الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله - 24 -

«ويل لكم أيها الناموسيون»(1)

إنجيل يوم الأربعاء من الأسبوع السادس من الصوم المقدس

المزمـور: «11رَنِّمُوا لِلرَّبِّ السَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ، أَخْبِرُوا بَيْنَ الشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ. 12لأَنَّـهُ مُطَالِبٌ بِالدِّمَاءِ ذَكَرَهُمْ» (مز 9: 12،11).

الإنجيل: «45فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وَقَالَ لَهُ: ”يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هذَا تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضاً“. فَقَـالَ: 46”وَوَيْـلٌ لَكُمْ أَنْتُم أَيُّهَـا النَّامُوسِيُّون، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِـرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. 47وَيْلٌ لَكُمْ، لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. 48إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. 49لِذلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ. 50لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ، 51مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هـذَا الْجِيلِ! 52وَيْـلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ“» (لو 11: 45-52).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القدَّاس:

إنجيل قدَّاس هذا الصباح هو مواجهة خطيرة بين المعلِّم الإلهي والمعلِّمين الكَذَبَة. فعندما بدأ الرب يكرز بالتوبة، بعدها مُباشرةً، صعد إلى الجبل وأَخَذَ يُعلِّم تلاميذه، وأعطى التطويبات الثمانية للسائرين في طريق ملكوت الله. وهنا - في هذا الإنجيل - في ختام خدمة الرب وفي ن‍هاية تعليمه، وقف يُراجع المعلِّمين الكَذَبَة الذين أَضلُّوا الشعب والأُمَّة قُرابة 18 قرناً من الزمان، ويُوبِّخ الكَتَبة والفرِّيسيين الذين بثُّوا سمومهم في الشعب 1800 سنة؛ أولئك الذين شكَّكوا في تعليم الرب، واعتبروه من الشيطان!

في الحقيقة، كَشَفَ الرب يسوع، كيف أنَّ الله يستأمِن الإنسان، وبالتالي على الإنسان أن يكون أميناً فيما لله. ولكن، نتيجة تعاليم المعلِّمين الكَذَبَة، انحدر الشعب إلى الهاوية، وفَقَدَت الأُمَّة مستقبلها إلى آلاف السنين.

فعندما تكلَّم الرب يسوع مع ال‍مُعلِّمين الكَذَبة، كان حديثه الذي ذُكِرَ في إنجيل القديس متى مُطوَّلاً (مت 23: 13-36)؛ ولكن حديث الرب للناموسيين، بحسب إنجيل لوقا، كان قصيراً نوعاً ما.

ففي الإنجيل بحسب القديس متى، رَبَطَ الرب الكَتَبَة (وهم الناموسيون) مـع الفرِّيسيين، وأعطاهم ثمانية ويلات مقابل الثمانية تطويبات التي ذكرها في (مت 5: 3-12). ومن الوهلة الأولى يبدو أنَّ كلام المسيح كان عنيفاً؛ ولكن قلب ولسان المسيح الوديع والمتواضع القلب، كان ينطق ب‍هذه الويلات، وهو يشعر بالحقِّ أو ينظر إلى الحقِّ الذي وراء الزيف الذي زيَّفه الكَتَبَة والفرِّيسيون. فالرب يسوع لم يكن يُعطي هذه الويلات للكَتَبَة والفرِّيسيين شخصياً، وإنما كان يُعطي الويلات لتعليمهم، لأنكم تعلمون أنَّ الرب عندما اقترب من أورشليم، نظر إليها «وبَكَى عليها» (لو 19: 41). وبكاء الرب كان على المصير الذي ستؤول إليه هذه الأُمَّة كنتيجة حتميَّة لتعليم أولئك المعلِّمين الكَذَبَة. ولكن، أقول: إنَّ ما قاله الرب، كُتِبَ ليس لأجل أولئك فقط، بل إنَّ «هذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً، وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ» (1كو 10: 11).

كلام المسيح مُوجَّهٌ لنا:

فكلام المسيح مُوجَّهٌ لكلِّ فرِّيسي وناموسي حتى إلى عصرنا هذا. فكلٌّ مِنَّا يحوي في داخله كاتباً وفرِّيسيّاً. فكان لابد أنَّ المسيح، ب‍هذه الويلات، يكشف الغطاء الخارجي لكي يَظهر الحق. فالمسيح ليس مُغرَماً بكشف السلبيات؛ ولكن، لأنه ”الحق“ ولا يتكلَّم إلاَّ بالحقِّ ومن أجل الحق، فإذا تكلَّم عن الباطل، فذلك لكي يصل إلى الحقِّ.

كان الفرِّيسيون يعتبرون أنفسهم، وبالتالي يَعتبرهم الشعب، أن‍هم أبرارٌ. وكانت لهم مكانة سامية وسط الشعب. فالفرِّيسيون كانوا مشغولين بتوضيح التعليمات العامة للشعب؛ بينما الناموسيون (وهم الكَتَبَة) كانوا مشغولين بشرح دقائق وتفاصيل الناموس، ولذلك قيل عنهم إن‍هم ”ناموسيُّون“.

وفي اللغة الإنجليزية تُترجَم كلمة ”نامـوسي“ بـ lawyer، أي: ”صاحب القانون“ أو ”المحامي“ أو ”الخبير في قوانين الدولة“. فالناموسي هو الضليع في فَهم قوانين الناموس. ولذلك فالناموسي مُعتدٌّ جداً بذاته، وكان يُسمِّي نفسه - كما نُسمَّى نحن الآن - ”أرثوذكسي“. فاليهود الأرثوذكس هم الناموسيُّون، بمعنى أن‍هم الذين يمتلكون التعاليم الصحيحة والدقيقة جداً.

لقد كرَّر الرب - بحسب إنجيل القديس متى - صفة ”ال‍مُرائين“ للكَتَبَة والفرِّيسيين معاً سبع مرَّات. وهنا عندما يُكرِّر الرب كلمة واحدة عدَّة مرات، فهو يريد أن يُوجِّه الأفكار للاتِّجاه نحو هذه الكلمة، بمعنى أن تكون هذه الكلمة هي محور الاتِّجاه الفكري، وبالتالي فتكون هي السبب الأساسي وراء الدمار والتخريب الذي سيلحق بالأُمَّة!

معنى كلمة ”الرياء“:

«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا... الْمُرَاؤُونَ». الرياء هنا هـو السبب في تزييف الحق. فكلمة ”مُرائي“ باللغة اليونانية هي ++++++++: أي ”الذي يَظهر بحُكْم ويُخفي حُكْماً“. فالمسيح حينما نطق بالويلات ثم أردفها بالمرائين، فهو هنا لا يدين ولا يُعيِّر ولا يُهاجم ولا يُقلل من شأن هؤلاء الكَتَبَة وأولئك الفرِّيسيين، ولا ليفضح أسلوب‍هم في التعليم؛ ولكن ليُعلِن أنَّ الحقَّ قد أُخفي بواسطتهم. فقد حاول أولئك المراؤون مُصادرة تعاليم الرب بكلِّ ما في استطاعتهم، حتى يخفوا الحق، ويُغلقوا الملكوت أمام الجميع. فكانت الخسارة جسيمة, والخطية التي ارتكبوها مُريعة، والنتيجة لا يمكن وصفها! انظروا إلى الحرب السبعينية التي بسببها ضاع الشعب: أُحرِقَ، وذُبِحَ، وهُدِمَ كل ميراثه وتُراثه وكُتبه وتاريخه، وتبدَّدت أمجاده؛ كل هذا بسبب رياء أولئك المعلِّمين المرائين.

الرب يسوع يُطالِب بعلانية الحق، وما زال الأمل موجوداً، لعلَّهم يتوبون. فالرب عندما يُعنِّف أو يُوبِّخ أو يُراجع تصرُّفات وتعاليم أولئك المعلِّمين، فهو يقصد رجوعهم عمَّا اقترفوه، وبالتالي توبتهم، حتى ولو كان ذلك في اللحظات الأخيرة. فالمسيح أعطى درساً لإسرائيل، بل ولكل العالم، عندما قَبِلَ إليه اعتراف اللص وهو مُعلَّقٌ على الصليب؛ وهكذا نال اللصُّ الخلاصَ، وصار مع الرب في الفردوس في نفس اليوم. أما أولئك المراؤون فقد سدُّوا آذان‍هم عن سماع كلمات الرب ولم تُنخَس قلوب‍هم، ولذلك سمعوا من الرب: «لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هذَا الْجِيلِ!».

”مفتاح المعرفة“:

إن أولئك المعلِّمين المرائين قد ورثوا معرفةً هائلة، واستلموا من آبائهم ”مفتاح المعرفة“ أي ”مفتاح ملكوت الله“، الذي هو ”التمييز“: تمييز الزمان، تمييز قَصْد النبوَّات، تمييز ما هو الوقت وما هو الزمن الذي يدلُّ عليه روح المسيح الذي فيهم! إذ قد تنبَّأ الأنبياء وتكلَّموا بوضوح عن آلام الرب - كما قال إشعياء النبي - وكذلك تكلَّموا عن الأمجاد التي سيحوزها الرب بعد آلامه وموته. كل هذه الأمور كانت في جُعبة أولئك المعلِّمين، وفي معرفتهم، إذ كانوا مقتدرين في تفسير نبوَّات الأنبياء وشرح الناموس، وقـد سُلِّم إليهم ”مفتاح المعرفة“ مـن السماء، وتوارثوه من جيلٍ إلى جيل لمدة 18 قرناً من الزمان.

لاحظوا في الكاثوليكون الذي قُرئ علينا من رسالة بطرس الرسول الثانية، إذ يقول: «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط 1: 21). ومعنى هذا أنَّ الروح القدس كان عاملاً في الأنبياء، وأيضاً فاعلاً في المعلِّمين الأتقياء. ولكن أولئك المراؤون مِن أين أتوا؟ وكيف وصلوا إلى هذه الحالة؟ هذا ما سنراه!

ما الذي فعله أولئك المعلِّمون المراؤون؟

”الرياء“ في نظر المسيح، ناشئ من أنَّ هؤلاء المعلِّمين كان منوطٌ ب‍هم تعليم الحق كما هو في التوراة؛ ولكنهم أخفوا هذا الحق عن الشعب، أخفوه بإرادت‍هم. وقد وضعوا وصايا وتقاليد مُبسَّطة ثم مُبسَّطة ثم مُبسَّطة، إلى أن صارت هذه التوافه والنوافل - بالنسبة لهم وللشعب - هي الحقيقة الأساسية، مثلما قاله الرب عنهم وعن تعاليمهم: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسَ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ َتَتْرُكُوا تِلْكَ» (مت 23: 23).

لقد منعوا أيَّ حديثٍ عـن الحق، وصدُّوا كلَّ إنسان يتكلَّم عـن الحق. وكان الأهم عند أولئك المعلِّمين هو أن يُعشِّر الإنسانُ الكمُّون مثلاً؛ وبحسب التلمود، وجدوا أنه ليس الكمُّون فقط هو الذي ينبغي أن يُعشَّر، بل عيدان الكمُّون يجب أن تُقشَّر ثم تُعشَّر أيضاً بعد ذلك. إلى هـذا الحدِّ بلغت تفاهتهم، إلى تعقيداتٍ لا يمكن أن يحتملها أو يُنفِّذها إنسانٌ، بينما تركـوا «الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ»!!

فقد أثقلوا عاتق الناس بوصايا ثقيلة، قال عنها المسيح: «... أَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ». معنى هذا: إن‍هم يضعون على عاتق الناس وصايا وتعاليم، مثل: كيف تعمل؟ وكيف تغسل؟ ومتى تذهب إلى البيت؟ ومـا الذي تفعله قبل أن تنام؟ وغيرها مـن النوافل! بينما هم لا يعملون أو يُنفِّذون واحدة منها، ولا يُحرِّكون‍ها بإحدى أصابعهم. فقد أَعطوا ذوات‍هم الحِلَّ لأن‍هم - في نظر أنفسهم - أعلى من كل هذه الوصايا، فلم يخضعوا لهذه الوصايا الصغرى.

اسمع ما قاله بطرس الرسول، بعدما أصرَّ أُناسٌ مـن الذين كانوا قـد آمنوا من مذهب الفرِّيسيين، أن يختتن الذين آمنوا من الأُمم ويحفظوا ناموس موسى، إذ قال للجميع: «... أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْذُ أَيَّامٍ قَدِيمَةٍ اخْتَارَ اللهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ الأُمَمُ كَلِمَةَ الإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ. وَاللهُ الْعَارِفُ الْقُلُوبَ، شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِياً لَهُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضاً. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ. فَالآنَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ اللهَ بِوَضْعِ نِيرٍ عَلَى عُنُقِ التَّلاَمِيذِ لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟» (أع 15: 5-10).

فـ ”مفتاح المعرفة“ أي معرفة النبوَّات، ”مفتاح ملكوت السموات“، كان معهم بالفعل. وكانوا يعرفون بحسب دراستهم للتوراة، علامات الزمان ومجيء المسيَّا. ولكن عندما تكلَّم الرب يسوع بالحقِّ، وعَمِلَ الحقَّ، ارتابوا في أنفسهم و«قَالَ... بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ”انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!“» (يو 12: 19). ولذلك قال الرب يسوع للجموع ولتلاميذه: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ» (مت 23: 3،2).

فكان كـلُّ ما يسعى إليه أولئك المعلِّمون المراؤون هو سُلطان‍هم وكراسيهم، فقد كانوا يُدركون كل شيء، ولكن يخفون الحق عن الشعب. ولذلك يقول بطرس الرسول: «الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِياءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ (أي الروح القدس الذي فيهم)، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ (وخاصةً إشعياء النبي)، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا» (1بط 1: 11،10). فالكَتَبَة والفرِّيسيون استخدموا هذا المفتاح عينه أي ”مفتاح المعرفة“، لمنع الشعب من قبول المسيح أو الاعتراف به كمسيَّا.

هنا تبدو كلمة ”الرياء“ واضحة، فقد حرَّكت الحق وأبعدته عن طريقه الصحيح، ووُضِعَ الريـاء والكذب والتقاليد البالية بدلاً مـن الحق. فلم يكن هدف الكَتَبَة والفرِّيسيين أصلاً هو ”الحق“، لكن كـان أهم شيء لديهم هو الحفاظ على مكانتهم ومهنتهم. إذن، كانت غايتهم ليست خدمة الحق، بـل خدمة أنفسهم، وإعلاء شأن تعليمهم، ودوام مركزهم. فالحق هم يعرفونه جيداً لأنفسهم، وليس لبقية الشعب. ولكن، منذ متى كـان الحق حِكْراً على إنسانٍ وحده لذاته دون أن يُوصِّله إلى الآخرين!

القانون الروحي:

ولكن، ضعوا هذا القانون الروحي نصب أعينكم:

+ يستحيل أن يُستعلَن الحقُّ لإنسانٍ لا يُريد أن يُوصِّله للآخرين. فحقُّ الله يُستعلَن لِمَن استؤمنوا على إعطائه! يستحيل أن يُعطي الله نعمةً لإنسانٍ غير مستعدٍّ أن يستخدمها لخدمة آخرين. ويستحيل أن يَهَب الله سرَّه لقدِّيسين وأنبياء لم يكونوا على استعدادٍ لكشفه للآخرين!

+ فكلما أَعطيتَ، فحينئذ تأخذ أيضاً. وإن أخذتَ وحبستَ ما أخذتَه في ذاتك، فحينئذ يموت ما أخذتَه في داخلك. إذا أخذتَ معرفةً ما وحجزت‍ها لنفسك، فتكون بمثابة معرفةٍ مائتة، ليس فيها أيَّة استنارة!

+ لا يمكن لإنسانٍ مُرائي أن يُستعلَن له الحق، هذا أمرٌ مستحيل! لذلك فإنَّ الكَتَبَة والفرِّيسيين المرائين لم يدخلوا ملكوت الله، لأن‍هم عائشون في الرياء. الذي يحيا على الرياء وبالرياء، فهو يُخفي شيئاً ما في نفسه، ويُعلِن شيئاً آخر في العَلَن!

فمـن البداية كـان هدف الكَتَبة والفرِّيسيين ليس ملكوت الله، وإنما كان هدفهم أغراضاً شخصية دنيوية. وهذا مـا أوضحه المسيح عندما قال: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟» (يو 5: 44).

فالذين لا يسعون لطلب مجد الله، وكلُّ همِّهم هو طلب مجد العالم لأنفسهم، يستحيل أن يكونوا مؤمنين حقّاً. وبالتالي لا يمكن للحقِّ الإلهي، الذي هو أساس الإيمان، أن يُستعلَن لهم! ولا يمكنهم أن يُوصِّلوا هذا الحق للآخرين لكي يؤمنوا!

خداع مظاهر العبادة:

فهؤلاء المراؤون «لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تي 3: 5)! لهم مظهر التقوى، ولكنهم فاقدون جوهرها! يُنادون بضرورة العبادة، وهم في قلوب‍هم غير عابدين! يُطالبون الشعب بالصدق، وهم غير صادقين! يحثُّون الناس على القداسة، وهم في باطنهم زنا، كما قال هوشع النبي: «أَفْعَالُهُمْ لاَ تَدَعُهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى إِلهِهِمْ، لأَنَّ رُوحَ الزِّنَا فِي بَاطِنِهِمْ. وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الرَّبَّ» (هو 5: 4)! يُعلِّمون الناس كيفية الصلاة الدقيقة، وهم لا يُصلُّون بقلوب‍هم ولا يؤمنون بالصلاة أو يعيشون ب‍ها أو لها! لَبِسوا قناع التقوى، ليختفوا وراءه ويعيشوا في انحلالهم! اعتمدوا على مظاهر العبادة، وكأن المظاهر قادرة أن تُنشئ تقوى!

إيَّاك أن تفتكر أنـه إذا كان لك مظهر التقوى، تكون بذلك تقيّاً! إيَّاك أن تعتقد أنه إذا أكملتَ كل طقوس العبادة والواجبات الظاهرية أو المعمولة بالجسد، تكون بذلك عابداً لله بحقٍّ! فإن لم يدخل الإنسان بسرعةٍ إلى العمق، ويمسك في المسيح، ويسعى إلى الحق؛ فإنَّ كلَّ مظاهر التقوى هذه، تُبعده عن المسيح وعن الحقِّ.

كان المعلِّمون المراؤون يُظهِرون منتهى التبجيل للناموس، ويحملون التوراة على رؤوسهم وهم سائرون، ويربطون‍ها على أيديهم، ويجعلون‍ها عصائب بين أعينهم، ويكتبون‍ها على أبواب بيوت‍هم، تنفيذاً لِمَا وَرَدَ في (تث 6: 6-9)؛ ولكنهم بالرغم من كلِّ هذه المظاهر الخادعة، لا يُبجِّلون الله صاحب التوراة، بل ليَظهروا هم أنفسهم مُبجَّلين وموقَّرين في أعين الشعب. وبالفعل كان الشعب يوقِّرهم ويُبجِّلهم، لذلك قال عنهم المسيح: «إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!» (مت 6: 5).

فالمسيح دعا الذين يَظهرون بمظهر التقوى بالمرائين، إذ قـال: «مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!» (مت 6: 2). وفي مرَّةٍ أخرى قال لهم: «هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْـرَاراً، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!» (مت 23: 28).

يـا أحبَّائي، هذا الكلام مُوجَّهٌ لنا جميعاً. انظروا الآن، ودقِّقوا، وافحصوا، كم من هذه الصفات المذمومة هي في داخل نفوسنا وضمائرنا وقلوبنا! كيف صار البعض مِنَّا نحن أيضاً فرِّيسيين وناموسيين! اعلموا أن فرِّيسيِّي اليهود ذهبوا لحالهم مع الكَذَبَة، ولكن المسيح الآن يُكلِّمنا نحـن. فالملكوت مُعطَّلٌ، والباب شِبْه مُغلَق، والطريق نصف مسدود، وذلك بسبب البعض مِنَّا. فاصْحَوا واسهروا!

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قداس يوم الأربعاء من الأسبوع السادس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (24) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis