نينوى) العراقية مـن مسيحييها بالكامـل (2000 عائلة) الذين أخرجهم إرهابيـو داعش منها بعـد الاستيلاء على كـلِّ مُمتلكات‍هم، ثم حرقوا كـل الكنائس والأديرة أو هدموها. وقد بدأ خروج المسيحيين العراقيين منذ بداية القرن الحالي، خاصـةً بعد تفجير كنيسـة ”سيدة النجـاة“ في بغداد. ولا يزال نزوحهم مستمراً، وأُضيف إليهم مؤخَّراً مسيحيو سوريا، تحت ضغط الاضطهاد الداعشي وويـلات الحرب والإرهاب.
(8) لم يَنجُ أقباط مصر ال‍مُقيمون في ليبيا من إرهاب داعش، وكان من ضحاياها الـ 21 شهيداً الذين تمَّ ذبحهم أمام عدسات التصوير، وظهرت صورهم في 15/2/2015: هُم في صفٍّ يرتـدون مـلابس الاستشهاد الب‍رتقاليـة، وجلاَّدوهم يلبسون السَّواد وقـد استتروا وراء الأقنعة كأن‍هم يخافون‍هم؛ وهـم يسيرون على شاطئ البحر المتوسط الذي صَبَغَت دماؤهم مياهـه بعد استشهادهم. وأُضيف إليهم في 20/4/2015 ثلاثون مسيحياً إثيوبياً ذبحاً وقتلاً بالرصاص.
(9) أرمينيا، التي عرفت المسيح منذ القرن الرابع، تعرَّضت للإبادة مـن الأتراك العثمانيين (أكثر من مليون شهيد) بين عامَي 1915 و1917.
(10) روسيا، لم تعرف المسيح إلاَّ قبل ألف عام. وبلاد كثيرة، خاصة في أفريقيا وشرق آسيا (مثل: الصين واليابان وغيرهما) لم تختَبر الإيمان المسيحي إلاَّ في القرن الماضي.
(11) تمَّ إعدام 300 أسقف، 80.000 من الكهنة والرهبان. وفي جيورجيا، التي كان فيها 1500 كنيسة، لم يبقَ منها إلاَّ خمسون تحت الحُكْم الشيوعي.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis