دراسات كتابية


اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن

تكوُّن اللؤلؤ:

يتكوَّن اللؤلؤ في قـاع المحيط، داخـل حيوانٍ رَخَويٍّ صَدَفي هو ”المَحَار“، حيث يحدث أثناء سير هـذا الكائـن الرخوي أن يصطدم جسده الحسَّاس بجسمٍ صلب فيجْرَحَه جُرحاً يُسبِّب له آلاماً شديدة. ومـن خلال الجُرح يدخل جسم غريب - حبَّة رمل على الأرجح - بين الصَّدَفَة وجسده الرخوي، فينتج عـن ذلك آلامٌ شديدة وتهيُّج للجسم اللَّدن لهـذا الحيوان، الذي يقوم بإفراز سائل يُحيط بهـذا الجسم الغريب لعزله عـن جسده الحسَّاس، وهـذا السائل الذي يفرزه المحار هو ”سائل اللؤلؤ“.

لكن هذا بدوره يُسبِّب للمحار مزيداً من الآلام والتهيُّج، ينتج عنه مزيدٌ مـن إفراز السائل اللؤلؤي وتكوين نواة اللؤلؤة.

وبتكرار هـذا الأمر مرَّاتٍ عديـدة تكبر اللؤلؤة وتتراكم عليها طبقةٌ تلو الأخـرى إلى أن تصل إلى بهاء وجمال اللؤلؤة. وبقدر مـا يمكن لهـذا الكائن أن يحتمـل، قبل أن يقضي نَحْبَه مـن شدَّة الآلام، تكبر اللؤلؤة وتزداد قيمتها. وهكذا فعن طريق آلام وموت كائن حي (المَحَار) تتكوَّن اللؤلؤة.

مَثَل اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن:

في مَثَل ”اللؤلؤة“ قال الربُّ يسوع: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، فَلَمَّا وَجَـدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا» (مت 13: 46،45).

اللؤلؤة هي الجوهرة الوحيدة التي تنتج مـن كائنٍ حيٍّ. فعندما اختار المسيح جوهرةً لمَثَله، لم يَخْتَرْ أيَّة جوهرةٍ أخرى كالياقوت أو الماس، بـل اختـار ”اللؤلؤة“ التي هي استجابـة آلام المَحَار الذي ليس له أيَّة وسيلة للدفاع عـن نفسه، لطرد ما يؤذيه ويؤلمه؛ إلاَّ تحويل هـذا الشيء المؤذي والمُهيِّج له (حبَّة الرمل) إلى لؤلؤة تتكوَّن داخله.

هنا نـرى شخص المسيح في تـلك الكلمـات البارزة: ”إنسان“، ”يطلب“، ”وَجَدَ“، ”مضى“، ”باع“، ”اشترى“. فالكنيسة لؤلؤتـه الكثيرة الثمـن، مُقتناه، هي مِلْكه الخاص. وكـم عانَى المسيح لكي تتكـوَّن الكنيسة، كم هي كُلْفَة المحبة التي تكلَّفها المسيح، من المجد إلى المهد، ومـن المهد إلى اللَّحد. تفكَّروا في رحلة المُعاناة فوق الأرض من مذود الأبقار، مروراً بدُكَّان النجَّار، انتهاءً بصليب العار، والقبر المُستعار!

”الكنيسة“ تأسَّست من خلال آلام الرب:

لقـد تألَّم ربنا يسوع عندمـا دخله ذلك الجسم الغريب عنه تماماً، أعني به الخطيئة، عندما «جَعَلَ (الله) الَّـذِي لَمْ يَعْـرِفْ خَطِيَّـةً، خَطِيَّـةً لأَجْلِنَا... (و) وَضَـعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (2كـو 5: 21؛ إش 53: 6)؛ وهـو القدُّوس الذي لم تعتريـه الخطيئة البتَّة. لقد صرخ المسيح من هول الآلام قائلاً: «إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَـرَكْتَنِي؟» (مـت 27: 46)، وأخيراً «سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ» (إش 53: 12). وعن طريق تلك الآلام الكفَّارية الرهيبة تكوَّنت الكنيسة: ”اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن“.

وعلى قَـدْر إمكانية المَحار على تحمُّل الألم، تكبر اللؤلؤة، وتكـون قيمتها أعظم. وربُّنا يسوع تحمَّل آلامـاً فائقة الوصف: معاناتـه النفسية في جثسيماني، جسده المُخضَّب بالجروح والجلدات، عطشه، وساعات الظلمة، بـل كما قـال الكتاب: «وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أف 5: 25). ولذلك فحجم هذه اللؤلؤة ”الكثيرة الثمن“ كبيرٌ وعظيمٌ.

فمِـن جـروح الرب وجنبـه المطعون على الصليب، خرجت الكنيسة بهـذا الجمال والبهاء، جمال وبهاء ابن الله الذي تألَّم ومات وقام «لِكَيْ يُحْضِرَهَـا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ» (أف 5: 27)، قـال عنها الملاك ليوحنا الرائي: «”هَلُمَّ فَأُرِيَكَ الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوفِ“... لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْـرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ» (رؤ 21: 9-11).

فرغم أن أصل اللؤلؤة هـو جسمٌ غريب في عُمْق المحيط والطين والوحـل (الخطيئة)، لكـن جـاء المسيح وانتشل لؤلؤتـه: «أَصْعَدَنِي مِـنْ جُـبِّ الْهَلاَكِ، مِـنْ طِـينِ الْحَمْأَةِ، وَأَقَـامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ» (مز 40: 2).

ولا أحد يرى اللؤلؤة وهي تتكوَّن، فهي تتكوَّن في الخفاء في أعماق المحيط. ومَن يستطيع أن يـرى أيـن وكيف تتكـوَّن الكنيسة؟ هناك مَـن يتعـرَّف على المسيح في السجون والمستشفيات، في الصحاري النائية والقُرَى البعيدة. هناك مَـن يتعرَّفـون على المسيح على فراش الموت، بـل وفي لحظات الاحتضار. فكما تتكوَّن اللؤلؤة بعيداً عن الأعين، كذلك الكنيسة أيضاً.

قصة الألم حتى الموت:

إنهـا قصة الألم حتى المـوت، ومـا احتمله المسيح لأجلنا: «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَـدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (1بط 2: 24). واللؤلـؤة التي تكوَّنت في أعماق المحيط تحتاج إلى غوَّاصٍ ماهـر ينزل إلى الأعماق لكي يُخرجها، والمسيح نفسه هـو ذلك الغوَّاص الذي نـزل إلى أعماق المياه والسـيل غَمَره (مـز 69: 2). وبعـد أن تخرج اللؤلؤة، تحتاج إلى التاجر الذي يُقدِّر ثمنها ويطلبها. والمسيح نفسه هو ذلك التاجر الذي دفع فيها أغلى ثمن، إذ مضى وباع كـلَّ شيء لكي يشتريها. لقد رَضِيَ بكلِّ هذه الآلام، وضحَّى بكلِّ شيء لكي لا يفترق عـن كنيسته التي أحبها، بل وفي الأبديـة السعيدة سـوف «يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ» (لو 12: 37).

مـا هـذا إلاَّ محبَّة أبدية. إنها مقاصد النعمة الأزلية، ومشورات المحبة الإلهية من نحونا. فقد اختارنا لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، وأن نكـون أبناء للآب المُحِبِّ، مُشابهين صورة ابنه، في ذات مجـده. وسيُظْهِر في الدهور الآتية لجميع خلائقه غِنَى نعمته الفائـق، على الكنيسة لؤلؤته الكثيرة الثمن.

فما أعظمك، يا إلهي؛ حقّاً لو حِـبْراً كـلُّ يَمٍّ، وورقاً كلُّ الفَلَك، وكلُّ عُشْبةٍ قَلَم، والكلُّ في الوصف اشترك؛ ما كتبوا مـا وصفوا محبَّة الحبيب، فـاقَت سَمَت، فَاضَت طَمَت، مقدارُهـا عجيب. فله المَدْح والغِنَى والكرامـة والمجـد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور، آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis