سنة قبطية جديدة


عن التقويم القبطي

في الحادي عشر من هذا الشهر (سبتمبر) تبدأ السنة القبطية الجديدة 1735 للشهداء. وفي هذا المقـال نعـرض لتاريـخ التقويم القبطي الذي تستخدمـه كنيستنا في قراءاتها اليومية وتحديـد أعيادها وسائر مناسباتها.

والحقيقة أنَّ التقويم القبطي أقدم بكثير من هـذا التاريخ، بل إنـه أقدم التقاويم قاطبةً في التاريـخ الإنساني، والذي ابتدعـه المصريـون القدامى سنة 4241 ق.م، أي قبل أكثر مـن ستة آلاف عـام. ويعتمـد هـذا التقويم على ظهور نجـم الشعرى اليمانيـة (سيروس أو سوتيس، باليونانية)، وذلك قبل شروق الشمس كل 365 يوماً وربع يوم (وهي ظاهرة كانت تتَّفق مع بداية الفيضان).

وفيما بعـد، جَمَعَ العلاَّمـة الفلكي المصري سوسيجينيس Sosigenes (640 ق.م) هذا الربع يـوم (في الحقيقة: 5 سـاعات، 48 دقيقة و46 ثانية) كل أربع سنوات، فـأضاف يوماً إلى السنة الرابعـة، وهي السنة الكبيسـة (366 يومـاً)، التي تلي ثـلاث سنوات بسيطة (365 يوماً).

وتتكون السنة القبطية من اثني عشر شهراً، كل منها ثلاثون يوماً، ويليها شهر صغير (نسئ) من خمسة أيام (في السنة البسيطة) أو ستة أيام (في السنة الكبيسة).

وقـد قسم المصريون السنة إلى ثلاثة فصول كبيرة، كـل منها أربعة شهور، هي: الفيضان، والزراعة، ثم الحصاد. فعماد التقويم كـان النيل والزراعة، ولا يزال الفلاَّح المصري حتى اليوم يتبـع الشهور القبطيـة في زراعتـه وحصاده وحساب المناخ والفصول.

+ عن الشهور القبطية:

لم يكـن للشهـور القبطية - في البدايـة - أسماء، وكانت تُنسَب إلى فصول السنة. وفيما بعد أُطلِق عليها أسماء آلهة وإلهات مصر القديمـة، وابتدع المصريون لكلِّ شهر مَثَلاً سارياً يُعبِّر عن حالة الزراعة أو الجو في هذا الشهر:

1. فالأول شهر توت: من اسم الفلكي المصري تحوت (ابن قرية منتوت، أبو قرقاص، المنيا) الذي وَضَعَ التقويم المصري القديم، وابتكر حروف الكتابة الهيروغليفية، ورَفَعَه المصريون إلى مستوى الآلهة ليصير إله المعرفة والحكمة والكتابـة، ويُرمَز له بالطائر المقدَّس ”أبو منجل (أبيس)“. وفيـه يبدأ موسم الزراعة والري بعد الفيضان.

2. والثاني شهر بابة: من إيبتّ (طيبة)، اسم الأقصر القديم، ويُنسَب إلى عيد الاحتفال بانتقال الإله آمون من معبد الكرنك إلى معبده بطيبة (أو من بي تبوت إلى الزراعة).

3. والثالث شهر هاتور: مـن حتحور، إلهة الجمال والخصب والأُمومة والحب والموسيقى. وفيه تنضج سنابل القمح، فتبدو كالذهب المنثور.

4. والرابع شهر كيهك: من كا - حِر - كا، أي اجتماع القرين بالقرين، عـن تآلُف الأرواح عند الفراعنة، وبعث أوزيريس (أو من كا ها كا إله الخير)، وفيه يقصر النهار.

5. والخامس شهر طوبة: من تاعبْت، اسم أحد الأغنياء، أو من طوبيا إله الطبيعة والمطر، وفيه يشتدُّ البرد جدّاً.

6. والسادس شهـر أمشير: مـن مسير أو مشير، إله الزوابع والرياح التي تسود خلاله.

7. والسابع شهر برمهات: من بامونت إله الحرارة، حيث ينصرم الشتاء ويُقبل الربيع (أو من اسم عيد للملك أَمِنحُتب أو الملك أمنمحات). وفيه تمتلئ الحقول بالخير.

8. والثامن شهر برمودة: من رنودة أو رئونة إلهة الحصاد. فخلالـه يتمُّ حصاد القمح والشعير والفول والبرسيم (أو من رنوت الأفعى المقدَّسة).

9. والتاسع شهر بشنس: مـن باخنس، إله الظلام، (أو بـن خنسو إله القمر). ويمتدُّ خلاله الحصاد.

10. والعاشر شهر بؤونة: من بالوني أو بـاؤني إله المعادن، (أو مـن عيد الوادي الذي ينتقل فيه آمون من شرق النيل إلى غربه). وفيه تشتدُّ وطأة الحر.

11. والحادي عشر شهر أبيب: مـن هدبا، الثعبان الذي قتله حورس (أي فرح السماء لانتقام حورس لأبيه أوزيريس مـن عمِّه سِت)، (أو من الإله أبيب). وخلالـه يتغيَّر لـون المياه بطمي الفيضان (قبل إنشاء السد العالي).

12. والثاني عشر شهر مسرى: من مس -رع، أي ميلاد رع إله الشمس. وهـو شهـر الفيضان حيث كانت المياه تملأ كل الفروع.

13. الشهـر الصغـير: النسي (نسئ)، أي الأيام المنسية مـن السنة، وفيها وُلدت مجموعة أوزيـريس (وهي: أوزيـريس، إيـزيس، سِت، نِفتيس، وحورس).

وقد استَبْقَت الكنيسة هذه الأسماء للشهور القبطية كتراث قومي رغم ارتباطها بالعبادة الفرعونية التي طواهـا التاريخ، بعد أن أَضفت عليها الكنيسة بُعْداً مسيحياً بـارتباطها بـالقراءات اليوميـة والأعياد والتذكارات والعبادات خلال السنة.

+ التقويم القبطي وعصر الاستشهاد:

ظلَّت مصـر بعد إيمانها بالمسيح على يـد القديس مرقس (حوالي سنة 60م) تتبع تقويمها القديم حتى بداية القرن الرابع الميلادي، عندما قرَّرت أن يبدأ تقويمها مـن جديد مُقترناً بعصر تصاعُد الاستشهاد من أجل الإيمان المسيحي.

+ وقد بدأ الاضطهاد للمسيحيين الأوائل بحُكْم الإمبراطور الروماني نيرون Nero (54-68م)، غريب الأطوار، الذي أَمَرَ بحرق مدينة روما واتُّهِمَ المسيحيون زوراً بجريرته. وقد استشهد في عهده القديس بطرس مصلوباً مُنكَّس الرأس، والقديس بولس الذي قُطِعَت رأسه بحدِّ السيف (64م)(1).

+ وفي مصـر بـدأ الاضطهاد بـاستشهاد مُبشِّرها القديس مرقس (66م). وكان المسيحيون يحتفلون بعيد القيامة (29 برمودة) وصادَف ذلك عيـد الإلـه سيرابيس. فقبض الـوثنيون على القديس مـرقس وربطوه في ذيـل حصان بحبلٍ غليظ، وأخـذوا يسحلونه في شوارع الإسكندرية حتى تهـرَّأ جلده وأثخنت جسدَه الجـراح وأسلم الروح شهيداً. وأَخَـذَ المؤمنون جسده ودفنوه في الكنيسة التي دُعِيَت على اسمه(2).

+ وعانَى بعدها المسيحيون الاضطهاد بصورةٍ مُتقطِّعة على مدى قرنين ونصف القرن على يـد اليهود وعدد مـن الأبـاطرة الرومان بعد نيرون: دوميتيـان (81-95م)، تـراجـان (97-117م)، هادريـان (118-134م)، ماركـوس أوريـليوس (161-180م)، سبتميـوس ساويـروس (193-211م)، مكسيميانـوس (235-238م)، ديسيوس (أو داكيـوس) (249-251م)، فاليريـان (253-260م)، أوريليان (270-275م)، ثم ديوقلديانوس (ديوكليتيان Diocletian) (284-305م) وهو آخر هؤلاء الطغاة وأعتاهم في اضطهاده.

المُثير للدهشة أن ديوكليتيان (ديـوكليشيان) ظلَّ لحوالي عشرين عامـاً مـن حُكْمه يستخدم المسيحيين في حاشيته وإدارة إمبراطوريته، ولكن أثـاره مـوقف بطريـرك أنطاكيـة الذي أطلق - كبادرة حُسْن نيَّة - سراح ابـن ملك الفُرس، كان ديوكليتيان قـد أَسَره في الحرب وسلَّمه إلى البطريرك للاحتفاظ به إلى حين انتهاء حربه مع الفُرس. فلما فوجئ بالأمير الفارسي يُحاربه في الميدان من جديد، لم يحتمل ما فعله البطريرك، واشتعل غضبـه وأعلنهـا حربـاً شـعواء على المسيحيين في سائر الأنحاء؛ بل جاء بنفسه إلى مصـر (303م) ليتولَّى أَمـر عقاب مسيحييها وتعذيبهم امتداداً لِمَـا فعله أسـلافه، وبدرجـةٍ أشدَّ وأَنكى.

+ كانت نهاية ديوكليتيان ومن جاء بعده من الأباطرة أليمة، ودبَّـت الانقسامـات في الدولة. واضطـرت إزاء صلابـة المسيحيين ومقاومتهم حتى الـدم للاضطهاد العـاتي، إلى أن يُصـدر قسطنطين (إمبراطـور غـرب الدولة وقتها) مع ليكينيوس (إمبراطـور الشرق) مرسـوم ميلان للتسامُح (313م). وفيما بعـد (324م) صار قسطنطين إمبراطور الدولـة الرومانية الغربية، وقَبِلَ الإيمان هـو وأُمـه الملكة هيلانة، وهدأت الأحوال وحلَّ السلام لفترةٍ طويلة.

+ ولأن موجة الاضطهاد الأخيرة التي واجهتها مصر المسيحية كانت قاسية بصورةٍ غير مسبوقة (800.000 شهيد)، فقد قرَّر الآباء أن يجعلوا يوم وسنة اعتلاء ديوقلديانوس الحُكْم (29 أغسطس 284م)(3) بـدءاً جديداً لتقويمهم وسمُّوها سنة أو تقويـم الشهداء Anna Martyri تمجيداً وافتخاراً بآلاف الشهداء الذيـن تمسَّكوا بإيمانهم حتى الدم. وصار اليوم الأول مـن شهر توت، إكليل السنة القبطية، عيـداً للشهداء (ويُعـرَف أيضاً بعيـد النيروز(4)). وبهذا ينقص التقويم المصري الجديـد عن التقويم الميلادي 284 سنة.

+ + +

على أنَّ الاضطهاد لم يتوقَّف منذ دخول العرب مصر في القرن السابع الميلادي، فقد تصاعدت موجاته من جديد، ليتوقَّف ويتواصل. وحتى عندما كان يتراجع القتل، كان يتصاعد هدم الكنائس والأديرة، وحرق الكُتُب، أو مَنْع العبادة، أو مَنْع بنـاء كنائس جديـدة، أو إرهاق الكنيسة والشعب مادياً ومعنوياً، أو يسـود التمييز الديني في الوظائف والتعليم؛ بل وامتدَّ إلى لون الثياب، أو الأَمر بوشم الصليب (وهو ما رحَّب به الأقباط ومارسوه لحِفْظ هويَّتهم الإيمانية منذ الطفولة).

وفي السنوات الأخـيرة، حصدت موجـات التعصُّب، عشرات الشهداء الأقباط، رجالاً (بينهم كهنة) ونساءً وأطفالاً بـالقتل، وتفجير الكنائـس أثناء الصلاة بالانتحاريـين، فضلاً عـن إرغام الكثيرين على ترك ديارهم تحت التهديد.

كما لا تزال منطقتنا تُعاني من جماعة داعش الإرهابية التي احتلَّت مساحات شاسعة في العراق وسوريا وليبيا، وأعملت في مسيحيِّي هذه البلاد ذبحاً وتقتيلاً وتهجيراً، فضلاً عن هدم كنائسهم وأديرتهم. ولم ينجُ الأقباط العاملين في ليبيا من شرِّها، وكان آخر ضحاياها الـ 21 شهيداً الذين تمَّ ذبحهم أمام عدسات التصوير (15/2/2015)، وكانت أسماؤهم أحدث مـا ضمَّتهم الكنيسـة إلى قائمـة شهدائهـا في السنكسار. وقـد استقبلت الكنيسـة رفـاتهم في 14 مايـو 2018، بحضور قداسة البابا والأساقفة الذين صلُّوا عليهم أوشية الراقدين في مطار القاهرة الدولي، وتمَّ وضع رفاتهم في الكنيسة التي شُيِّدت خصيصاً لهذا الأَمر في سمالوط.

+ + +

كنيستنا المصرية هي كنيسة الشهداء تُزيِّن بهم هـامتها، ودماؤهـم هي التي حفظت الإيمان لنا نحـن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور. وإذا كان الاضطهاد مـن نصيبنا، فلنقبله فرحين من أجل المسيح الـذي «مَـاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ» (2كو 5: 15)، ووصيته لكـلٍّ منَّا: «كُنْ أَمِيناً إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤ 2: 10). وكما شهد آباؤنـا بالدم(5)، فلنشهد نحـن أيضاً؛ إن لم يكن بـالدم، فبحياةٍ أمينة حسـب الإنجيل، نُقـدِّم بها المسيح للعالم المُتغرِّب من حولنا.

دكتور جميل نجيب سليمان

(1) وكـان قـد سبقهما لنيـل الشهادة في أورشليم القديس استفانوس الذي رجمه اليهود (أع 7: 60،59)، وهـو أول مَـن فـاز بلقب الشهيد في العهد الجديد (أع 22: 20)، وتلاه القديس يعقوب (ابن زبدي) الذي قطع هيرودس رأسه بالسيف (أع 12: 2).
(2) في القرن التاسع نُقِلَ الجسد إلى البندقية (فينيسيا) التي كان القديس مرقس قد بشَّر أهلها، ووُضع في كنيسة احترقـت في 977م، وبُنِيَت مكان‍ها كاتـدرائية كـب‍رى (1052م) صارت مـن أشهر معالم البندقية. واستُعيدَ جزء مـن الرفـات مـن جديـد (24/6/1968) ووُضِعَ في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
(3) بسبب فارق الـ 13 يوماً بين التقويمين القبطي والجريجـوري، صـارت بدايـة السنة القبطية 11 أو 12 سبتمبر.
(4) على الأرجح من الكلمة الفارسية نوروز (ني روز) وتعني اليوم الجديد أو يوم الاحتفال، وهو في إيران بداية العام الجديد. وقد حملت رأس السنة القبطية هذا الاسم منذ احتلال الفُرس لمصر (525-405ق.م) بقيادة قمبيز، وحتى اليوم. وإن كـان البعض ينسب الكلمة إلى اللغة المصريـة القديمة. وقد احتُفِلَ بعيد النيروز في مصر قبل سنوات لأول مرَّة (12/9/2007) في القرية الفرعونية بحضور عدَّة مئات مِمَّن يحفلون بتاريخهم الفرعوني القديم.
(5) كان آخر شهدائنا نيافة الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير الأنبا مقار، الذي فاجأه قاتله فجراً وهو في طريقه إلى كنيسة الديـر لحضور تسبحة باكر قدَّاس الأحد (29/7/2018).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis