عظات وكلمات روحية



الاستعداد ومحاسبة النفس

+ صلَّى قداسة البابـا تواضروس الثاني بابـا الإسكندريـة وبطريرك الكرازة المرقسية، صباح السبت 8 سبتمبر 2018م، القدَّاس الإلهي بدير القديس أنبا مقار بب‍رية شيهيت، وذلك في مناسبة ذكـرى الأربعين لمثلث الرحمات نيافـة الأنبا إبيفانيـوس أسقف ورئيس ديـر القديس أنبا مقار. وقد شارَك قداسة البابـا في صلوات القدَّاس لفيفٌ مـن أحبار الكنيسة إلى جانب مجمع رهبان الديـر. وقـد ألقى قداسة البابا كلمة بمناسبة ذكرى الأربعين عـن: ”الاستعداد ومحاسبة النفس“، وهي التي ننشرها في هذا العدد.

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

ونحن في ن‍هايـة أيام هـذه السنة القبطية وعيد النيروز، فإنَّ الكنيسة تجعل قراءات‍ها حول الاستعداد، حول اليوم الذي فيه يُلاقي الإنسان الله. وتكون هذه الأيام الأخيرة فرصة جديدة لمراجعة النفس. وفي هذا الفصل (من إنجيل القدَّاس) (مت 25: 31-46)، يتكلَّم عن الخراف والجِدَاء. ويقـول الرب للخراف الكلمة التي نشتهي جميعاً أن نسمعها: «تَعَالَوْا يَـا مُبَارَكِي أَبِي...» (مت 25: 34)؛ بينما يقول للجِدَاء: «اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ...» (مت 25: 41).

من الأمور الهامة لنا جميعاً، سواء أَكُنَّا رهباناً أو في الحياة العامة أو خُدَّاماً، أن يقف الإنسان أمام هذا الصوت: ماذا تُريد أن تسمع؟ أَتريد أن تسمع: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي...»، هذه الكلمات القدسيَّة التي تسمعها من فم المسيح يدعوك؟! أم تحترس لهذه الكلمات: «اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ...»، وهي بمثابة حُكْم إلهي؟! يقف الإنسان ليتدبَّر ويُراجع أيام حياته.

لذلك في هذه المناسبة، ونحن نجتمع في هذا التذكار بمرور أربعين يوماً على رحيل حبيبنا نيافة الأنبا إبيفانيوس، إنما تكون فرصة لنا جميعاً لنُفكِّر: كيف يكون الإنسان مُستعدّاً حتى يسمع ذلك الصوت ال‍مُفرح: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي...»؟

سأذكر لكم ثلاثة أشياء ربما تكون عناصر أساسية في مراجعة النفس:

1. حِفْظ الهدف:

الله عندما خَلَق الإنسان، خَلَقه لهدفٍ؛ ومهما عاش الإنسان سنين كثيرة، فلابد أن يكون له هدفٌ يُحافظ عليه. البعض يختار أن يكون راهباً أو خادماً أو أن يعمل في العالم، والبعض يدرس أو يتكلَّم. في النهاية يجب أن يكون له هدفٌ نقيٌّ ومُفيد، وبقَدْر ما يكون الهدف مُفيداً، تصبح حياتك مُفيدة لكـلِّ أحـدٍ. نحن في مجتمع الدير، عندما يختار الإنسان حياته الرهبانية، يكون قد اختار بإرادته الالتزام ب‍هذه الحياة. وهـذا ما نراه في حبيبنا الذي رحل عنَّا، كيف كـان حافظاً للهدف! فهـو بعد أن أتمَّ دراسته، اشتهى هذه الحياة، واستمرَّ فيها عشرات السنين، ولم يتخلَّ عن الهدف أن يصبح راهباً مُلتزماً عارفاً.

حِفْظ الهدف أحد المعايير الرئيسية التي تقف عندها، وأنت تستعدُّ لعامٍ قبطي جديد. فهل هدفك محفوظٌ؟

توجَد حروب كثيرة وتجارب، ولكن طوبى ل‍مَن يخلص. حِفظ الهدف أحد الوسائل التي تُراجع ب‍ها نفسك، فربما يكون قد حدث تغيُّر أو انحراف أو ضعف. ولذلك لا تنسوا الهدف الذي خرجنا من أجله. والإنسان الذي يحيا في أُسرة له هدف، والذي في عمل له هدف. هذه النقطة أوَّليَّة، يمكن أن يُراجع الإنسان نفسه عليها.

2. طاعة الوصية:

الله أعطانا الكتاب المقدَّس، وكل ما فيه سُجِّل بالوحي المقدَّس عَبْر عشرات السنين إلى أن وُجِدَ في أيدينا، ولكن يغيب عن الإنسان طاعة وصية الكتاب المقدَّس. في رسالة فيلبِّي، يقول القديس بولس: «فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ» (في 1: 27)، والحياة الرهبانية في أساسها حياةٌ إنجيلية حسب الوصية. طاعة الوصية هي مقياسٌ يمكن أن يقيس عليه الإنسان مقدار حياته الروحية.

مَـن هم الذين يُباركون الله إلاَّ الذين عاشوا حسب الوصية؟ وأقصد بالطاعة، تلك التي يُمارسها الإنسان في حياته. قد يتشتَّت الإنسان بين قراءات كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. هذا الكلام لنا جميعاً، ولكن لآباء الدير بصورةٍ خاصة، لأن‍هم كرَّسوا كل أوقات‍هم من أجل الشبع بالكلمة المقدَّسة. ولذلك انظُر إلى موقع الكتاب المقدس في حياتك!

كـان نيافة الأنبا إبيفانيوس شخصاً يتلو آيات الكتاب، وكـان يحيا الحياة الإنجيلية الصادقة: «هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ (تقديم) الذَّبِيحَةِ» (1صم 15: 22).

3. نمو المحبة:

الله يُعطينا أعمارنا لننمو في المحبة، ولن نأخذ معنا سوى المحبة ومقدارها ونموها. العالم في صراع مستمر، ومحبة المال أصل لكلِّ الشرور، ولذلك فالمحبة تبرد، وربما تقلُّ، وربما تختفي! صار العالم ممتلئاً بآلاف الأديرة، وهي مجتمعات المحبة، وكن‍ز كل دير هو المحبة التي فيه، وإن اختفت المحبة لا يصير للحياة الرهبانية أي معنى. دوام المحبة هو أصل الحياة الديرية. فالدير مجتمعٌ ملائكي. اسأل نفسك عن مقدار المحبة التي تحصدها كل يوم: كيف تعيش بالمحبة؟ وكيف تُمارسها؟ كما يقول الكتاب: «لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رو 5: 5). تأخذ المحبة من الصليب ومن الله. وهذا المعيار الثالث كان واضحاً في حياة أنبا إبيفانيوس، فقد كان مُحِبّاً ومحبوباً في اللقاءات والمؤتمرات التي حضرها، وكانت محبته وسيلة تعليم.

ونحن نتذكَّر مرور أربعين يوماً على رحيله، نرفع قلوبنا إلى السماء. ونَعْلَم أنَّ الحياة تمرُّ في سنواتٍ كثيرة، ولكن نَعْلَم أنَّ الله ضابط الكل، وهو يُدبِّر كل شيء. إذا كُنَّا قد تعرَّضنا لهذه الأزمة، ولكن هي ساعة لنستيقظ الآن ونُراجع أنفسنا. كل واحد يُراجع نفسه، فسوف تقف وحيداً أمام الله، وتنتظر منه هـذه الكلمات إذا كنتَ مستقيماً: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي...». أمَّا إذا كـان موقفك مختلفاً، فسوف تستمع لكلماتٍ رهيبة هي بمثابة ال‍حُكْم الأخير: «اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّـةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ». الله لا يسمح أن يستمع أحدٌ إلى هذه العقوبة الأبديـة؛ بل ليُعطِنا أن نسمع من فِيه هذه الكلمات ال‍مُبارَكة: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ».

يا إخوتي، إن كانت الكنيسة قد تعرَّضت لهذه الهزَّة، ولكننا ننظر لها بمثابة إفاقة واستيقاظ لنا جميعاً. نيافة الأنبا إبيفانيوس قـد رحل عنَّا، وكانت الظروف صعبة؛ ولكن هـذا الرحيل جرس إنذار لنا جميعاً. لذلك ودَّعناه بفرحٍ للسماء، وهـا هـو يَنْعَم في السماء، ونحن أمامنا الطريق؛ فلنُراجع هدفنا والوصية والمحبة.

باسم كل الآباء الحضور معنا، وباسم كل المجمع المقدَّس، وكل الهيئات الكنسية، نُقدِّم العزاء، ونُعزِّي أُسرته ال‍مُبارَكة، والآباء في هـذا الدير. تعزية لكلِّ الذين أحبوه وخدموا معه. نُعزِّي كل الذين زاملوه وعرفوه عن قُرْب، ونشكر كل المسئولين في محافظة البحيرة. يُعزِّينا الله جميعاً، ويملأ قلوبنا بفرح، ويرفع قلوبنا للسماء.

ولإلهنا المجد الدائم، آمين.

الله مُدبِّر حياتنا

+ نص الكلمـة التي ألقاهـا قداسـة البابـا تواضـروس الثاني بابـا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للآباء الرهبان بدير القديس أنبا مقار في ذكـرى الأربعين لمثلث الرحمات نيافـة الأنبا إبيفانيـوس أسقف ورئيس ديـر القديس أنبا مقار صباح السبت 8 سبتمبر 2018م.

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

أُرحِّب بكم في تذكار الأربعين لنياحة الأسقف الأنبا إبيفانيوس، وبحضور الآباء الأساقفة، ومجمع الدير من الشيوخ والكهنة والرهبان.

نَعْلَم جميعاً أنَّ دير القديس مقاريوس هو ديرٌ له شأنه وله تاريخه وتُراثه. ونَعْلَم أنَّ هذا الدير له دورٌ فاعل في تاريخ الكنيسة القبطية. وطبعاً، كمثل أيِّ شيء في الوجود، تأتي عليه فترة من الركود والخمود، مثلما قال الدكتور عيسى (وكلمته منشورة في هذا العدد). إنَّ الدير في وقتٍ من الأوقات لم يكن به سوى عددٍ محدود من الآباء كبار السِّنِّ، ولكن بعد ذلك أُعيد تعميره ودخل ضمن أديرتنا القبطية والتي نفتخر ب‍ها.

الدير مرَّ بمراحل كثيرة، وكان دائماً يمتاز بالبُعْد الدراسي والإنتاج الفكري، والتي هي إحدى مكوِّنات الحياة الرهبانية.

الحياة الرهبانية هي في ثلاث نقاط: صلاة، قراءة، وعمل.

الصلاة: بكلِّ ما تحويه الكلمة من عبادة وأمور روحية.

القراءة: وأقصد ب‍ها الدراسة والترجمة والبحث.

العمل: وقد تطوَّر مع مرور الزمن بعد أن كان قاصراً على العمل اليدوي.

أي أنَّ هناك مثلث مُتساوي الأضلاع. هناك تَسَاوي بين أضلاع المثلث الثلاثة: الصلاة، القراءة، والعمل. لابد أن يكون هناك توازُن بينهم لضمان الحياة الروحية السليمة.

كما تعرفون أنَّ الكنيسة في البداية كانت هي الحارسة والحافظة للرهبنة، وأصبحت الرهبنة هي السور الذي يحمي الكنيسة.

مرَّ الدير بمراحل مختلفة: كان الأنبا ميخائيل هو المسئول عنه، وكان أبونا متى المسكين هو الأب الروحي للدير.

وبعد ذلك كان لابد من اختيار أب أسقف، وآباء الدير اختاروا فيما بينهم الراهب إبيفانيوس الذي صار أسقفاً للدير. وأنا يهمُّني الحياة الروحية داخل الدير. هذا رجاء أُقدِّمه لكلِّ واحد فيكم: الشيوخ، الكهنة، الرهبان، الصغار والكبار. الدير يجب ألاَّ يُقسَّم، خُذوا بالكم.

نحن هنا في دير القديس مقاريوس، فلا يجب أن يوجد أيُّ شكلٍ من أشكال التقسيم ن‍هائياً. واعلموا أنَّ الله يُدبِّر حياتنا من خلال ثلاثة قوانين رئيسية:

1. الله مُحب البشر:

فالله يحبُّ كل واحد فينا. صحيحٌ، نحن مختلفون، ولا يوجد راهب مثل الآخر. ولكن الله يحب كل واحد فينا، يحبه على ما هو عليه، حتى الخاطئ في وسطنا فإنَّ الله يحبه. نعم، هو لا يحب الخطية، ولكنه يحب الخاطئ، والدليل على ذلك أنه يُعطيه حياة. وأنا باعتباري ابناً لله، فواجبٌ عليَّ أن أُحبَّ كل مَن حولي.

أنا أُخاطب كل راهب في الدير: أنت مسئولٌ لكي تكون محبتك للجميع كاملة ومُتساوية دون أية تقسيمات.

اعلموا أنَّ الإنسان فينا يعيش حياةً واحدة فقط، ولا يَعْلَم متى تنتهي، ربما بعد ساعة! سمعتُ عن واعظ وقع فجأةً ميتاً قبل أن تنتهي عظته بثلاث دقائق!! فعليكم أن تستغلُّوا الفرصة الحاضرة.

إن لم تُحبَّ غيرك، فرهبنتك مَقضيٌّ عليها، وبلا فائدة. أنا أُكلِّمكم من كلِّ قلبي. لا نريد أن تكون مثل ما يقول ال‍مَثَل المصري: ”مِن برَّا هَلاَّ هَلاَّ، ومِن جُوَّة يعلم الله!!“.

2. الله صانع الخيرات:

الله دائماً يصنع الخير، ويجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير (رو 8: 28). حتى الأفعال المأساويَّة التي جازها الدير، أنا أثق أنَّ الله يستخدمها للخير. صحيحٌ نحن نتألَّم للفُراق، نتألَّم للأحداث، ونتألَّم لأجل الأشخاص. ولكن كل هذه سيُحوِّلها الله خيراً، ولكن هذا بشرط أن يَعْتَبِر الراهب ويستفيد.

وكما هو الآب السماوي، هكذا يجب أن نكون نحن أيضاً صانعي الخيرات، نأخذ من الخير الإلهي ونُقدِّمه للآخر. انتبه! لا يجب أن ت‍هزَّك الأحداث مهما كانت قاسية ومُزعجة.

3. الله ضابط الكل:

اعْلَمْ أنَّ الله يضبط كل شيء: يضبط الحياة والتاريخ والآباء والأحداث. هو المايسترو لهذه الحياة.

نحن رهبان، ليس لنا مشكلات العالم وهمومه، لذلك لا تُلوِّث عقلك بالأحداث العالمية. اجعل عقلك ينتبه لشيءٍ واحد، وهو الله، الذي أنت أتيتَ لأجله.

الدير يُقدِّم لك، أيها الراهب، كل ما تحتاجه من مكانٍ يأويك، وطعام، وكل مستلزمات الحياة، وأصبحت هذه الأمور لا تشغلك بعد. لذلك عليكم أن تتفرَّغوا وتستيقظوا، أيها الآباء، لدعوتكم الرهبانية، هذه الدعوة التي عليكم أن تتمتَّعوا وتفتخروا ب‍ها، أرجوكم!

احفظوا أنفسكم من الأخبار والأحداث والحكايات وكلام الناس. اجعلوا ما حدث هو فرصة للتوبة.

لعلَّكم تتذكَّرون قصة ”عظات التماثيل“ التي ألقاها القديس يوحنا ذهبي الفم في أنطاكية، عندما حدث وأنْ فَرَض الإمبراطور ضرائب على الشعب. فما كان من الشعب إلاَّ أن ثار وأعلن العصيان، وكسَّر تماثيل الإمبراطور، والذي ما أن عَلِمَ بما حدث حتى أراد أن يُعاقب الشعب. فخاف الشعب جدّاً، والتجأوا للكنائس للحماية. وكانت هذه فرصة لذهبي الفم، فألقى سلسلة عظات تُسمَّى ”عظات التماثيل“، يحثُّ فيها الشعب على التوبة. وكانت النتيجة إيجابية في النهاية.

لذلك أُشير عليكم، يا إخوتي الأحبَّاء، أن تستغلُّوا ما حدث من أُمورٍ صعبة في الفترة الماضية لأجل توبتكم الشخصية.

يا آباء، أنا لا أَعظ، أنا أجلس معكم جلسة محبة.

أنا الآن مسئولٌ عن الدير، وأبونا بترونيوس هو الرُّبِّيتة. وسوف تتكرَّر لقاءاتي معكم بعد رجوعي من السَّفَر.

إحسانات الله علينا:

هنـاك عبارة رائعـة في صلاة الساعة التاسعة تستوقفني كثيراً: ”لكيما إذا ذُقـتُ مـن إحساناتك، أُقدِّم لك تسبحةً بغير فتور، مُشتاقاً إلى ب‍هائك أفضل من كلِّ شيء“.

نحن نشكر الله من أجل ديرنا. نشكره لأجل دعمه ال‍مُتفاضل علينا. نشكره لأننا رهبان.

الله عندما خلق الإنسان، خلق له أعضاء كثيرة: هناك بالطبع أعضاء ذات أهمية كبيرة مثل العين، ولكن ما فائدة الحاجب؟! لقد خلقه الله لكيما يُجمِّل العين، فبدون الحاجب تكون العين قبيحة جداً.

علينا أن نتذكَّر إحسانات الله، نذكرها ونتأمَّل فيها، ونكتبها. نحن الرهبان أكثر الناس الذين ذُقنا إحسانات الله. نحن محسودون على حياتنا الرهبانية التي نحياها داخل الدير.

”مُشتاقاً إلى ب‍هائك أفضل من كلِّ شيء“. فما الذي يشغلنا على الأرض - كرهبان - عربة، تليفون، لا قيمة لكلِّ هذه الأشياء.

يا إخوتي، استيقظوا من أجل حياتكم، ومن أجل الكنيسة. عندما أرى راهباً أو مجموعة رهبان قد ضاعوا، تكون الكنيسة هي الخاسرة، خسرت أُناساً مُصلِّين.

”مُشتاقاً إلى ب‍هائك أفضل من كلِّ شيء“. هل توجد مُتعة أكثر من أن أرى إخوتي حولي، وأن‍هم يسندونني!

أرجوكم لا تجعلوا العالم ومتاعبه يدخل فيكم وفي حياتكم. أنتم تركتم كل شيء، وعليكم أن تذوقوا وتتمتَّعوا بإحسانات الله، وتشتاقوا له. صدِّقوني، هذا أفضل من كلِّ شيء!

دير أنبا مقار له بُعدٌ قويٌّ في التاريخ الكنسي. وأنت، يا راهب، عندما ترهبنت لم يكن ذلك في غفلةٍ من الزمان، لكن الله رتَّب ذلك، وهو أعطاك هذه الوزنة لكي تستخدمها وتُتاجر ب‍ها. ولكن إيَّاك أن تُخفي وزنتك في الت‍راب، ولكن خُذها وتاجر ب‍ها، وارْبَحْ: «كُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (1كو 9: 25).

نحن اليوم نتذكَّر الأنبا إبيفانيوس الحبيب الذي سبقنا للسماء. نتذكَّر صورتـه وجهاده ومحبته وخدمته ورهبانيته. نتذكَّر مِثالاً طيِّباً جدّاً عاش وسطنا.

ودائماً البستاني عندمـا يُريـد أن يُكرِم صاحب البستان، فيختار له أفضل ثمـرة ليقطفها ويُقدِّمها له. وهكذا اختِير الأنبا إبيفانيوس كأفضل ثمرة لتُقدَّم للملك السماوي.

أرجو أن يشهد هذا الدير ن‍هضةً روحية، ليست زراعية ولا صناعية ولا إنتاجية؛ ولكن ن‍هضة روحية قويَّة للرهبان جميعاً. وعندما تحدث هذه النهضة، فسوف يكون هذا لخير الدير، بل لخير الكنيسة كلها.

نعم، جُرِحَت الرهبنة في الأحداث السابقة، والكنيسة أيضاً جُرِحَت، لا شكَّ في هذا؛ ولكن في أيدينا أن نُضمِّد الجراح، وأن نقوم من العثرة التي أَتعَبَت أُناساً كثيرين، نقوم من الشماتة التي نراها على صفحات الجرائد، نقوم ببداية جديدة. وكما نُصلِّي كل يوم: ”فلْنبدأ بدءاً حسناً“.

أنا الآن في موضع المسئولية. أنا الآن أحمل محبة لكلِّ واحد. صحيحٌ أنا لا أعرف الأسماء كلها، ولكن - بنعمة ربنا - عندما آتي إليكم، سأتعرَّف عليكم واحداً واحداً.

أنا يهمُّني الدير، فأنتم تحملون اسماً غالياً، اسم أنبا مقار هو اسمٌ غالٍ. من فضلكم، مهمتنا جميعاً أن نُحافظ عليه.

ربنا يحفظكم ويحميكم، وتصلُّوا لنا جميعاً. نجاحكم الروحي سوف يُسبِّب سعادة للكنيسة كلها. على كل راهبٍ أن يلتفت إلى خلاص نفسه روحيّاً، فهذا هو الهدف الأول والأخير.

”لكيما إذا ذُقتُ من إحساناتك، أُقدِّم لك تسبحةً بغير فتور، مُشتاقاً إلى ب‍هائك أفضل من كلِّ شيء“.

الله يشفي أمراض ال‍مُتعبين فيكم، ويُعطي الجميع الصحة الروحية والجسدية، لكي تكون حياتكم جيِّدة ونقيَّة، ويصنع ديركم قدِّيسين كما صَنَعَ في التاريخ القديم.

لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد، آمين.

كلمة شُكر

+ نص الكلمة التي ألقاهـا الراهب القس يوحنا المقاري في استقبال قداسة البابا تواضروس الثاني بابـا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في ذكرى الأربعين لمثلث الرحمات نيافـة الأنبا إبيفانيـوس أسقف ورئيس ديـر القديس أنبا مقار صباح السبت 8 سبتمبر 2018م.

بالنيابة عن مجمع دير القديس أنبا مقار، شيوخاً وكهنةً، ورُهباناً، نتقدَّم بخالص الشُّكر والاعتراف بالفضل والامتنان على كلِّ ما قدَّمه قداسة البابا ال‍مُعظَّم أنبا تواضروس الثاني، والآباء المطارنة والأساقفة ال‍مُوقَّرون، وأعضاء لجنة شئون الأديرة، وسكرتير المجمع المقدَّس، على كلِّ ما بذلوه من أجلنا في هذه الفترة العصيبة التي لم يمرَّ ب‍ها الدير قبلاً، والتي فَقَدنا فيها أبانا الحبيب وراعينا الوديع وأسقفنا ال‍مُبارَك المثلث الرحمات أنبا إبيفانيوس.

وندعو الله أن يُلهمنا الصبر والعزاء، ويملأ قلوبنا بالسلام والمحبة والمودَّة الأخويَّة، لنُكمِل دورنا ومسيرة غربتنا في مخافة الله وتمجيد اسمه القدوس، بصلوات قداسة البابا وآبائنا المطارنة والأساقفة.

وفي الختام، لنا التماس من قداستكم، استجابةً لرغبة جميع الآباء الذين يشعرون باحتياجهم إلى أُبوَّة قداستكم في هذه الفترة بصفةٍ خاصة، لأنَّ القلوب ما زالت مُتأثِّرة لِمَا حَدَث. ونحن نَعْلَم مسئولياتكم الضخمة، ولكننا نترجَّى أن نكون في مركز القلب من أُبوَّتكم ورعايتكم.

ولْيُعطِكم الرب طول العمر، ويحفظكم لنا وللكنيسة كلها، ويقبل صلواتكم المرفوعة عنَّا وعن الكنيسة كلها.

الراهب يوحنا المقاري

الأنبا إبيفانيوس نموذجٌ فريد

+ نص الكلمة التي ألقاهـا دكتور عيسى إبراهيم جرجس مدير مستشفى فيكتوريا بالإسكندرية ووكيل المجلس الملي ب‍ها، في حضرة قداسة البابا تواضروس الثاني بابـا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والآباء المطارنة والأساقفة ورهبان الديـر، في ذكرى الأربعين لمثلث الرحمات نيافـة الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار صباح السبت 8 سبتمبر 2018م.

حضرة صاحب الغبطة والقداسة أبونـا البابـا الأنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندريـة وبطريرك الكرازة المرقسية؛

حضرات الآبـاء أصحاب النيافة الأحبار الأجلاَّء، نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، والأساقفة الأجلاَّء المجتمعون اليوم؛

آبائي الكهنة والرهبان ال‍مُوقَّرون، إخوتي الأحبَّاء، الحضور الكريم؛

اخرستوس آنستي.. آليثوس آنستي.

في هذه المناسبة الطقسية المقدَّسة، يعزُّ عليَّ أن أقف بينكم، وكنتُ أتمنَّى من كلِّ قلبي ألاَّ أُوضَع في هذا الموقف، ولكن نزولاً على محبة ورغبة إخوتي أحبَّاء الدير العامر، قَبِلْتُ هذه المهمة الصعبة، لكي أُعبِّر عـن مكنونات قلوبنا بال‍مُفارقـة ال‍مُفاجئة باختطاف أبينا الجليل الأسقف الطوباوي أنبا إبيفانيوس من بيننا.

يذكُـر لنا التاريخ، كما جاء في سيرة الأنبا بنيامين البطريرك الـ 38 في عداد الآبـاء البطاركة القدِّيسين، أنه أثناء قيامه بتدشين مذبح كنيسة أنبا مقار بديره ببرية شيهيت، في القرن السابع الميلادي، شاهَدَ شيخاً وقوراً واقفاً بين الرهبان. فقال في قلبه: ”عندما يخلو كرسي أسقفية، سأُقيم هذا الشيخ أسقفاً عليه“. ويُكمِل (الأنبا بنيامين) حديثه قائلاً: ”وقد ظهر قبالتي شاروبيم ذو ستة أجنحة، وقال لي: "يا أسقف، لماذا تخطُر هذه الأفكار في قلبك؟ هذا هو أبو مقار أبو البطاركة، هذا هو لابس الروح أبو الرهبان كلهم". ثم قال لي الشاروبيم: "إنْ سَلَكَ أولاده الطريق المستقيم وسَعَوْا السَّعْي الملوكي الذي مشى فيه أنبا مقار، والذي علَّمه لهم، فإن‍هم يدخلون معه في طريق الملك، ويفرحون معه في دهر الدهور. وإن لم يسمعوا منه، ولم يتبعوا وصاياه، فليس لهم معه نصيبٌ، لكنه يطردهم من قطيعه، ولا يكون لهم نصيبٌ في ميراثه". فأجاب البار أبو مقار بتحنُّنٍ ومحبة لبنيه: "يا سيدي، لا تقطع على أولادي ب‍هذا. لكن إذا بَقِيَت في العنقود حبَّةٌ واحدة، لا يهلك، لأن بركة الرب تكون فيه. وأنا أومن بالمسيح حبيب نفسي أنـه إذا وَجَدَ في أولادي وصيةً واحدة، التي هي محبة الإخوة بعضهم لبعض، والرأفة لكـلِّ واحـدٍ، فأنـا أومن أنـه بصلاحه لا ينسى تعبهم، بل يُخلِّصهم من العذاب الأبدي"“.

سيدي قداسة البابا، نحن نؤمن بأنَّ أعمال الله عجيبةٌ، وهي تفوق الوصف. ففي ن‍هايات القرن العشرين أُوحِيَ من الله لأبينا الأب البطريرك القديس العظيم البابا كيرلس السادس أن يُسلِّم هذا الدير المقدَّس الذي لأبينا الأنبا مقار - والذي كان قد بَدَأ ينهار بسبب قلَّة عدد رهبانه، الذين لم يتبقَّ منهم إلاَّ خمسة شيوخ مرضى، كما ت‍هالَكت مبانيه الأثرية وآلَ للسقوط، إذ لم يكن قد طالَتْه يد التعمير منذ زمنٍ - يُسلِّمه إلى أبينا ال‍مُطوَّب الذِّكْر القمص متى المسكين، ومَن معه من الآباء ال‍مُبارَكين؛ فأعادوا بناءه روحيّاً حسب النظام الروحي للرهبنة القبطية الأصيلة التي أسَّسها في هذا المكان - الذي نحن فيه الآن - أبوهم القديس أنبا مقار؛ وعملوا فيه حسب تعاليمه كوصية الشاروبيم، وأكملوا البناء المعماري كأحدث ما يكون دون الإخلال بالمعيشة الرهبانية الأساسية، كما كانت في القرن الرابع الميلادي، وكما يقولون بالبلدي: ”العيِّنة بيِّنة“!

فها هو أحد أبنائه القدِّيسين الذي نجتمع اليوم لنَنْعيه للعالم كله، شهيداً لكلمة الحقِّ كيوحنا المعمدان القرن الـ 21. وأقف هنا لأؤكِّد بأنَّ هـذا الدير المقدَّس لن تستطيع قُوَى الشرِّ، مهما أُوتِيَتْ مـن مقدرة، وأُعطِيَتْ من إمكانياتٍ وسلطان، أن تُدمِّره؛ لأنه قائمٌ على صخر الدهور. فمَن يستطيع أن يُغيِّر كلمةً واحدة مِمَّا جاء في الحوار بين الشاروبيم والقديس العظيم أنبا مقار؟

أبي قداسة البابا، لقد كان أبونا الأنبا إبيفانيوس نموذجاً فريداً في زمننا الحاضر للأسقف ال‍مُتقشِّف النقي الزاهد البتول الوديع المتضع الناسك، بكلِّ ما تعني الكلمة. ومع كل هذه الصفات المقدَّسة التي كانت فيه، إلاَّ أنه كان يمتاز بمواهب أخرى عديدة، أذكُر منها، تقديراً للوقت، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ثلاث مواهب:

الأولى: هي التخشُّع مع التقوى:

فلقد تتلْمَذ أبونا الأسقف، منذ رهبنته، على النموِّ الروحي في المسيح يسوع وحده: «صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ»، «لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ» (أف 4: 12،15)، ”لكي تكونوا كاملين في التقوى بتخشُّع“. فمنذ أول يوم لتكريس حياته للرهبنة، وَضَع في قلبه أن يحيا حياةً رهبانية تقوم على مبادئ الإنجيل ووصايا قدِّيسي الرهبنة العِظَام، وقد استلمها من أبيه الروحي. ولذا كان اشتياقه أن تعود الرهبنة لأصولها الأولى، لأن ن‍هضة الكنيسة لن تتحقَّق دون النهوض بحياة الرهبنة. وقد أعطته روح التقوى التي عاشها، تمييزاً وبصيرة ثاقبة، ليقود الدير كما كانت تشتهي نفسه.

أمَّا الثانية: فهي المعرفة الروحانية:

كان أبونا الأسقف مهتمّاً بالبحث والدراسة في كُتُب الآباء القدِّيسين بكلِّ اللُّغات وبكلِّ الوسائل، ليس فقط المعرفة العلمية من معاني ما يُترجمه ويبحث فيه، وإنما بروحانية ما يكتبه. وأنا أعتقد يقيناً أنَّ هذه الروح آزرها الروح القدس فيه بقوةٍ فائقة، حتى خرجت تعاليمه في كلِّ ما كَتَبَ بالروح والحقِّ، كما قال أبو مقار: ”إنَّ ما ينبغي على الراهب أن يعمله، هو أن يكون حارّاً كلَّ حين في الروح“.

والثالثة: هي سِعَة القلب واتِّساع الفكر:

كانت شهوة أبينا الأسقف، والتي استلمها واستلهمها من أبيه الروحي، هي الانفتاح على العالم كله. وهذا لا يعني أن نترك تُراثنا لنتَّحد بالآخرين، ولا أن نتخلَّى عمَّا استلمناه من آبائنا من تقليد كنيستنا القبطية الأرثوذكسية المجيدة الخالدة؛ ولكنه انفتاح حُبٍّ قلبي وتعاون وتحديث وسائل تُساير العصر دون التفريط في ذرَّة مِمَّا ورثناه مـع تقبُّل الآخر واحترامه، دون تكفيره والحُكْم عليه بما ليس فيه. وهذا ما جعل الأب البار الأنبا إبيفانيوس مقبولاً من كنائس العالم كرسولٍ لكنيستنا القبطية: «في طريق وصاياك سعيتُ عندما وسَّعتُ قلبي» (مز 118: 32 - حسب الأجبية).

سيدي قداسة البابا، إنَّ الكلام عن هذا البار يحتاج إلى أيامٍ، وليس عدَّة دقائق محسوبٌ عليَّ ألاَّ أتجاوزها. إنني أُعلن من على هذا المنبر المقدَّس مع إخوتي الذين أولوني ثقتهم التي أعتزُّ ب‍ها، أننا نتقدَّم لغبطتكم بجزيل شُكرنا وامتناننا، ونُقدِّر كل أعمالكم، ونحيِّيكم من أجل إنصافكم للحقِّ وعدالتكم، ونقف معكم بجواركم في كلِّ ما تمتدُّ إليه أيديكم للإصلاح والعودة بالرهبنة إلى جذورها الأولى. فغبطتكم مؤيَّدٌ من الروح القدس، ونبتهل إلى إلهنا الصالح أن يحفظكم لنا وعلينا أباً ورئيسَ آباء.

هل لي أن أطلب منكم جميعاً، آبائي وإخوتي الحضور، أن نُصلِّي بكلِّ جوارحنا، لكي يُسيِّج الله مُخلِّصنا حول كنيسته المقدَّسة الرسولية القبطية بسياج محبته لنكون جميعاً برأي واحد، كما هو والآب واحد، وأن يحفظ بسلامه أديرتنا القبطية مـن العدو المنتقم، وخاصةً هـذا الدير المقدَّس، وأن يُزيح عنه هـذه الغُمَّة. فدم أبينا الأسقف الشهيد لن يضيع هباءً، ليعود الدير كما كـان منذ بداياته وحتى نياحة أبينا الروحي القمص متى المسكين، فلا يُسْمَح فيه بالزيارات العشوائية، ولا الرحلات الترفيهية، ليستمرَّ في عطائـه للكنيسة في وحدانيـة القلب، بالصلاة والابتهال والجهاد الروحي المقرون بالإنتاج العلمي الطقسي واللاهوتي المقدَّس والكَدِّ الجسدي؛ وهذا مَطْلَبٌ شعبي يا أبانا قداسة البابا.

أشكرك، أبي قداسة البابا، لاحتمالكم لطول كلمتي، وأشكر آبائي المقدَّسين الحاضرين، وكل إخوتي الأحبَّاء؛ وأتوسَّل من أبينا الشهيد أن يذكرنا ويصلِّي عنَّا، آمين.

دكتور عيسى إبراهيم جرجس

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis