ميلاد قديس


المتنيح أنبا إبيفانيوس

( في يوم الرب 29 / 7 / 2018، خرجنا من قلالينا، بعد منتصف الليل، لحضور القدَّاس الإلهي كالمعتاد؛ ولكن فوجئنا بالخبر المؤسف غير المتوقَّع، ولم نستطِع في ساعتها استيعاب الخبر المؤسف ال‍مُحزن. كُنَّا في حيرةٍ وتساؤل: كيف ولماذا... إلخ؟ إلى أن عرفنا التفاصيل. وطبعاً كانت صدمة مع تساؤلات!

( أمَّا وقـد تيقَّنَّا بأن‍ها حقيقية، قد بَدَأت التساؤلات في داخلنا، والبحث عـن تفسيرٍ لها، وما هي أبعادها وتفاصيلها الظاهرة وتلك ال‍مُختفية! ولم نصل إلى نتيجةٍ!

( لقد كان الشهيد نيافة الأنبا إبيفانيوس يحمل في شخصيته سِمَاتٍ كثيرة تدلُّ على عُمْق حياته الروحية الباطنية منذ دخوله إلى الدير، ثم رهبنته، ثم بعد رسامته أسقفاً.

( لقد تتلمَذ، طبعاً، منذ دخوله إلى الدير، على يد أبينا الروحي القمص متى المسكين، مثله مثل كـل الرهبان الذين دخلوا الدير بقَصْد الرهبنة. وفعلاً تعهَّد الأب الروحي للدير شخص الأخ ”تادرس“ بالتعليم والتهذيب الروحيَّيْن.

وكما ذَكَـرَ لنا (الأب إبيفانيوس) آنـذاك، أنَّ الأب الروحي أعطاه كُتُباً روحية ولاهوتية بالعربية والإنجليزية، لَمَّا وجد فيه من استعدادٍ للتعمُّق في الحياة الروحية، والجوع إلى معرفة جوانب الإيمان المسيحي الأرثوذكسي، بأعماقه. وهكذا بدأ حياته بالتعلُّم الروحي من خبرات الأب الروحي، وبالرجوع إلى التعليم الإيماني لآبـاء الكنيسة الأوائل، مـن كتابات‍هم وسيرت‍هم الطاهرة.

( ولأن العمل - في التدبير الروحي للأب متى المسكين - هو أحد أهم العوامل في تعليم وتربية الراهب الحديث، ألحقه الأب متى المسكين بالمطبعة التي تطبع كتابات ومؤلَّفات الأب متى المسكين مع مجلة مرقس الشهرية.

وهكذا انضمَّ الراهب إبيفانيوس إلى الإخوة الرهبان في المطبعة كمجموعةٍ مُتناسقة لإخراج المؤلَّفات الزاخرة إلى عالم النور.

( وبعـد أن نجح في خدمتـه بالمطبعة، أُتيحت له الفرصة أن يخدم في مكتبة المخطوطات الأثرية، وما يأتي إلى المكتبة مـن مؤلَّفات لاهوتية حديثة باللغات غير العربية، ما أتاح له فرصة التصفُّح والقراءة والدراسة لأبعاد وأعمـاق العلم اللاهوتي المسيحي الأرثـوذكسي، مِمَّا كتبه كافة المؤلِّفين مـن الذيـن كتبوا باللغة العربية في المخطوطـات القديمة، وتلك التي باللغات الأجنبية.

رسامته أسقفاً:

( ثم حدث أن طلب نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير عام 2013، ونظراً لتقدُّمه في عمر الشيخوخة، طلب من قداسة البابا تواضروس الثاني بعد اختياره بطريركاً، أن يختار الرهبان من بينهم، مَن يكون رئيساً للدير بدرجة أسقف. فقام قداسة البابا بعمل اقتراع سرِّي اشترك فيه جميع الرهبان، لكي يكون الانتخاب قانونياً بمعرفة رهبان الدير. وهكذا صار الراهب إبيفانيوس رئيساً وأسقفاً للدير بالانتخاب.

( وهكذا بدأ حياته وخدمته الأسقفية في الدير مسنوداً بالفضائل الرهبانية والتعاليم الإنجيلية والآبائيـة، مـا جعل مَسْلَكه وخدمته صورة ب‍هيَّة للحياة الرهبانيـة القبطية والتقليد الكنسي القويم.

( ومِن بين مَسْلَكه الظاهر كأسقف، الذي يصفه البعض بـ ”التواضع“، كان هو نوع الرداء الذي كان يلبسه، وغطاء الرأس التقليدي للرهبان الأقباط منذ القديم (الطاقية السوداء). والحقيقة إنَّ هذا الرداء وغطاء الرأس - بحسب التاريخ القبطي - كان هو نفسه الذي يلبسه الرهبان منذ القديم، وكـان هـو نفسه الذي يلبسه الأسقف قديماً، في مقتبل حياتنا منذ أوائل القرن العشرين.

وفي سيرة حياة القديس البابا ديسقوروس، في القرن الخامس الميلادي، كان قد اصطحب معه الأسقف ”مكاريوس“ أسقف ادقاو، وبينما هما يهمَّان بدخول قاعة مجمع خلقيدونية، وبعدما أَدخلوا البابا ديسقوروس، منعوا الأسقف من الدخول، لأن مَلْبَسَه لم يكن يُميِّزه على أنه أسقف، بل كان مَلْبَساً مثل ملابس باقي الناس؛ ولَمَّا أفهمهم البابا ديسقوروس أنه أسقف، سمحوا له بالدخول!

( لذلك فكان نيافة الأنبا إبيفانيوس يلبس الثوب الرهباني الذي يلبسه كل الرهبان!

( كذلك، لم يكن الأنبا إبيفانيوس يسمح لأحدٍ أن يُقبِّل يده - ليس فقط عن تواضعٍ - بل لأن رجال الكهنوت عموماً كانـوا لا يَدَعون أحداً يُقبِّل أيديهم، بل يُقبِّل الصليب الذي في يد الكاهن أو الأسقف، لأن الصليب هو رمز الخلاص الذي أكمله المسيح، وليس البشر، فهو الجدير بالتقبيل!

( كما لم يكن نيافة الأنبا إبيفانيوس يترك الناس يعملون له مـا يُسمَّى ”مطانية“ - أي السجود له إلى الأرض - ليس فقط عن تواضُعٍ؛ بل أصلاً لأن كلمة ”مطانية“ تعني ”سجود الاستغفار“، وهي عادة رهبانية: فحينما يُخطئ راهب في حقِّ راهبٍ آخر، فكـان لا يستطيع التناول مـن الأسرار المقدَّسة إلاَّ إذا ذهب إلى قلايـة الراهب الآخر ويصنع أمامه ”مطانية استغفار“، حتى يُمكنه التناول من الأسرار المقدَّسة.

( أما السجود للأسقف أو لأيِّ شخصٍ بسبب مركزه الديني، فهو ليس له أساس إنجيلي ولا كنسي؛ بل تسلَّل إلى الكنيسة بعد ان‍هيار أيام الحُكْم العثماني، حينما كان الناس يسجدون للوالي في مصر أو للسلطان العثماني في تركيا!!

وقد تسرَّب مع هذا التقليد العثماني لقب ”سيِّدنا“ الذي كان يُطلَق على الوالي في مصر، تسرَّب لرجال الدين الأقباط (البطريرك والأسقف)، وذلك بعد ان‍هيار السلطنة العثمانية عام 1924!!

( لقـد كـان نيافة الأنبا إبيفانيوس يُجسِّد العادات المسيحية القديمة، وليس العادات غير المسيحية ال‍مُستحدَثَة!

( كما أنَّ الملابس التي يلبسها الكاهن أو الأسقف أو البطريرك أثناء القدَّاس الإلهي، هي ”التونية“ البيضاء، رمز الطهارة؛ وليس الملابس الذهبية وال‍مُزركشة التي كان يلبسها أساقفة الكنيسة البيزنطية قبل دخول الإسلام، لأن الأباطـرة الرومانيين واليونانيين كانـوا يحضرون القدَّاسات البيزنطية بملابسهم الذهبية.

وكان البابا كيرلس السادس يحرص على ارتداء الثوب الأبيض (التونية) في كلِّ القدَّاسات، سواء في الأيام العادية أو في الأعياد.

( كل هذا كان قد تعلَّمه الشهيد أنبا إبيفانيوس من التقليد الكنسي القبطي، ما جعل الناس يُمجِّدون الله، ويحسُّون بنُسكه والتزامه بالتقليد القبطي الكنسي.

عظات نيافة الأنبا إبيفانيوس في الأعياد الكنسية:

( اعتاد نيافة الأنبا إبيفانيوس في قدَّاسات الأعياد الكنسية الكبرى أن يشرح من على المنبر تفسيراً لقراءات يوم العيد الكنسي. وكان يشرح بأسلوبٍ مُبسَّط المضمون الروحي العقائدي للنصِّ الإنجيلي الذي يُقرأ في المناسبة. وتتميَّز عظات نيافة الأنبا إبيفانيوس، في هذه المناسبات، باستخدام أقوال وعظات آباء الكنيسة الأوائل، وأحياناً من آباء الكنيسة ال‍مُستنيرين في العصر الوسيط، مثل: ”الأنبا بولس البوشي“، وغيره.

( ونأمل في تجميع هذه العظات معاً وطباعتها لفائدة المؤمنين.

بعثات آباء رهبان للدراسة اللاهوتية:

( على مدى الخمس السنوات التي قضاها نيافة الأنبا إبيفانيوس في خدمة الرهبنة بالدير، اهتمَّ بـإرسال بعثات مـن بعض الرهبان ال‍مُحبِّين للتعليم اللاهوتي، إلى الجامعات الكبرى في العالم، ليزدادوا علماً لاهوتياً حسب تقليد الكنيسة الأرثوذكسية المقدَّسة.

تشييد مبنى خاص للخلوة الروحية:

( كما اهتمَّ نيافته بالزوَّار، من الأجانب أو الآباء الأساقفة والكهنة، الذين يُريدون قضاء فترات خلوة وتأمُّل وصلاة لعدَّة أيام، فقام بتشييد بُنيان كبير يتَّسع لأكبر عددٍ من مثل هؤلاء الزوَّار الذين يقصدون الدير للتأمُّل والصلاة والعبادة.

( ليت الرب يُعزِّينا في اختطاف أبينا القديس ال‍مُجاهد والشهيد، ويُنفِّعنا بسيرتـه وصلواته من أجلنا، آمين.

الراهب باسيليوس المقاري

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
18 - مجلة مرقس سبتمبر 2018 مجلة مرقس سبتمبر 2018 - 17