دراسة الكتاب المقدس


مقدِّمات الأسفار
- 40 -

ثالثاً: الأسفار الشعرية

1 - سِفْر أيـوب (2)

أقوال آبائية عن السِّفْر:

1. «رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ» (أي 1: 8): [كل واحدة من هذه النعوت كفيلةٌ بأن تُظهِر جمال أيوب. ولكن كمُحبٍّ يجمع التفاصيل لكي يصف الشخص الذي يُحبُّه، هكذا حدث هنا في هذه الحالة. ففي هذا النص يقول: «بلا لوم» أي أنه «كامل ومستقيم»، أو ”مستقيم“ وأيضاً ”كامل“، وأيضاً «يتَّقي الله»، وكذلك «يحيد عن الشرِّ». لاحِظ هذه الكلمات: ”يحيد عـن كلِّ شرٍّ“، أي ليس فقط عـن شرٍّ ما، ويتغاضى عن آخر. أين هم أولئك الذين يؤكِّدون أنَّ الطبيعة البشرية تميل إلى الشرِّ؟ فماذا عن الخوف، وماذا عن كراسي القضاء، وماذا عن القوانين التي جعلت أيوب هكذا؟](1) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

2. أيوب التَّقِي مُبارَكٌ من الله: [حيث إنَّ كثيرين كانوا يعيشون في أرض عوص، إلاَّ أنَّ أحداً لم يكن مُمكناً مُقارنته بأيوب من حيث تقواه وبراءته. كان ذا سِيرةٍ عالية، وكان ممدوحاً على كل لسان. ولكيلا يظنَّ أحدٌ أن هذه الأشياء قد أُغدِقَتْ على أيوب بفضل إمكانياته البشرية، فـإنَّ الله لم يسمح بأنَّ شيئاً من ممتلكاته أن يتلاشى. لذلك قال الله: ”مشيئتي أنـه حتى ولا شعرة واحدة تسقط، ولا أدنى خسارة؛ بل كـل شيء يستردُّه ويـزداد لأيوب“](2) - القديس أفرام السرياني.

3. أيوب اقتنى غِنًى داخليّاً: [انظُر كم كانت عظمة أيوب من حيث غناه الخارجي، إلاَّ أنَّ غناه الداخلي كان أعظم. الثروات المنظورة كانت عظيمة، إلاَّ أنَّ الثروات غير المنظورة كانت أكثر روعة، لأن‍ها تدوم. فالثروات المنظورة تشيخ، وتفقد قيمتها، وبالتقادُم تتناقص وتضمحل إلى حالةٍ مؤسفة من الفساد والانحلال](3) - القديس هيزيخيوس الأورشليمي.

4. نقاء أبناء أيوب: [هنا يُشدِّد الكتاب على عِظَم نقاء أبناء أيوب. بما أنَّ أيوب لم يُلاحِظ فيهم أيَّة خطية، فقد كان أيوب يُصعِد مُحرقات من أجل ما قد يكون قد بَدَرَ منهم في قلوب‍هم. كان أيوب حريصاً لئلا يكون الضعف البشري أو البلادة التي يتَّصف ب‍ها الشباب قد تحرَّكت فيهم. هذا هو أيضاً ما دعا القديس بولس يقول: «لَسْتُ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ فِي ذَاتِي. لكِنَّنِي لَسْتُ بِذلِكَ مُبَرَّراً» (1كو 4: 4). وال‍مُرتِّل يقول: «الهفوات مَن يشعر ب‍ها» (مز 19: 12). لذلك فإننا نثق في أنَّ أولاد أيوب لم يموتوا بسبب خطاياهم](4) - العلاَّمة ديديموس الضرير.

5. هجوم الكلدانيين وقوَّة العدو: [وهكذا لا يمكننا أن نَعتَبِر هذه الهجمات مُوجَّهة من الله مُباشرة. لقد ضَخَّم العدوُّ المأساة، كما هو واضحٌ من تعدُّد أنواع النكبات التي ذُكِرَتْ. ولكن، بما أنَّ أيوب كان تقيّاً، فربما قال: ”إنَّ الله هو الذي يضرب. ولذلك فيلزم أن أَكون مُحتمِلاً“. وبعد ذلك تكلَّم الشيطان مُعلِّقاً: ”انظُر، لاحِظ مـا هي أنواع البشر الذين يُهاجمونك. إنه ليس الله وحده الذي يُهاجمك“. تأمَّل قوَّة الشيطان الرهيبة والطريقة التي يُجنِّد ب‍ها مثل هذا القدر الكبير من الجماعات. لقد تقمَّص الشيطان أشكالاً كثيرة. فـإن كنتَ لا تُصدِّق في حقيقة العدالة الإلهية، فإنك تستطيع أن ترى قدرته في إعطاء القوات الشيطانية صورة مرئيَّة، حتى لـو كـان إبليس ليس في استطاعته أن يخلق هـذه القُوَى](5) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

6. نقاوة قلب أيوب: [يُفهَم من النصِّ قول أيوب: «عُرْيَاناً خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَاناً أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ» (أي 1: 21)، أنَّ أيوب لم يكن مُغطَّى بالجرائم والأعمال الشريرة، وأنه قد عاد ”عرياناً“، أي أنه قد عاد نقيّاً بريئاً إلى ”بطن أُمِّه“. إنه كان ثابتاً في استقامته المقدَّسة، حتى أنه يمكنك أن تتصوَّر أنه لم يتحوَّل قط عن صلاحه، ولا تَرَكَ فضيلته لِمَا هو إلى عكسها قط](6) - القديس أفرام السرياني.

7. معنى «احفظ نفسه»: [لقد سمح الرب بذلك من أجل منفعتنا، لكي يظلَّ أيوب مُمثِّلاً ومُعبِّراً وصورةً للاحتمال والصبر - كعامود وعلامة ثابتة - ولكي يصير ل‍مُعاصريه وسلالته رمزاً لهذه الفضيلة. ولا شكَّ أنَّ هذا قد حدث. ومِن هذا ال‍مُصارع والبطل نفسه يمكننا أن نسمع هذه الكلمات: «(هَأَنَذَا قَدْ أَحْسَنْتُ الدَّعْوَى). أَعْلَمُ أَنِّي أَتَبَرَّرُ» (أي 13: 18). لذلك فعندمـا سلَّمه الرب (ليد الشيطان)، قـال له: «وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ» (أي 2: 6). ويمكن فَهم هذه الفقرة هكذا: عادةً ما نرى حماقةً وتخبُّطاً في عقول الناس... الله وحده هو الذي يعرف الخفيَّات، ويَعلَم الأسباب التي تجعل هؤلاء البشر يُسلَّمون للاختبار ب‍هذه الطريقة. أمَّا ما يريد الرب أن يقوله هو هذا: ”لا تُربِكْ عقل أيوب، يمكنك أن تأخذ ما تُريد“: «أَبْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ»، «وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ»، التي قد تعني: ”لا تقتله“](7) – العلاَّمة ديديموس الضرير.

8. تجربة جديـدة تواجه أيوب: [والآن، بما أنَّ الخائـن قـد هُزِمَ في كلِّ معرفة، وفشل في كل محاولاته، وأُعيق في جميع أساليب صيده، وباءت كل مخطَّطاته بالفشل، وسائر فخاخه قد تمَّ كسرها، بعد إبادة ثروات أيوب، وبعد موت جميع أبنائه، وبعد تمزيق جسد أيوب بضرباته المتتالية؛ وختاماً، حسب ظـنِّ ال‍مُحتال (ال‍مُضلِّل)، فإنَّ السبيل الأكثر عنفاً أن يسوق زوجة أيوب ضدَّه (إذ قـالت له: «أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ اللهَ وَمُتْ (”العنْ الله ومُتْ“)!» - أي 2: 9) (فكان رَدُّ أيوب عليها: «تَتَكَلَّمِينَ كَلاَماً كَإِحْدَى الْجَاهِـلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَـلُ مِـنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّـرَّ لاَ نَقْبَـلُ؟» - أي 2: 10)](8) - القديس هيزيخيوس الأورشليمي.

9. «أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟»: [هذا النص يعني أننا إن كنَّا بالفعل نتلقَّى مصائب فقط، فإننا نحتاج أن نحتملها كل حين، فالله هو السيِّد والرب. أَلا يملك هو القدرة أن يمنحنا أي شيء؟ فلماذا نقبل منه الخيرات التي نتمتَّع ب‍ها؟! إنه لا يفعل هذا لأننا نستحقُّها. فالله حُرٌّ كلِّيةً أن يُرسل لنا أيضاً الآلام فقط. أمَّا إذا أَنعم علينا كذلك بالصالحات، فلماذا نشكو؟ لاحِظ أنَّ أيوب لا يتكلَّم في أيِّ وقت عن سيئات وصالحات، ولكنه يقول فقط إنَّ الله له القدرة أن يفعل مـا يشاء. تذكَّر السعادة السابقة، وسوف لا تجد أيَّ مشكلة في احتمال الصعوبات الحاضرة. إنه يكفي، كسبيل لتعزيتنا، أن نعرف أنَّ الربَّ هو الذي أرسلها لنا. فليتنا لا نتكلَّم عن عدالة الله أو عدم عدالته (فهو دائماً صانع الخيرات الرحوم)](9) - القديس يوحنا ذهبي الفم.

10. رأي أليفاز أنَّ أيوب قد أخطأ: [بينما يشهد الكتاب بروحه بجانب أيوب، أنه لم يقترف أي حماقة ضد الله، إلاَّ أنَّ أليفاز يفهم فهماً غير صحيح عن السبب الذي من أجله وقع ما وقع على أيوب (من ضيقات). فيعتقد أليفاز أنَّ أيوب يُعاني بسبب آثام اقترفها، ويظن أن الكلمات التي نطق ب‍ها أيوب هي بدافع غير مقبول مـن سلوكه! «أَلَيْسَتْ تَقْوَاكَ هِيَ مُعْتَمَدُكَ، وَرَجَاؤُكَ كَمَالُ طُرُقِكَ؟» (أي 4: 6). بحماقةٍ قال أيضاً أليفاز: إنَّ رجاءه في أنه يَحسِب نفسه باراً، لأنه لا يمكن أن تحلَّ مثل هذه العقوبات على رجُلٍ بار. ودعا أليفاز طريق أيوب: «(طريق) الْحَارِثِينَ إِثْماً، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً» (أي 4: 8). واستمر في اعتقاده أنَّ الرجل التَّقي (القديس) يُعاني الضيقات بسبب خطاياه. وهذا هو السبب أيضاً في كون أليفاز ينسب حماقة لأيوب](10) - العلاَّمة ديديموس الضرير.

11. أليفاز حدَّد المنظور الإنساني: [أقرَّ أليفاز أنَّ الله هو الحاكم والخالق لكلِّ الأشياء. فمِن المرجَّح أن له هذه القناعات. إنه رجل يمتلك الحكمة في الأمور البشرية. ولدى أليفاز أيضاً فَهمٌ للأمور التي تُرَى والتي لا تُرَى، طالما أنه يتكلَّم عن الأمور التي يَعْسُر اكتشافها، العظيمة والجليلة، وعن المياه والأمطار، إذ كان يُميِّز بين الماء الذي من المطر، فيلزم أن يكون مُدرِكاً للماء الذي مـن الآبار والذي مـن الجداول والذي من شقوق الصخور. ويمكن أن يجد المرء أفكاراً حكيمة جداً من هذا النوع في أماكن كثيرة من الكُتُب المقدَّسة، ليس أقلها في كتابات بولس الرسول، الذي كَتَبَ: «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى» (كو 1: 16). وهكذا يمكن لك أن تتصوَّر أليفاز أصبح خائفاً، كإنسانٍ، لِمَا حدث لأيوب البار. لذلك أُعجِبَ بأعمال العنايـة الإلهية. فبخصوص ”العجائب التي لا تُعَـدُّ“ (أي 5: 9)، فيمكن للمرء أن يُفكِّر في أنَّ أليفاز يتكلَّم من منظور إنساني، لأن الله يعرف كل شيء، فهذا ليس عجيبةً عنده. أَلم يَقُلْ سليمان: ”لأنه هو الذي أعطاني المعرفة الدائمة لِمَا هو موجودٌ، لمعرفة بنية العالم ونشاط العناصر، بداية ون‍هاية وأواسط العصور، وتبدُّلات الانقلابات“، وهكذا؟ لأنه حتى الأشياء التي لا يمكن حصرها بسبب طبعها غير المحصور، هي مُحصاة عند الله الذي قيل عنه: «ال‍مُحصي كثرة الكواكب» (مز 147: 4)؛ وأيضاً: «بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضاً جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ» (لو 12: 7). تلك المعرفة قد أُعطِيَت أيضاً لأولئك الذين يسعون لهذه المنفعة، كما قيل عن سليمان](11) - العلاَّمة ديديموس الضرير.

(يتبع)

(1) St. Chrysostom: Commentary on Job 1.1, PTS 35: 3.
(2) St. Ephrem the Syrian: Commentary on Job 1.1, ESOO 2: 2.
(3) St. Hesychius of Jerusalem: Homilies on Job 1.1-2 (412-450c), PO 42.1: 70.
(4) Didymus the Blind: Commentary on Job 1.5, PTA 1: 56-58.
(5) St. John Chrysostom: Ibid, 1.17, PTS 35: 24.
(6) St.Ephrem the Syrian: Ibid, 1.21, ESOO 2: 2.
(7) Didymus the Blind: Ibid, 2.6, PTA 1: 138.
(8) St. Hesychius of Jerusalem: Ibid, 4.2.9, PO 42.1: 138.
(9) St. John Chrysostom: Ibid, 2.10, PTS 35: 47-48.
(10) Didymus the Blind: Ibid, 4.6, PTA 1: 274-76.
(11) Didymus the Blind: Ibid, 5.9-10, PTA 2: 30-32.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis