تأملات في شخص المسيح الحي - 58 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (26)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (4)

+ لقد أعلن القديس بطرس الرسول بأنَّ المسيح الذي قام من بين الأموات: «هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِـيرَ ظَاهِـراً، لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، بَـلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِـنَ الأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بَأَنَّ هـذَا هُـوَ الْمُعَيَّنُ مِـنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا» (أع 10: 40-43).

وهكـذا استُعلِنَ لاهوتـه: ”لقد كـانت قيامة المسيح دليلاً وبرهاناً على لاهوته“(1).

وكان هـذا هو أول برهان واستعلان زاخر، أظهـر بهما (البرهان الأول، والضمان، اللـذان أعطاهما الرب يسوع المسيح) بأنَّ آلامه وموته وقيامته قـد أَنجـزت الخلاص لنا نحـن البشر، وذلك بأنه قام ثانيةً مـن الموت. وهكذا أَرسى لنا الأساس لقيامتنا المُبارَكة.

”بالموت داس الموت“: لقـد اكتسبت قيامة المسيح للبشر أهمية خاصة ذات طبيعة مُتَّسعة للغاية، من كلِّ جانب، وللكرازة المُبكِّرة بالمسيح.

القوَّة للحياة الآن: لقد صارت القيامة لكـلِّ مؤمـنٍ مسيحي هي القـوَّة، ليس فقط ليُواجـه المستقبل، بل أولاً ليحيا هـذه الحياة الحاضرة. فالمؤمـن المسيحي صار يُمارِس المـوت عـن الحياة القديمة، ويُمارس أيضاً القيامة التي للحياة الجديدة في المسيح. وهكذا تبدأ الحياة الأبدية في المسيح منذ الآن، وهنا على الأرض، على رجاء أن يتشكَّل المؤمـن تمامـاً وكلِّيةً بمحبة الله، وترجِّي حياة الدهر الآتي.

الاعتراف بتمجيد ابن الله: قيامة المسيح كانت أول شهادة على نزول ابـن الله في صـورة الاتضاع، ذلك النزول الذي اكتمل بنزوله إلى الجحيم. ولكن لم يَرَه أحـدٌ وهـو في مَثْوَى الأموات؛ أمَّا قيامته فقد صارت منظورة. النزول والقيامة، كانـا مرتبطَيْن معاً، كـانتصارٍ مخفيٍّ، ثم بانتصارٍ آخر مرئيٍّ ومُعْلَن، وهـو القيامة من الموت.

+ ومـوت المسيح صـار مُتوَّجاً بنزوله (إلى الجحيم): ابتداءً من مجده السابق، ومن خلال تجسُّده وميلاده، وبخدمته ودَفْنه، ونزوله إلى الجحيم، ثم بقيامته التي بَدَأت مـن القبر الفارغ، ثم صعوده إلى السماء ليتشفَّع من أجلنا وهو جالسٌ عن يمين الآب؛ بهذا كله صار مُتوَّجاً.

+ حياته وموتـه أظهرا مـدى طاعته للآب (سواء إيجاباً بحياته على الأرض، أو سَلْباً مـن خلال موتـه)؛ ثم قيامته من الموت التي صانت وأَكملت آلامه وموته.

+ وهكذا، فإنَّ تاريخه ينقسم إلى: ”الوعد بمجيئـه“، ثم ”بتحقُّق الوعد بمجيئـه“، سواء بالناموس (الشريعة)، أو نبوَّات الأنبياء في العهد القديم؛ ثم بتحقيق الوعود الإلهية بمجيء المسيَّا.

الخليقة البشرية استعادت حياتها الأبدية: وهكذا أتت قيامة المسيح مُتناسقة مع التجسُّد. وهذا يُظهِر بوضوح أنَّ الله الحي يَظهر وسط خليقته المادية، ”ليس كما لو أنَّ الله يعمل بمعزلٍ عن "الجسد"، أو في تعالي عن "الجسد"، ولا ما حول "الجسد"“(2).

+ ولكن ما تقرَّر عموماً، أنَّ القيامة صارت تُعلِن أنَّ الله يبقى ”سيِّداً“ على الخليقة الماديـة. وأنَّ القصد الإلهي يظل يتحقَّق في القيامة بطريقةٍ ثابتة مُتناسقة مع قَصْد الله نحو خليقته، وذلك بالتجسُّد.

+ القيامة ليست مضادة لقصد الله وتدبير خِلْقته، ولكن طريقة الله في خلاص البشرية كانت باستخدام الخليقة المادية (إش 26: 19؛ رو 1: 4).

أَضف إلى ذلك، أنَّ تاريخ الكَوْن كان يتَّجه نحو الفداء الذي يشمل الخليقة كلها، وليس فقط الجنس البشري؛ بل كل الخليقة: «لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِـنْ عُبُودِيَّـةِ الْفَسَادِ (أي الموت والفناء) إِلَى حُرِّيَّـةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ» (رو 8: 22،21).

حَدَثٌ جسديٌّ فريد من نوعه بالنسبة للبرهان المسيحي: قيامة الرب يسوع كانت حَدَثاً وقع على الجسد، وهكذا ستكون قيامة الأجساد بالنسبة للمؤمنين الذين حياتهم الآن مستترة في المسيح.

+ وليس هناك في تاريخ الأديان أنَّ مؤسِّس الدِّين يُعلِن أنَّ قيامة جسده مـن الموت، تؤكِّد وتُصدِّق على حياته الظاهرة وتعاليمه، كما تُمكِّن المؤمنين به من دخولهم إلى الحياة الأبدية.

في اليوم الثالث: لقد قـام المسيح في اليوم الثالث مـن موتـه (كما وَرَدَ في قانون الإيمان لمجمع نيقية المسكوني الأول الذي انعقـد سنة 325م، بحضور 318 أسقفاً).

+ ”وصُلِبَ عنَّا على عهد بيلاطس البنطي“: هـذه العبارة في قانون الإيمان تُذكِّرنا بأنَّ فداء البشرية كـان حَـدَثاً مُتَّصلاً بـالتاريخ البشري المدني، ومُسجَّلاً في وثائـق الدولة الرومانية، وليس مجرَّد فكرة تجريدية؛ بـل هي حَدَثٌ سُجِّل في أضابير (ملفَّات) التاريخ المدني.

+ في الحساب اليهودي القديم: كان أيُّ يوم يموت فيه شخصٍ ما - سواء كان شخصاً واحداً أو أشخاصاً عديدين - كان هذا اليوم مُعتَبَراً أنه ”يوم“، سواء كان جزءاً من يوم أو كان يوماً كاملاً. فقد كان تعداد الأيام لحدثٍ ما يُحسَب أنه يومٌ واحد. لذلك، فالمسيح صُلِبَ يوم الجمعة، ودُفِنَ في نفس اليوم، فصار محسوباً يوماً واحداً في تعداد الأيـام (اليوم الرابع عشر مـن شهر نيسان)، وظلَّ مدفوناً في القبر يوم السبت (سبت الفرح) فصار يوماً ثانياً، ثم قام في صباح اليوم الثالث (السادس عشر من شهر نيسان). وكان من المُعتاد حساب كل يومٍ بأنـه يوم جديد بالنسبة لشروق الشمس. وهكذا قيل إنَّ المسيح كـان في القبر ثلاثة أيام بحسب الحساب القديم. فالمسيح صار مدفوناً في القبر، لا أكثر ولا أقل من ثلاثة أيام، حتى يمكن أن يتمَّ التأكُّد من أنه قد مات.

+ يُقرِّر القديس أثناسيوس الرسولي (من آباء القرن الرابع) الأسباب التي أُعلِنَت فيها القيامة، بأنها ”لم تتعدَّ اليوم الثالث. ولم يكن مُمكناً أن تكون أقل من يومين، وإلاَّ فإنه يمكن أن يُطعَن في حقيقة وتمام موته، وإلاَّ أيضاً فالشهود على وفاته سوف يتفرَّقون وينصرفون“(3).

حقيقة عنصر اليوم الثالث: في القرن الثامن قبل الميلاد استخدم هوشع النبي في العهد القديم عنصر شفاء إسرائيل، قائلاً: «يُحيينا بعد يومين، ويُقيمنا في اليوم الثالث، فنحيا. لنَعْرِف الرب كل المعرفة ونتبعه» (هو 6: 2 الترجمة العربية الجديدة. ارجع إلى: 1صم 30: 12؛ 2مل 20: 8،5؛ لا 7: 18،17).

وفي العهد الجديد: قيل عن المسيح بعد قيامته أنه: «... فَتَح أذهانهـم (أذهـان التلاميذ) ليفهموا الكُتُب المقدَّسة. وقال لهم: ”هذا ما جاء فيها، وهو أنَّ المسيح يتألَّم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث“» (لو 24: 46،45 الترجمة العربية الجديدة).

+ لقـد كـان اليوم الثالث في العهد القديم مُرتبطاً بتحريـك ”التقدمة“ حينما يكون يوم غـدِ السبت (أي الأحد)، فيقومون بتحريـك الباكورة، وذلك حينما يُحرِّك الكاهن اللاوي تقدمة الحزمة، أي الباكورة أمام الرب [ملحوظة: كان كل واحد مـن الشعب يُحضِر معه حزمة مـن بـاكورة الحصاد (من القمح) بعد السبت (أي يوم الأحد)]، لكي يُحـرِّكها، فـيَرضَى الـرب عـن الشعب: «... مَتَى جِئْتُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَـا أُعْطِيكُـمْ وَحَصَدْتُمْ حَصِيدَهَـا، تَأْتُونَ بِحُزْمَةِ أَوَّلِ حَصِيدَكُمْ إِلَى الْكَاهِنِ. فَيُرَدِّدُ الْحُزْمَةَ أَمَـامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْكُمْ، فِي غَـدِ السَّبْتِ يُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ. وَتَعْمَلُونَ (وتُقرِّبون) يَوْمَ تَرْدِيدِكُمُ (تحريك) الْحُزْمَةَ خَرُوفاً صَحِيحاً حَوْلِيًّا مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ» (لا 23: 9-12).

+ وكانت هذه الحُزَم تُحرَّك كعلامة للشعب بأنَّ الذبيحة قد نالت قبول الله لها. وهذا عَيْن ما حدث في قيامة المسيح، حيث كانت علامة الله عن قبوله تقدمة المسيح نفسه لله، كمثل تحريك حُزَم القمح والتي حدثت في اليوم التالي ليوم السبت، وهو يوم قيامة الرب يسوع من الموت، يوم الأحد!

علامة يونـان النبي: وهناك رمزٌ آخر سبق حدوثه، وقد دخل في ذاكرة الكنيسة بالصوم ثلاثة أيام، وذلك في شخص ”يونان النبي“. فقد قال الرب يسوع بأنه ليس هناك رمزٌ مثل هذا الرمز: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَـةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَـذَا يَكُونُ ابْـنُ الإِنْسَـانِ فِي قَلـْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَـةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (مت 12: 40،39)(4).

”قوَّة قيامته“

في التعليم المسيحي هناك أساسـان للتفسير قـائمان على مَبْدَأيـن اثنين: الثالـوث الأقدس، وقيامة المسيح.

1. حقيقة عَمَل الثالوث الأقدس: القيامة كانت هي عمل الله الثالوث الأقدس، ليس فقط الآب، بل وأيضاً الابـن والروح القدس. ومن حيث إنَّ الله واحدٌ، وجوهرٌ واحد، في الثالوث الأقدس، فمِن المناسب أن نقول: إن الله أقام الرب يسوع من المـوت (كو 2: 12، 1كو 15: 4؛ أع 2: 24؛ 13: 30)، وأيضاً - وفي نفس الوقت - يمكـن أن نقول إنه أُقيم بمجد الآب؛ وأيضاً قام بسُلطان الابن؛ وأيضاً من خلال الروح القدس.

أ - «أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ» (رو 6: 4)؛ والله الآب الذي يُعطي روح الحكمة «أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (أف 1: 20).

ب - قام المسيح بقوة الابن: وليس من الغريب أن نقول - بحسب وحـدة الجوهر الإلهي للأقانيم الثلاثة - أن ابن الله المُتجسِّد قـام بسُلطانه، لأنـه الابن؛ ولكونـه الله، فإنَّ له السلطان أن يُقيم نفسه. وقد أوضح المسيح نفسه بأنَّ له السلطان أن يضع نفسه: «... لأني أُضحِّي بحياتي حتى أستردَّها.. فلي القدرة (السلطان) أن أُضحي بهـا، ولي القدرة (السلطان) أن أستردَّها» (يو 10: 18،17 الترجمة العربية الجديدة). وهذا القول يتضمَّن الفعل الإرادي: أن «أُضحِّي بحياتي».

+ وحينما قال اليهود المُقاومين للمسيح، أن يُثْبِت سُلطانه لهم، أجابهم الرب بالطريقة التي يفهمها اليهود المُقاومين، أنه هـو الذي يقدر أن يُقيم نفسه من الموت، بقوله: «اهدموا هـذا الهيكل، وأنا أَبنيه في ثلاثة أيام... وكان يسوع يَعني بالهيكل ”جسده“» (يو 2: 21،19 الترجمة العربية الجديدة). وهـذا التشبيه ذو معنى، حيث يُنظَر إلى القيامـة على أنهـا تشهد للقوَّة الإلهية الخاصة التي في الرب يسوع، ويُنظَر إليها أيضاً على أنها مِن فِعْل ابن الله. وعندما يُنظَر إلى القيامة على أنها التأكيد لدى الآب على حياة الابن وموتـه؛ إذن، فـإنَّ عمـل الثالوث يصبح، حسب الإنجيل: «مـا يعمله الآب، يعمل مثله الابن» (يو 5: 19 الترجمة العربية الجديدة).

ج - ومن خلال الروح القدس: وأخيراً، وكما يقول القديس بولس: «وفي الروح القدس ثبت أنه ابنُ الله في القدرة بقيامته مـن بين الأموات، ربُّنا يسوع المسيح» (رو 1: 4)، «وإذا كان روح الله الذي أقـام يسوع مـن بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح مـن بين الأموات يبعثُ الحياة في أجسادكـم الفانية بروحـه الذي يسكن فيكم» (رو 8: 11 الترجمة الجديدة). (يتبع)

(1) Hilarion, Trinity, V 12; NPNF, 2, IX, p.122.
(2) Origen, Dialogue with Hericlides, LCC II, pp.440-41.
(3) Incarn. of the Word, 26; NPNF, 2, IV, p.50.
(4) Ambrose, Flight from the word, FC 65, pp. 296-97.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis