دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 39 -

ثالثاً: الأسفار الشعرية

تقديم عام:

الأسفار الشعريَّة، وتُدعَى ”أسفار الحكمة“ التي يتضمَّنها العهد القديم، وهي: أولاً: سِفْر أيوب؛ ثانياً: سِفْر المزامير؛ ثالثاً: سِفْر الأمثال؛ رابعاً: سِفْر الجامعة؛ خامساً: سِفْر نشيد الأنشاد.

+ أمَّا عن سِفْر أيوب: فهو سِفْرٌ عجيب في كونه يختلف عن بقية أسفار الكتاب المقدَّس. إنه لا يحتوي على أيَّة إشارة عن شعب الله المختار أو تاريخه، ويُحيط بمصدره وتاريخه الكثير من الغموض، حيث قامت حوله العديد من الآراء المتضاربة: فالبعض يَعتبره أقدم من الأسفار الخمسة التي تُدعى التوراة، والبعض الآخر يَعُدُّه من الأسفار المتأخِّرة التي جاءت بعد السبي. ولم يأتِ ذِكْر لهذا الاسم في أسفار الكتاب المقدَّس سوى في سِفْر حزقيال الذي جاء فيه هذا القول على فم الرب قائلاً: «وَكَانَتِ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلَةً: ”يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ أَخْطَأَتْ إِلَيَّ أَرْضٌ وَخَانَتْ خِيَانَةً، فَمَدَدْتُ يَدِي عَلَيْهَا وَكَسَرْتُ لَهَا قِوَامَ الْخُبْزِ، وَأَرْسَلْتُ عَلَيْهَا الْجُوعَ، وَقَطَعْتُ مِنْهَا الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ، وَكَانَ فِيهَا هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ: نُوحٌ وَدَانِيآلُ وَأَيُّوبُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَلِّصُونَ أَنْفُسَهُمْ بِبِرِّهِمْ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ...“» (حز 14: 12-20). كما جاء ذِكْره أيضاً في رسالة يعقوب الرسول في أسفار العهد الجديـد: «خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاِحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَـاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يع 5: 11،10).

+ أمَّا عن سِفْر المزامير: فهو أكبر الأسفار وأكثرها انتشاراً واستعمالاً في الكتاب المقدَّس. وهو يَستعرِض مجالاً عريضاً من خبرات البشر في حيات‍هم العملية. والاسم العبري لهذا السِّفْر هو: ”سِفر ت‍هيلليم“ Sepher Tehillim، أي سِفْر التسابيح، لأنـه لا يكاد يخلو مزمور مـن نوعٍ من التمجيد والتسبيح لله. وتدعـو الترجمـة السبعينيـة هـذا الاسم ”بسالمي“ Psalmoi، وهي مُشتقَّة مـن الكلمة اليونانيـة ++++++. ويُنسَب لداود النبي والملك مـا يقرُب مـن نصف عـدد المزامير (75 مزموراً). لذلك تُدعى ”مزامير داود“.

+ سِفْر الأمثال: يُقدِّم هذا السِّفْر تفاصيل الوصايا والتعليمات والأوامر الإلهية لشعبه لكي يسلكوا بنجاح في حيات‍هم العملية اليومية: كيف يتعاملون مع الله، والوالدين، والأبناء، والأقارب، ورجال الحُكْم. وقد استخدم سليمان المؤلِّف الرئيسي لهذا السِّفْر، مجموعة متجانسة من الشِّعر، والأمثال، والأسئلة البليغة، والقصص القصيرة، والحِكَم الدارجة، ليُعطي صِيَغاً سهلة الحِفْظ تحمل المعنى المقصود للوصايا الإلهية الضرورية للعمل ب‍ها في المسيرة اليومية. ولكون سليمان هو ال‍مَثَل الأعلى لرَجُل إسرائيل الحكيم. لذلك دُعِيَ هذا السِّفْر بالعبرية = Mishle Shelomoh، أي أمثال أو ”حِكَم سليمان“.

+ سِفْر الجامعة: هو سِفْرٌ عميق وصعب الفهم. وهو يُسجِّل بحثاً كثيف المعنى عن مَغْزَى الحياة على هذه الأرض، وبالأخص بالنسبة لعدم المساواة بين البشر والأمور الظاهرة من المتناقضات المحيطة بنا. والاسم الذي أُطلق على السِّفْر مشتقٌّ من الكلمة اليونانية ”ekklesia“ أي الجامعة، وهو ترجمة للاسم العبري Qoheleth الذي يُفهم عادةً بـ ”ال‍مُعلِّم“ أو ”الواعظ“.

+ سِفْر نشيد الأنشاد: ويُدعَى أيضاً ”نشيد سليمان“. وهو أُنشودة حُبٍّ تزخر بتعبيرات مجازية وتصاوير شرقية. وقد استُخدِم على مدى قرون بواسطة الشعب اليهودي للاحتفال بالزواج البشري في حفلات العُرس، إلاَّ أنَّ محور السِّفر كـان رمزيّاً للتعبير عن محبة الله لشعبه ال‍مُخْلِص له وحبهم المتبادَل مع إلههم. أمَّا الكنيسة المسيحية فقد آثرت أن تستخدمه للتعبير التشبيهي عن حبِّ المسيح لعروسه الكنيسة باعتباره عريسها وهي عروسه، هي جسده وهو رأسها.

+ + +

1 - سِفْر أيوب

مُقدِّمـة:

يَعتبره التقليد اليهودي أنه من عصر الآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب. ويسرد هذا السِّفْر قصة رجُل فَقَدَ كل ما يملك: ثروته، وأُسرته، وصحته. ويتصارع مع السؤال: لماذا حدث كل هذا؟

ويبدأ السِّفْر بحوار يجري بين الله وإبليس في مسرح السماء، ثم ينتقل إلى ثلاث دوائر من النقاش تجري على الأرض بين أيوب وأصدقائه، ويُختَم بتشخيص درامي إلهي للمشاكل التي تعرَّض لها أيوب. وفي النهاية، يعترف أيوب بسيادة الله على حياته ويستردُّ أكثر مِمَّا كان عنده قبل التجارب التي حلَّت به.

ولم يأتِ أي ذِكْر لأيوب في سلسلة الأنساب التي جاءت في أسفار الكتاب المقدَّس. فمِن الواضح أنه غير ”يوب“ الذي وَرَدَ في (تك 46: 13)، وغير ”يوباب“ الذي وَرَدَ في (تك 36: 33). إلاَّ أنه جاء في سِفْر حزقيال على لسان الرب قائلاً: «”يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ أَخْطَأَتْ إِلَيَّ أَرْضٌ وَخَانَتْ خِيَانَةً، فَمَدَدْتُ يَدِي عَلَيْهَا وَكَسَرْتُ لَهَا قِوَامَ الْخُبْزِ، وَأَرْسَلْتُ عَلَيْهَا الْجُوعَ، وَقَطَعْتُ مِنْهَا الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ، وَكَانَ فِيهَا هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ: نُوحٌ وَدَانِيآلُ وَأَيُّوبُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَلِّصُونَ أَنْفُسَهُمْ بِبِرِّهِمْ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ...“» (حز 14: 14،13). كما جاء ذِكْره أيضاً في العهد الجديد في رسالة يعقوب الرسول: «خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالاً لاِحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يع 5: 11،10).

ويظهر اسم ”أيوب“ في النصوص القديمة من كتابات الشرق الأدنى، مُشيراً إلى شخصية أُسطورية لرجُلٍ حكيم. إلاَّ أنَّ هناك قَدْراً لا يُستهان به من إجماع الآراء بأنَّ هذا السِّفْر في شكله الحالي، كان موجوداً قبل أيـام الأنبياء. وظنَّ البعض أنه كُتِبَ في مصر، وحدَّد البعض الآخر مكان كتابته في جنوب شرق فلسطين على حـدود الصحراء في بـلاد عَوْص التي كـان يسكنها الأدوميون (بنو عيسو) (مرا 4: 21)، وكانت مُعرَّضة لهجمات السبئيِّين والكلدانيِّين (أي 1: 17،15).

مؤلِّف السِّفْر:

السِّفْر لا يوحي بشخصية مؤلِّفه، ولكن مضمون السِّفْر يَدُلُّ على أنَّ مؤلِّفه شخصٌ عميق التفكير، يُعالج مسائل عصيبة ومشاكل صعبة الحلِّ في حياة الإنسان من وجهة نظرٍ روحية ناضجة. كما يتبيَّن لنا أنَّ المؤلِّف أيضاً إنسانٌ مُثقَّفٌ وعلى دراية بالموضوعات الأساسية التي تشغل أذهان ال‍مُفكِّرين، وطبيعتها وأساليب مُعالجتها. كما أنه إنسانٌ روحاني يخاف الله ويخضع لكلِّ تدابيره بتسليمٍ تام.

تاريخ كتابة السِّفْر:

لكي نضع تاريخاً لكتابة هذا السِّفْر يستلزم مسألتين: تاريخ اعتماد السِّفْر، وتاريخ تكوينه. وعلى الرغم من أنه من غير الممكن تحديد التاريخ الدقيق للأحداث المذكورة في السِّفْر، إلاَّ أنَّ هناك العديد من العوامل التي تدعو إلى الترجيح بأنه من عصر الآباء البطاركة (2000-1800 ق.م)؛ وذلك بسبب غياب أي قرائن أو مراجع تُشير إلى عصر الأُمَّة الإسرائيلية أو عصر الناموس: فعُمر أيوب امتدَّ إلى ما بعد مائة سنة (أي 42: 16)، وليس كعمر نوح ومَن قبله؛ ودور أيوب، ككاهن لأُسرته، كان مُحرَّماً في ناموس موسى (أي 1: 5)؛ واتِّساع ثـروة أيوب من حيث ممتلكاته من الماشية والأغنام والدواب والجمال (أي 1: 3)؛ كل هذا يدلُّ على أنه لم يكن خاضعاً لأحكام ناموس موسى. أما من جهة تاريخ تكوين السِّفْر، فيتراوح بين عصر الآباء البطاركة (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وبين عصر ما بعد السبي. وأغلب الباحثين في العصر الحالي يُرجِّحون أنه بين عصر سليمان الملك وعصر السبي؛ والبعض يُشير إلى وجود علاقة بين أيوب والنبي إشعياء، ويقترحون أن كتابته كانت في غضون هذا الزمن.

+ وفيما يلي جدول تصويري لمحتويات السِّفْر:



التكوين الأدبي والروحي للسِّفْر:

يمكن تقسيم سِفْر أيوب إلى ثلاثة أقسام: معضلة أيوب (أصحاحات 2،1)، مناقشات أيوب (أصحاحات 3-37)، وخلاص أيوب (أصحاحات 38-42). وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ التكوين الأدبي لسِفْر أيوب مُتناسق: فهو يتكوَّن من شطائر من مسلسل شعري من المناقشات (3: 1-42: 6) تسبقه مُقدِّمة نثرية (2،1) تُقدِّم أيوب على أساس ثقة الله فيه، ثم تُعدِّد المآسي التي أصابته الواحدة تلو الأخرى: اقتصادياً وجسديّاً ونفسيّاً. ثم يلي ذلك الخاتمة (42: 7-17) التي تصفُ استعادة أيوب لنجاته من التجربة بالأسلوب النثري الذي يُوازِن المقدِّمة.

والسؤال الأساسي للسِّفْر هو: لماذا يُعاني الإنسان البار إذا كان الله هو إلهٌ مُحبٌّ وقديرٌ وقادرٌ على كلِّ شيء؟! المعاناة نفسها ليست هي المحور المركزي للسِّفْر، لكن المحور المركزي هو: ماذا تعلَّم أيوب من معاناته، أَلا وهـو سيادة الله فوق كـل الخليقة! فـالمناقشات التي دارت على مـدى الأصحاحات من 3-37 تدور حول إنْ كان الله يسمح بأن يُعاني البريء مـن الضيقات! كانت إجابة أصدقاء أيوب الثلاثة هي: إنَّ هناك علاقة مُتبادَلة مباشرةً بين البار وسلوكه، وبين تمتُّعه بالصحة والنجاح والغِنَى، وأنَّ حالة أيوب تُبيِّن أنَّ الأمر يدلُّ على عدم التطابُق. أمَّا الحوار مع أليهو فقد كان مقتنعاً بأنَّ الله يمكن أن يسمح بمُعانـاة البار لتنقيته. ولكن الأمـر لم يَزَل بعد ناقصاً. وفي النهاية، فإنَّ المناقشة المباشرة بين الله وأيوب، أظهرت أنَّ الله في سموِّه وسيادته على الكل، والذي يليق له العبادة، هو الذي اختار أن يفعل ذلك. فكلُّ ما يفعله هو في النهاية لخير الإنسان. وهكذا تعلَّم أيوب أن يثق في صلاح الله وقدرته حتى ولو في شدَّة الضيقة، فينبغي أن يكون لسان حاله دائماً: «الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكاً» (أي 1: 21). (يتبع)

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis
40 - مجلة مرقس سبتمبر 2018 مجلة مرقس سبتمبر 2018 - 41