تأملات في
شخص المسيح الحي
- 59 -



المسيح +

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (27)

ثالثاً: المسيح الملك القائم من بين الأموات (5)

مجد المسيح بعد القيامة

الله الواحد المثلث الأقانيم بعد التجسُّد:

الله الأزلي الأبدي الذي لا بداية له ولا نهاية، هو ”الله محبة“ (1يو 4: 8). والتجسُّد هو ثمرة ”الله محبة“. ومـن هنا نستطيع أن نفهم كيف صارت البشريـة متَّحدة بالله في تجسُّـد المسيح. ومـن هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم قَوْل الله في العهد القديم عـن الإنسان الأول: «هُوَذَا الإِنْسَانُ (آدم) قَـدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفـاً الْخَيْرَ وَالشَّرَّ (بعد سقوطه في المعصية). وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِـنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (تك 3: 22).

+ ولأن الله أزليٌّ أبديٌّ، أي لا بداية له ولا نهاية من جهة الزمن؛ لذلك، فحينما اتَّحد ابن الله بالبشرية - في شخص يسوع المسيح - فـإن البشرية تكون هي التي تغيَّرت، إذ أُضيف إليها قُرْبَى الإنسان من الله في شخص المسيح. وبهذا صارت الحياة الأبدية، بالنسبة للإنسان، إضافـة ممنوحة مـن الله للإنسان - في المسيح - وهكذا صارت كإضافة إلى عُمْر الإنسان بعد الدينونـة، الأمر الذي لم يكن معروفاً قبل قيامة المسيح.

+ وهكذا، باتِّحاد الله بالبشرية، في المسيح، صارت ”الحياة الأبديـة“ بمثابة إضافة الأبدية إلى عُمر الإنسان؛ ما لم يكـن مُنتَظَراً قبل قيامة المسيح مـن بـين الأمـوات، وصعـوده إلى السموات، وجلوسه عن يمين الآب!

المسيح ابن الله المتجسِّد صعد إلى السماء:

وهكذا، فـإنَّ جسد يسوع المسيح ابـن الله المتجسِّد المولود من العذراء مريم، قد صعد إلى السماء وتمجَّد. وهكـذا أيضاً أَظْهَـرَ المسيح لنا حالة قيامتنا في جسده الخاص الذي أخذه مـن بشريَّتنا.

الجسد القائم مـن الموت لم يَعُدْ قابلاً للألم: وفي العصر المُبكِّـر لتاريـخ الكنيسـة، أدرك القديس إغناطيـوس الأنطاكـي ”أنَّ ابـن الله، والمولود من العذراء مريم، تألَّم حينما صُلِبَ، ثم كفَّ عن الألم حينما تمجَّد بقيامته من الموت“(1).

وماذا عـن إقامة المسيح لعازر وغيره من الموت؟ ذُكِرَ في الأناجيل عن إقامة المسيح لابنة يايرس رئيس المجمع (مت 9: 18-26؛ مر 5: 22-24، 35-43؛ لو 8: 40-56)؛ كما ذُكِر في (لو 7: 11-17) إقامة المسيح لابن أرملة نايين؛ كما ذُكِرَ أيضاً في (يو 11: 1-44) إقامة المسيح لعازر من الموت. وكـل حالات الإقامة من الموت كانت تُشير إلى القيامة غير المسبوقة للمسيح ابن الله المُتجسِّد.

+ وهـذه الإقامـات الثلاث المذكـورة في الأناجيل، لم تكن مثيلاً أبداً لقيامة الرب يسوع من المـوت، حيث كـانت إقامتهم مـن الموت بيد المسيح، ولكـن الثلاثة ماتوا بعد ذلك مثل باقي الناس. وفي حَدَث إقامة لعازر، تكلَّم المسيح مع الميت، وسمع الميت أَمر الرب يسوع من داخل مكان موته (القبر). وهو يُشير، بطريقةٍ ما، إلى أن الموتى - وهم موتى - كانوا يسمعون أَمر المسيح - بطريقةٍ ما - ويُطيعونه!

+ أمَّا في قيامة الرب يسوع: فقد قال عـن نفسه: «لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يو 10: 18). وهذا ما يُفرِّق قيامة الرب يسوع عـن إقامـة الآخرين مـن الموت. فالذين أقامهم الرب يسوع، قاموا بقوَّة ليست من أشخاصهم؛ بينما الرب يسوع وحده قام بسلطان نفسه، أي بقوَّته الإلهية. وهـذا ما يُفسِّر أن هذه القيامة ليس لها مثيلٌ ولا قياس. كما أنها لا تُشابه أيَّة إقامـة سابقة أو لاحقة. وهـذا ما يُميِّز قيامة الرب يسوع عـن كـلِّ الإقامـات الأخرى التي أُقيمت بسلطان المسيح. أمَّا الرب يسوع فقـد قام بسلطان نفسه بقوَّة الله.

قيامة الموتى لم تكـن أثناء مـوت الرب يسوع: وعلى ضوء هـذا المفهوم، فقد يُفهَم من سَرْد إنجيل متى عـن لحظة دفن جسد يسوع: «وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ. وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيريِنَ» (مت 27: 53،52)؛ وهذا يعني أنهم قاموا، ليس قبل قيامة الرب يسوع، بـل بعد قيامته باعتباره ”باكورة الراقدين“ (1كو 15: 20).

+ هـذه القيامات كانت تُعتَبَر أنها سَبْق توقُّع لقيامة الأموات في الزمـان الأخير، كما كـانت علامةً ونبوءةً عن قوَّة قيامة الرب يسوع.

+ بينما كان كل هؤلاء الذين سبق أن أقامهم المسيح (أو الذيـن أقـامهم تلاميذ المسيح مـن الموت)، كانوا بمثابة ”سابقين“ أو كرمزٍ فقط، كما في إقامة ”طابيثا“ وغيرها (أع 9: 36).

+ أمَّا قوَّة قيامة المسيح فلم يكن لأحدٍ هـذه القدرة لإقامة جسده بنفسه.

+ وهكذا، فإنَّ ميلاد المسيح، وصَلْبه، ثم قيامته؛ كلها كانت مُترابطة معاً، كإشارة إلى فرادة وتميُّز قيامة المسيح على ”القيامات الأخرى“.

كان لابد من قيامة المسيح:

قيامة المسيح لم تكن مجرَّد إضافة، أو خاتمة عَرَضيَّة لـ ”قصَّة“ الإنجيل. إنها حَـدَثٌ حقيقي، ومؤكَّـد، وإعلان صِدْق تجسُّد المسيح، واكتمال غاية المسيح مـن تجسُّده، وهي إقامة البشرية مـن سقطتها، ودخولها إلى ”الحياة الأبديـة“ التي تُمثِّلها ”شجرة الحياة“ التي أُقيمت منـذ الخِلْقَـة الأولى للإنسان، ولكن مُنِعَت عن البشرية بسبب السقوط، وها قد أتى الوقت لفَتْح الطريق إلى الحياة الأبدية (تـك 2: 9؛ 3: 22؛ رؤ 2: 7؛ 22: 14،2): «وَهَـا أَنَـا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُـونُ عَمَلُهُ... طُوبَى لِلَّذِيـنَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ الْحَيَاةِ».

+ إن لم تكن قيامة، فالإيمان يضيع هباءً: لقـد كانت القيامة حَدَثاً أساسيّاً في تحديد معنى التاريخ، كما كَتَبَ القديس بولس: «إِنْ لَمْ يَكُـنِ الْمَسِيحُ قَـدْ قَـامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ» (1كو 15: 14).

+ الإنجيـل يعتمد على حَـدَث القيامة، لفَهم رسالة يسوع الذي هو المسيح ابن الله. لذلك أكَّد القديس بولس لاحقاً أيضاً: «وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ للهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ الْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ، إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ» (1كو 15: 15).

+ إنَّ الشهادة للمسيح والإيمان به، لا يمكن أن تكتمل بدون القيامة كحَدَثٍ واقع قائم.

+ المسيحية بدون القيامة أَمرٌ يدعو للرثاء: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!» (1كو 15: 17).

+ إنَّ اختزال المسيحية في مجـرَّد رجـاء بشري، هو أَمرٌ مرفوض بأقوى التعبيرات: «إِنْ كَـانَ لَنَا فِي هـذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَـإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيـعِ النَّاسِ» (1كـو 15: 19). رجاؤنا في المسيح يكتمل بإيماننا في قيامتنا مع المسيح.

مشاركة المؤمنين في قيامة المسيح

الإيمان بقيامة المسيح يحمل معه للمؤمنين، ليس تعليماً فقط، ولكـن ”قـوَّة“ لمَن يؤمـن. ويُلخِّصها الأب متى المسكين في كتاباته هكذا:

[القيامة كما اختبرها التلاميذ هي قوة جديدة عجيبة، دخلت إلى العالم وتسرَّبت إلى قلوب المؤمنين في فجـر اليوم الثالث مـن مـوت الرب، فبدَّدت أحـزان التلاميذ، وقَلَبَت يأسهم الشديد إلى فرح وبهجة وبشارة وإنجيل.

قوة القيامة كانت ذات كيان شخصي في المسيح.

قوة القيامة كان لها أثرٌ مباشر في رَبْط العالم الحاضر بالعالم الآخر.

قوة القيامة ذات فعلٍ مستمر في الإنسان لإقامته بعد الموت.](2).

ومن رسائل القديس بولس

نفهم معنى هذه القوَّة:

+ «... مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضاً، الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رو 4: 25،24).

+ فقـوة القيامة هي ضمانٌ وعربون لنوال خلودنا وحياتنا الأبدية مع المسيح (اقرأ الأصحاح 15 كله من الرسالة الأولى إلى كورنثوس).

+ وحتى الآن، فبقوة وفاعلية قيامة المسيح، فقد نلنا نعمة البلوغ إلى الحياة الجديدة، التي بها نستطيع أن نُطيع مشيئة الله في حياةٍ مُقدَّسـة طاهـرة بالمعموديـة: «فدُفنَّا معه بالمعموديـة وشاركناه في موته، حتى كما أقامـه الآب بقدرتـه المجيدة مـن بين الأمـوات، نسلُك نحن أيضاً في حياةٍ جديـدة» (رو 6: 4 الترجمة العربية الجديدة).

+ وهكـذا تُشكِّل القيامة أساس الرجـاء عند المؤمنين في مواجهـة المـوت، وذلك بالإيمان الراسخ في قيامة المسيح، بنجاة المؤمن من رهبة الموت وسُلطانه.

+ النتائج العملية في الإيمـان هي الرجـاء في القيامـة: الإيمـان بالقيامة هـو الذي يبثُّ الرجاء في القيامة مـن الموت. وبهـذا الإيمان يسعى المؤمـن إلى التحكُّم في شهوات الجسـد ما يؤدِّي به إلى تقديس السلوك والحياة.

+ أنْ يعيش الإنسان حياة القيامة يكون كمثل الذي ينهض من النوم إلى يومٍ جديد مُشرق بحياةٍ جديـدة، أو كمثل نائـم يستيقظ: «... أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ... فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّـورِ... بَـلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ» (رو 13: 11-14).

”ما بعد الموت“ في العهد القديم:

بالرغم من أنَّ الديانة اليهودية القديمة كانت تقبل - على نحـوٍ مُميَّز - المـوتَ كنهايـة لمحدودية الجسد البشري، إلاَّ أنه - وبالرغم من هـذا - فـإننا نجد في أسفار العهد القديم بعض التعبيرات عن ”الحياة بعد الموت“.

+ وبالرغم من أنه كان هناك الشكُّ فيما إذا كان أي رجاء في ”الحياة بعد الموت“ في العهد القديم؛ إلاَّ أنه من الضروري أن نوضِّح هذه النقطة:

بعض النصوص في العهد القديم عن الرجاء في القيامة: إن كلمة ”شيئول“ sheol العبرية في العهد القديم كانت تعني بالمعنى البسيط ”مَسْكن“ الأموات، ولكن دون أن تتضمَّن المناظر الأخيرة للدينونة. ولكن كان هناك في بعض أسفار العهد القديم بعض الشهادات: بأنَّ الله يمكن أن يُخلِّص النَّفْس من الموت: «الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. (وإلى عالم الأموات) يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ» (1صم 2: 6). هذه القيامة من الفناء تساوي، على نحوٍ مُميَّز، ما يفعله الرب مـن الإقامة من اللاشيء، ما ذُكِرَ بالتوازي مع ”إقامة المسكين من التراب، ورَفْع المحتاج من "كومة الرماد"، وولادة العاقر بعد يأس من الولادة“، ”يُعطي الحياة من الموت“ (1صم 2: 4-8 الاقتباسات من العهد القديم من الترجمة العربية الجديدة).

+ وفي سِفْر إشعياء يتنبَّأ: «تحيا موتاك وتقوم أشلاؤكم» (إش 26: 19).

+ وفي سِفْر الأمثـال: «فتُنقِـذ مـن عـالم الأموات حياتُه» (أم 23: 14).

+ وفي سِفْر أيـوب: «أَعرف أن شفيعي حيٌّ. وسأقـوم آجلاً مـن التراب. فتلبس هـذه الأعضاء جلدي، وبجسـدي أُعايـن الله. وتـراه عيناي إلى جانبي، ولا يكون غريباً عني» (أي 19: 25-28).

(يتبع)

(1) Ignatius of Antioch, Eph., 3, FC 1, p. 90.
(2) عن كتاب: ”القيامة والصعود“، الطبعة الخامسة: 2014، ص 16.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis