الافتتاحية



الطريق إلى ملكوت الله
- 20 -

معجزة شفاء المرأة المنحنية(1)

إنجيل يوم الخميس من الأسبوع الخامس من الصوم المقدس

المزمـور: «17اصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ، فَيَرَى ذلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزَوْا، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي» (مز 86: 17).

الإنجيل: «10وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ، 11وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. 12فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: ”يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ“. 13وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ. 14فَأَجَابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ، وَقَالَ لِلْجَمْعِ: ”هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبتِ“. 15فَأَجَابَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: ”يَا مُرَائِي، أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ 16وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ إِبْرَاهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟“ 17وَإِذْ قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ» (لو 13: 10-17).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

موضوع إنجيل قدَّاس هذا الصباح هو موضوع الساعة، وهو يخصُّ البشرية كلها، وبالتالي يخصُّ الكثيرين منَّا: «وإذا امرأةٌ كان ب‍ها روحُ ضعفٍ ثماني عشرة سنة، وكانت مُنحنية ولم تقدر أن تَنْتَصِبَ البتَّة». فما كانت تُعانيه هذه المرأة هو مرض العصر. وكان تشخيص المسيح العارف بكلِّ شيء، لهذا المرض، أنه روح ضعف. وكلمة ”روح“ هنا ليس معناها ”مرض“، بل ”روح ضعف“، ”روح غريب“ في المرأة.

أمَّا الأعراض فكانت الانحناء، بمعنى أنَّ وجهها كان مُتَّجهاً إلى الأرض. وكأن المسيح كان يصف الأُمَّة اليهوديـة، وهي مُنحنية أو مُنكفأة على ذات‍ها ووجهها إلى الأرض. فهذه الأُمَّة اليهودية تنبش في الأرض مـن أجل الأرض، وقد تركت عنها السماء وأبناء السماء؛ وكذلك كل نفس قد انحنت إلى الأرض، وأخفت وجهها عن الله، هذه النفس فيها ”روح ضعف“. البشرية كلها مُنحنية، والإنسان - في معظمه - قد انحنى تجاه الأرض لأن فيه ”روح ضعف“. وما يهمُّنا في هذا الموضوع هو: ”نحن“.

الشيطان رَبَطَ المرأة بروح ضعف:

والذي قاله الرب عن هذه المرأة: «قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة». ”قد ربطها الشيطان“، هذه عبارة جديدة علينا وغريبة ولكنها مُتداولة. فالشيطان هو روحٌ عاقل، له قوَّة عقلية ومستَبِدَّة. مدخل الشيطان الأساسي في الإنسان هو الفكر، لأن الشيطان هو قوَّة عاقلة، يستطيع أن يتغلغل داخل عقل الإنسان. ففكر الإنسان هو المدخل الوحيد الذي يدخل منه الشيطان. ومِن المعروف أنَّ الفكر هو مركز النفس، الفكر هو المركز ال‍مُحرِّك لأعماق النفس، والنفس هي ال‍مُحرِّك للجسد كله.

فالشيطان يطغى على فكر الإنسان، وحينما يدخل إليه ويُمسِك بالفكر، يكون قـد مَلَكَ زِمام النفس. ومعروفٌ أنَّ النفس لها سلطانٌ مؤثِّر على الجسد.

مثالٌ واقعي:

قد تكون هناك فتاةٌ يُريدون أن يُزوِّجوها برجلٍ قَسْراً، بدون رغبتها، وهي فتاة ليست بعيدة عن الله، وهي ذات صفاتٍ حسنة وجيِّدة. ولأن‍ها لا تقدر أن تُقاوم رغبات أهلها، لذلك يجدون‍ها بغتةً قد فَقَدَت بصرها، ولم تَعُد ترى بعد. وعندما يعرضون حالتها المرضية على طبيب مُتخصِّص، وبالكشف على عينيها، يجد الطبيب أن‍هما سليمتان تماماً وهي لا تُعاني مـن أيِّ مرض. لكنها بالفعل لا تُبصر، فماذا حدث لها؟ في هذه الحالة، ترفض الفتاة أن تتزوَّج هذا الرجل، أو حتى تنظر إليه، والنفس هنا حارسة للجسد - بحسب طبيعتها - والله خلق في النفس مواهب مُتعدِّدة لتحرس الجسد من الأعمال التي لا ترغب فيها. النفس أكبر صديق للإنسان عندما يوفي لها الأمانة. وفي هذه الحالة التي نعرضها، قد أَمَرَت النفسُ مركزَ البصر في المخ بالتوقُّف، ومِن ثمَّ لا ترى العينيان أيَّ شيءٍ، حتى ضوء الشمس. ولكن إذا رُفِضَ الشخص الذي كان يريد أن يتزوَّج الفتاة، حينئذ تعود إليها قوَّة الإبصار.

ونقرأ في الإنجيل مثل هذه الحالة، في قصة: ”المجنون الأعمى الأخرس“ (مت 12: 22)، الذي استحوذ الشيطان على عينيه ولسانه. وهنا قد هيمن الشيطان على عقله، وكذلك سيطر على نفسه، لدرجة أنَّ النفس تأمر الجسد بعدم الإبصار وكذلك بعدم التكلُّم. ولكن في هذه الحالة، شَفَى الرب يسوع هذا الإنسان «حتى إنَّ الأعمى الأخرس تكلَّم وأبصر».

سيطرة الشيطان على الفكر:

نقول: إنَّ الفكرَ مُتاحٌ أمام الشيطان، وعندما يدخل الشيطان في العقل، فإنه يضع في الفكر عنصراً غريباً، فيجعله يشتهي الزنا، يشتهي السرقة، يشتهي القتل... إلخ. وما دام الفكر يقبل هذه الإيحاءات الشريرة، فإنه يتشبَّع ب‍ها. وعندما يسمح الإنسان للشيطان أن يدخل عقله ويُهيمن عليه، فإنه يبثُّ فيه رويداً رويداً هذه الأفكار الشريرة.

وعندما يُمسِك الشيطان بفكر الإنسان، فحينئذ يتلوَّث الفكر. فالشيطان يُسيطر على الفكر عندما يسمح له الإنسان بالدخول إلى عقله، وعندئذ يُسيطر الفكر على النفس، والنفس تُعطي أوامرها للجسد. النفس تُريد - في طبيعتها الأصلية - أن تحمي الإنسان، فتجعل الجسد يخضع لإيحاءات الفكر. فيمكن للعينين ألاَّ تُبصر ما لا تريد أن تراه؛ وكذلك يمكن لأطراف الإنسان أن تُشَلَّ حتى لا يذهب إلى الأماكن التي لا يُريد الذهاب إليها، أو لا يعمل ما لا يُريد أن يعمله؛ وأيضاً يمكنه أن يفقد النُّطق عندما لا يُريد أن يتكلَّم عن موضوعٍ ما أو مع شخصٍ ما. ولكن عندما يُهيمن الشيطان على فكر الإنسان، يُسيطر أيضاً على النفس، وبدلاً من أن تحمي النفسُ الإنسانَ مِمَّا لا يُريده، إذا ب‍ها تُحفِّز الجسد أن يمتنع عن بعض وظائفه الحيوية، ليس بغرض خير الإنسان، وإنما لضرره.

فإذا امتلك الشيطانُ الفكرَ، وهيمن على النفس، وسيطر على الجسد، حينئذ لا يتبقَّى للإنسان شيء. وب‍هذا الأسلوب أو هذا المدخل يدخل الشيطان إلى العقل ويُسيطر على الإنسان تماماً، وهذا ما قرأناه في إنجيل هذا الصباح: «رَبَطَها الشيطان».

وفي الحقيقة، كان في أيام المسيح، يعمل بعض رؤساء الكهنة اليهود في أذيَّة الناس عن طريق عملهم مع الشياطين، وفي أعمال السِّحْر والشعوذة. لذلك نجد أحداثاً كثيرة يظهر فيها عمل الشيطان، إذ كـان الشيطان حُرّاً طليقاً في دخوله للإنسان عندما يسمح له الإنسان بذلك، وكانت له فُرَصٌ سانحة في مهاجمة الناس، ولا يوجد مَن يردعه!

الشيطان يعمل في زماننا هذا بصورة مست‍ترة:

في زمان المسيح، كان الشيطان يعمل بصورة ظاهرة، وكان ينتهي بالسيطرة على الجسد: فنجد إنساناً أعمى بفعل الشيطان، وآخر أخرسَ بعمل الشيطان، وثالث مشلولاً بتدخُّل الشيطان. فجميع هذه الأمراض وأعراضها كان يمكن أن يصطنعها الشيطان، عندما يملك على الفكر والنفس والجسد، إذ كان يمتلك حياة الإنسان كلها. أما في زماننا هذا، فهو يعمل ولكن ليس بصورة ظاهرة، وإنما بصورة مست‍ترة: لا يعمل كثيراً على مستوى الجسد، وإنما يُركِّز عمله على مستوى الفكر وتلويثه.

فالشيطان يقوم بجَعْل الإنسان يُفكِّر في الماضي ويَحِنُّ للماضي ولأفراحه ومسرَّاته، ويُضخِّم في هذا الماضي مع أنه كذبٌ في كذب؛ ذلك في الوقت الذي يُهوِّل فيه من الحاضر وأتعابه ومصاعبه وعقباته. فتكون النتيجة أنَّ الشيطان يعزل الإنسان عن الواقع الذي يعيشه، يفصله عن الحياة، يُبعده عن مستقبله وعن السعادة الحقيقية؛ ويجعله يعيش في أوهام الماضي الذي انتهى وعَبَرَ ولم يَعُدْ بعد.

مرض العصر الحديث:

هذا هو مرض العصر الحديث، عندما يدخل الشيطان في حياة الإنسان بصورة أفظع، فهو يجعل نفس الإنسان مُنحنية، وليس الجسد. فانحناء النفس، لا يستطيع إنسانٌ أن يُلاحظه، وبالتالي ليس له علاجٌ فعَّال. وهذا ما يُعاني منه العالم كله: معاناة في الصناعة، والزراعة، والتجارة؛ وأيضاً في أمور الإنسان الشخصية: في الزواج وفي الطلاق؛ وتُعاني منه بعض الكنائس عندما لا يرتادها إلاَّ القليل؛ وهكذا تُعاني منه الخدمة.

فالشيطان يعمل في فكر الإنسان، وهذا هو مدخله الذي لا ينتبه إليه الإنسان. وحينئذ يُلوِّث الفكر، والفكر يسيطر على النفس، وبالتالي على حياة الإنسان كلها. وهذا ما يواجهه العالم في هذه الأيام، وهي حالة عدم القدرة على مواجهة الرجوع إلى الوراء، إلى الماضي.

المسيح وحده هو الذي يفكُّ رباطات الشيطان:

ولكن، نشكر المسيح، فإن كانت للشيطان فرصةٌ على الإنسان لربطه، وفُرَصٌ على العالم لتقويضه، فلنا مَنْ يفكُّ ويحلُّ هذه الرباطات. فالرب يسوع المسيح أَخَذَ على عاتقه أن يحمل أحزاننا ويتحمَّل أوجاعنا: «أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها» (إش 53: 4)، إذ قال: «نفسي حزينة جداً حتى الموت» (مت 26: 38). وكلمة ”حَمَلَ“ أحزاننا: تعني في اللغة اليونانية: ”لَبِسَها“, ”رفعها على كتِفِه“، ”حملها على نفسه“. أمَّا ”أوجاعنا“ فتعني ”أمراضنا“، أي آلام المرض. وكلمة ”تحمَّلها“ تعني في اللغة اليونانية: ”تألَّم ب‍ها“.

فالمسيح، تألَّم من أجل أوجاع الإنسان، فقد رَفَعَ الألم ليتألَّم هو به. وهذا ما يُشجِّع أي إنسانٍ متألِّم، فعليه أن يرتمي في حضن المسيح، وحينئذ يحمل المسيح أحزان الإنسان وأوجاعه. ولا يمكن أن تبقى على الرب يسوع خطية الإنسان أو أوجاعه أو آلامه، فهو يحملها: «حَمَل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 2: 24)، ولكنه يرفعها عنَّا ويجعلها كلا شيء.

في الكنيسة الأولى، كانت توجد أوشية تطلب من أجل الذين عندهم موهبة إخراج الشياطين، تُسمَّى أوشية ”ال‍مُعزِّمين“؛ ولكنها مع توالي السنين سقطت من صلوات الكنيسة، بالرغم من بقاء ”أوشية المرضى“، وكثيراً من الأواشي الأخرى.

وأنا أتساءل: هل الشياطين تناقصوا؟ هل الأمراض قلَّت؟ هل الرباطات الشريرة ضَعُفَت؟ فلماذا، إذن، لا تعود الكنيسة تُصلِّي هذه الأوشية؟! وأنا قـد بحثتُ فوجدتُ طلبةً تُقال في أسبوع الآلام، يطلب فيها الكاهن من الرب أن يحلَّ رباطات الشياطين، وهي الصلاة الوحيدة التي تُقال، وليست على مدار السنة.

الصلاة من أجل المربوطين برباطات الشياطين:

أمَّا الآن، فعلينا أن لا نُقصِّر في الصلاة من أجل المربوطين برباطات الشياطين، في بيوتنا وفي قلالينا. فعندمـا نُصلِّي مـن أجل مَن رَبَطَه الشيطان، فإنـه سيرتاح ويشعر ب‍هذا الارتياح. فالشيطان مستبدٌّ بنا، ويوجِع قلوب كثيرين ظلماً، وقد استولى على الأفكار والنفوس بلا معنى وبلا داعٍ، وأوقع الإنسان في الأحزان النفسية، وعدم التوافُق مع الواقع، والانسحاب إلى الوراء إلى الماضي. وفي أحيانٍ كثيرة يخور الجسد، وغالباً فـالضعف الذي يُصيب الجسد هو نتيجة عمل النفس في الجسد، وعمل النفس هو نتيجة عمل الفكر الذي يعمل فيه الشيطان. والمحصلة النهائية ضعفٌ شاملٌ للنفس والجسد معاً.

والآن اسمح، يا رب، ومدَّ يمينك والْمِس رؤوس عبيدك، وأَعطِنا جميعاً الحلَّ والشفاء من روح الضعف والمرض، وليُعظِّم الجميع اسمك، ويبتهج الكل بخلاصك.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

(1) هذه العظة هي عن إنجيل قدَّاس يوم الخميس من الأسبوع الخامس من الصوم الأربعيني المقدس عام 1990. وهي رقم (20) من سلسلة العظات التي تُسمَّى ”الطريق إلى ملكوت الله“.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis