قضايا
إيمانية



قضية الألم والمرض
- 1 -

لا تخلو حياة البشر مـن الآلام والأمـراض، يُقاسيها الكـل: كباراً وصغاراً، أبراراً وخطاةً، أغنياء وفقراء. وعندمـا نأخـذ في الاعتبار أنَّ الآلام والأمـراض متنوِّعـة، فهي ليسـت فقط جسدية، وإنما هي أيضاً نفسية وروحية، فلن يفلت من اختبارها أحدٌ.

وفي الكتاب ما يُشير إلى أنَّ الآلام هي مـن صميم حياة البشر. فمُعلِّمنا بولس، وهـو يُبشِّر مع برنابـا في لسترة، وجاءهما كاهـن زَفْس بثيران وأكاليل يُريد أن يذبح لهما بعد شفاء المُقعد؛ صاحا في الجمع قـائلَيْن: «نَحْـنُ أَيْضاً بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُـمْ» (أع 14: 8-15). ومُعلِّمنا يعقـوب يكتب عـن إيليا النبي، الذي صلَّى فمنع المطـر، أنـه: «كَانَ... إِنْسَاناً تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا» (يع 5: 17).

على أنَّ النظرة المتأنِّية تكشف لنا أنَّ الآلام والأمراض، في الأغلب الأعم، ليس هي ما يسود الحياة، بل إنـه الاستثناء. فالأفراح والنِّعَم كثيرة. والناس يحبُّون الحياة، ومـن أجـل استمرارهـا يقبلون ما يأتي عليهم من آلام أو أمراض إلى أن تَعْبُر وتُشرق شمس الهناء والقوَّة مـن جديـد. والذيـن تضيـق بهم الحياة حتى أنهـم ينهونها بإرادتهم قليلون، غلبهم المرض النفسي وضغوط الأيام، أو سئموا حياة الرفاهية واليُسر. ومع هذا فهناك مَن يولدون ومعهم آلامهم وأمراضهم من المهد إلى اللَّحد. وهناك مَن تسود حياتهم المُعاناة من كلِّ نوع، وأفراحهم قليلة مُتباعدة. ومِن هؤلاء مَن يعيش راضياً قابلاً، ومنهم مَن يغلب نقصه وعاهته بإرادة التحدِّي.

+ هل مِن وجه إيجابي للآلام؟

رغم قسوتها أحياناً، فإنَّ للآلام أيضاً وجهها الإيجابي:

+ فالشعور بالألم الجسدي في حدِّ ذاته علامةٌ إيجابية على أنَّ الجهاز العصبي يعمـل بكفاءة. فـالمخ يستقبل الإشارات الواردة مـن العضـو المُصاب خلال النخاع الشوكي، ويُعلِن بالألم عن الأمر للتصرُّف بردِّ فعلٍ سريع. فالشخص الأشلُّ لا يشعر بالألم؛ وهكذا فـإنَّ عدم الشعور بالألم ليس أمراً طيِّباً دائماً.

+ إنَّ الألم والوجع في أحد أجزاء الجسم نداءٌ واستغاثة للنجـدة بتناول الدواء، أو الذهـاب إلى الطبيب للعـلاج، أو التدخُّـل الجراحي (مثل ألم الأسنان أو الذبحة الصدريـة). بل إنَّ غياب الألم في بعض الحالات يمكن أن يُبدِّد فرصة الإنقاذ لو لم تتوفَّر أعـراض أخرى يُدركها الطبيب الماهر وأجهزتـه (مثلاً في حالة الجلطة الصامتةsilent infarction).

+ بالألم والمرض نُدرك أننا كنَّا نتمتَّع بصحةٍ جيدة قبل أن تُداهمنا الأزمة بما يكشف لنا الحقيقة التي لا ننتبه إليها. وكما يقولون: ”الصحة تـاجٌ على رؤوس الأصحَّاء، لا يراه إلاَّ المرضى“.

+ آلام الآخريـن توقِظ فينا مشاعر الأُخـوَّة الإنسانية للمُشاركة والتعاطُف والخدمـة. والربُّ طوَّب خدمة المرضى وجعلها كأنها مُقدَّمة له هو، وأنَّ لها دورهـا في تمجيد المؤمنين في اليـوم الأخير (مت 25: 40،39،36).

حقّاً استثارت آلام البشر أفضل ما في البشر، سواء بالتدخل لتخفيف مُعاناتهم بابتكار الدواء أو الوسائل الجراحية، أو بالتبرع بالأعضاء لاستبدال الأعضاء التالفـة (كـالكبد والكلية)، أو بالتبرع المادي لخدمة البحوث التي تتصدَّى للأمراض، أو بإقامة المستشفيات المجانية لعلاج الفقراء، أو بتشكيل القوافـل الطبيَّة التي تذهب إلى المناطق الموبوءة أو مواقع الكوارث (مثل منظمة ”أطباء بلا حدود“ الذيـن يخدمون الكل بغير تمييز)، أو بالتدخـل لعلاج جرحَى الحروب وإنقاذ النازحين من مناطق المعارك (كمؤسَّسة ”الصليب الأحمر“ التي أُنشئت خـلال القـرن التاسع عشر لتخفيف الآلام عـن ضحايـا الحروب، والتي تتـنقَّل في أرض المعارك بين كـل الفُرقاء بغير تمييز)، أو بإقامـة بيـوت المُسنِّين للعنايـة بكبار السنِّ في شيخوختهم، ورعايـة الميئوس مـن شفائهم حتى خروجهم من الحياة بسلام.

بـل إنَّ إنشاء ”الأُمـم المتحدة“ بعـد الحرب العالمية الثانية، كـان دافعه مَنْع الحـروب، بعد المُعانـاة والخـراب وهـلاك البشر (50 مليون ضحايا هـذه الحرب)، والتدخل السريع لإحلال السلام في المناطق المُلتهبة؛ بـل وإنشاء قـوَّات حِفْظ السلام للفصل بين المُتحاربين وضمان عدم استئناف المعارك.

+ عن الأسباب الطبيعية للآلام والأمراض:

+ ببعض التأمُّل قـد نجد للآلام - خاصة الجسديـة - أسبابها الطبيعية. فالعيوب الجينية والأمراض الوراثيـة تؤثِّـر على الأجنَّـة أثناء تكوينها بما يؤدِّي إلى ولادة أطفال مرضى أو ذوي عاهات.

+ كما أننا لا نحيا وحدنا، بل تُشاركنا حياتنا كائنات أخرى بعضها ضار ويمكن أن تُهاجمنا، إذا تراجعت مناعتنا، فنُصاب بالمرض، ومنهم مَن هو ناقلٌ للمرض. كذلك فإنَّ البيئة من حولنا تؤثِّر فينا كما نوثِّر فيها. فالذين يعيشون في بيئاتٍ فقيرة يسودهـا التلـوث، مُعرَّضـون للأمراض أكثر من غيرهم. والصحة يلزم حمايتها بالتغذية المُناسبة والوجود في بيئاتٍ نظيفة، وأيضاً بأَخْذ الاحتياطات أمام التقلُّبات الجوية، وهذه خاضعة لقوانين الطبيعة التي تضمن سلامة الكون وسلامة حياتنا.

+ بعض آلام الجسـد نُسبِّبها نحـن لأنفسنا عندما نتخلَّى عـن حذرنـا، فنتعرَّض للحوادث، وبعضها نجوز فيها عندما نكسر نواميس الطبيعة. فالذي يضع يده في النار ستحترق، والذي يلمس سلك الكهربـاء غير المعـزول سيُصعَق، والذي يحمل أكثر من طاقته سيسقط.

+ قد نتألَّم نفسيّاً وروحيّاً من أجل الآخرين البعيدين عن طريق الله، أو الذين يُعانون المِحَن بـأنواعها، وهي آلام مقبولـة لأن دافعها الحب ورِقَّة المشاعر، ولـن تُنسَى قدَّام الله. وقـد عبَّر القديس بولس عن أنَّ له ”حُزناً عظيماً ووجعاً في قلبه لا ينقطع“ من أجل إخوته اليهود الذين ظلُّوا يرفضـون الإيمـان بشخص الربِّ الذي جـاء لخلاص اليهود والأُمم معاً (رو 9: 2-5).

+ الخطية كمصدر للألم:

في الكتاب المقدَّس ارتبط الألم بالسقوط مـن النعمة وفقدان البراءة الأولى والتغرُّب عـن الله. ومـع الصفحات الأولى من سفر التكوين، نقرأ كلمات: اللعنة والأتعاب والوجـع، في قول الرب لأَبـوينا الأوَّلَيْن بعد عصيانهما للوصيـة، فقـال لحـواء: «تَكْثِيراً أُكَـثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَـعِ تَلِدِيـنَ أَوْلاَداً»؛ وقـال لآدم: «مَلْعُونَـةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُـلَّ أَيَّـامِ حَيَاتِـكَ. وَشَوْكـاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُـلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً» (تك 3: 16-19).

صـار، إذاً، الألم والتعب والجهد، عناصـر أسـاسية في حيـاة الإنسان، بعـد حيـاة السلام والشركـة مـع الله قبل السقوط. وأصاب النقص والضعف والقصـور طبيعـة الحيـاة، وخضع الإنسان لسطوة المرض وقسوته.

+ بعض الآلام تأتينا من الآخرين عَرَضاً أو عَمْداً، بدافع الشرِّ، كمَن يعتدي علينا ويؤذينا أو يظلمنا أو يضطهدنا بكلِّ نوعٍ.

+ كما قد نتسبَّب نحن، في آلامنا وأوجاعنا وأمراضنا الجسدية والروحية، بأكثر مِمَّا يُصيبنا من غيرنا، بانحرافنا نحو الشرِّ والخطية:

+ فـانجذابنا إلى شهوات الجسد والعيـون، يُدمِّـر الكيان، ويُسبِّب التعاسة والانقسام والحُزن بعد البدايـة الخادعة. وداود النبي والملك عانَى الآلام والانكسار بعد اشتهائه ”بثشبع“ وتورُّطه في قتل زوجها ”أوريـا“ بقلبٍ بارد، وأصاب التفكُّك بيتـه (2صم 11 وما بعده)، ولم يُنقذه غير توبته وانسحاقه. ومكتوبٌ عـن شهوة الجسد بالذات: «طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى، وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ» (أم 7: 26). والكتاب يحثُّنا أن نهرب من ”الشهوات الشبابية“ (2تي 2: 22).

+ و”محبة المال“، كما يقول الكتاب: «أَصْلٌ لِكُـلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَـوْمٌ ضَلُّوا عَـنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَـاعٍ كَثِيرَةٍ» (1تي 6: 10). والذي يُسيطر عليه ”تعظُّم المعيشة“ ويلهث وراء المال واكتنازه، كمَن يشرب من ماء البحر؛ فهو أبداً لن يرتوي. مِن هنا حذَّرنا الرب من ”الطمع“ (لو 12: 15)، الذي يصفه مُعلِّمنا بولس أنه ”عبادة أوثان“ (كو 3: 5).

وقد ينتهي حُب المال الشديد إلى البُخل. فيكنز الغَني الغبي ماله ويضـنُّ بـه على نفسه وعلى أهله، فيحيا حياةً فقيرة تعسة رغم توفُّر ماله.

+ الكبرياء والتعالي على الآخريـن والسعي للمكان الأول والطموح المَرضي، كلها مصـادر للأوجـاع، فكلما ارتفعنا كـان السقوط عظيماً. ومكتوبٌ في سِفْر الأمثال: «قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ» (أم 16: 18). كما أنَّ الأنانية وحُب الذات والاعتداد بالرأي، يؤدِّي إلى الانقسـام والاختـلاف والآلام النفسيَّة على مستوى العائلة والكنيسة والجماعة.

+ الإدمـان للعادات الرديئة، كـالتدخين أو السُّكر أو المخـدرات أو القمار، كـلها مصادر للآلام وانحدار الحياة وتدمير الكرامـة الإنسانية. والكتاب يُحذِّرنـا: «لاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَـةُ» (أف 5: 18)، «لِمَـنِ الْوَيْلُ؟ لِمَـنِ الشَّقَاوَةُ؟ لِمَـنِ الْمُخَاصَمَاتُ؟ لِمَـنِ الْكَرْبُ؟ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟ لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ؟ لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْرَ» (أم 23: 30،29).

+ الحنق والغضب والانفعال غير المنضبط، يمكن أن يؤدِّي إلى تداعيات ضارة، ليس فقط على الآخر، وإنما أيضاً على صاحبه سواء نفسيّاً أو جسديّـاً (مـا يُسمَّى بالتأثيرات النفس جسديَّة psychosomatic)، كما يُفقـده علاقته بالآخرين حتى أقـرب النـاس إليـه: «الْغَضُـوبُ يُهَيِّـجُ الْخُصُومَةَ» (أم 15: 18).

+ ويتَّصل بما سبق الخصام وحُب الاختلاف والنزاع العنيف، فصاحبها فاقـدٌ للسـلام وهـدوء النفس ولا يعـرف الراحـة. والكتاب يـوصينا: «وَالْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّـةُ وَالسَّخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا، عَالِماً أَنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَـاتٍ، وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ» (2تي 2: 24،23)، وأن نتجـنَّب أيضاً أصحـاب «مُمَاحَكَاتِ الْكَلاَمِ، الَّتِي مِنْهَا يَحْصُلُ الْحَسَدُ وَالْخِصَامُ وَالاِفْتِرَاءُ وَالظُّنُونُ الرَّدِيَّـةُ» (1تي 6: 5،4).

+ نحـن نتعرَّض للمشاكل بتدخُّلنا في شئون الغير، كما قـد نتسبَّب في اتِّساع هوَّة الخلاف بين الناس بالحديث عنـه وإذاعته والثرثـرة الفارغـة والاغتياب عالمين أنَّ «كَثْرَةُ الْكَـلاَمِ لاَ تَخْلُو مِـنْ مَعْصِيَةٍ، أَمَّا الضَّابِطُ شَفَتَيْهِ فَعَاقِلٌ» (أم 10: 19). والكتاب يُحذِّر المؤمنين مـن «الْقَبَاحَـةُ، وَ... كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ» (أف 5: 4).

+ ثم يبقى أنَّ الخضوع للهموم والانحصار فيها، دون طرحها أمام الله، هـو مصدر للتعاسة وفقدان السلام، ووصية الكتاب في هـذا المجال: «أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُـوَ يَعُولُكَ» (مـز 55: 22)، «مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّـهُ هُـوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (1بط 5: 7).

دكتور جميل نجيب سليمان

(بقية المقال العدد القادم)

**************************************************************************************************

دير القديس أنبا مقار

بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي:

21.130.153

دير القديس أنبا مقار

بنك كريدي أجريكول مصر - فرع نادي القاهرة

**************************************************************************************************

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis