طعام الأقوياء
- 78 -



تجلِّي المسيح لنا وفينا، وتجلِّينا فيه
- 2 -
«أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي
في الظلمة، بل يكون له نور الحياة»
(يو 8: 12)

تجلِّي المسيح فينا:

لم يتجسَّد الله الكلمة ويحلَّ بيننا، إلاَّ لكي يُظهِر لنا مجده، ويُعلِن لنا أُلوهيته وطبيعة الله الآب الذي أرسله، والروح القدس المنبثق من الآب، والذي هو وَعَدَنا بحلوله فينا، لكي يمكث معنا ويسكن فينا ويأخذ مِمَّا للمسيح ويُعطينا، وأيضاً لكي يتجلَّى فينا بنوره. وهكذا، كما أنه هو ”نور العالم“ يجعلنا نحن أيضاً ”نور العالم“، إذ قد أَعلن ذلك قائلاً: «أَنَـا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يو 8: 12).

لذلك خاطبنا الرب في الموعظة على الجبل قائلاً: «أنتم نور العالم. لا تُخْفَى مدينةٌ على جبلٍ، ولا يُوقَد سراجٌ ويُوضَعُ تحت المكيال، ولكن على مكانٍ مُرتفعٍ حتى يُضيء لجميع الذين هُمْ في البيت. فلْيُضئ نورُكم هكذا قدَّام الناس ليُشاهدوا أعمالكـم الصالحـة، ويُمجِّدوا أبـاكم الذي في السموات» (مت 5: 14-16 - الترجمة العربية الجديدة). لذا بدأ القديس يوحنا إنجيله قائلاً: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (يو 1: 1-5).

فقد استُعلِن للقديس يوحنا أنَّ الكلمة الذي كان منذ الأزل عند الله، هو الله، لأنـه لا يمكن أن يكون الله بـدون كلمة. وبالكلمة خَلَقَ الله كـلَّ شيء، كما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ» (كو 1: 16). وبما أنَّ الكلمة هـو الله، فلابد أن الكلمة فيه الحياة لأنه هو مُعطي الحياة، فهو مَـن به قـد صار كل شيء وبغيره لم يكن شيء مِمَّا صار له وجـود. فهو مُعطي الحياة وأصل الحياة، فقد قال الله الكلمة عن نفسه: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو 14: 6).

ولكـن الله الكلمـة ليس هـو مُعطي الحياة فحسب، ولكنه نـور الحياة، لـذلك أضاف يوحنا الرسول قائلاً: «وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ». وهذا هو ما قاله الرب يسوع عن نفسه: «أَنَـا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُـورُ الْحَيَاةِ» (يـو 8: 12). هـذا النور الـذي مصدره الحياة في المسيح وأتباعـه، هـو نـور معرفة الله الذي لا تُدركه الظلمة قط، بل يُضيء في الظلمة. لذلك فإنَّ الذي يتبع المسيح ويحفظ وصاياه لا يمشي في الظلمة، لأن نور المسيح في داخله يُنير له الحياة ويُنير لكلِّ مَن حوله.

كما يقـول أيضاً القديس يـوحنا في إنجيله: «كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُـوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَـانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُـلَّ إِنْسَانٍ آتِيـاً إِلَى الْعَالَمِ» (يو 1: 6-9).

فشتَّان بين النـور الحقيقي، وبين مَـن جـاء ليشهد للنور!

فمع أنَّ يوحنا المعمدان جـاء مُتقدِّمـاً أمـام المسيح كملاكٍ يُهيِّئ الطريق قدَّام النور الحقيقي، ورغم أنـه بشهادة الرب يسوع نفسه، فهو أعظم مواليد النساء، وأنـه «كَـانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ» (يو 5: 35)؛ إلاَّ أنه لم يَرْقَ إلى أن يكون سوى ”السراج المُوقَد المُنير“. أمَّـا المسيح فهـو «النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُـلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ».

ويُعلِّق القديس كيرلس الكبير قائلاً:

[كـان الآب هـو النور الحقيقي، فليس آخر غيره هـو النور حقّاً، ولا يوجد مَـن يملك إمكانيـة أن يصبح النور، ولا تملك الكائنات أن تُعطي من طبيعتها النور، لأنها خُلِقَت من العدم، ولا تستطيع أن تجود بما لا تملك، ولا أن تتطوَّر وتصبح النور.

فمَـن كـان أصلهم العـدم لا يملكون أن يجـودوا، وإنما ينالـون أشعة النور الحقيقي الذي فيهم عندما يشتركون في الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4)، وعندمـا يتشبَّهون بـالطبيعة الإلهية يُدعَون نوراً ويصيرون نوراً](1).

وبما أنَّ المسيح له المجد هو ”النور الحقيقي“، فهذا يعني أنه ينتسب إلى الله الذي هو ”الحق“، فهو الحقيقي وحده، وأيُّ نورٍ غيره هو نورٌ زائلٌ ومؤقَّتٌ وغير دائم وغير مستمر. وهذا الاصطلاح يُستَخدَم كثيراً في إنجيل يوحنا، مثل: «الخبز الحقيقي النازل مـن السماء»، والكرمـة الحقيقيـة، و”الساجدون الحقيقيون الذين يسجدون لله بالروح والحق“، كما أنَّ الرب يسوع قال في صلاتـه التي خاطب بها الآب في ليلة آلامه: «أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْـدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يو 17: 3).

«كان النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان

آتياً إلى العالم»:

أما قوله: «الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ»، فهـو يعني أنَّ النور الحقيقي هـو الذي يَستَعلِن الله ويكشفه لنا، ولا يوجد نورٌ آخر أو واسطة أخرى مهما كـانت تقدر أن تُوصِّلنا إلى الله: «أَنَـا هُـوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6). فكلُّ مَن يأتي إلى هذا النور أو يَقْبَلُ هذا النور تنفتح بصيرته ويتجلَّى الله فيه، أو يُستَعلَن الله له، كقول الرب يسوع: «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَـنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46). كما قـال أيضاً مُحـذِّراً: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ... مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ» (يو 12: 36،35). كما سبق وقال أيضاً: «وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَـدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُـلَّ مَـنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّـخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّـا مَـنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ» (يو 3: 19-21).

فـالنور الحقيقي، رغم أنه جاء لكي يُنير كلَّ إنسانٍ آتياً إلى العالم، إلاَّ أنَّ مَـن لا يقبله يُدان، لأن «النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً»، مع أنَّ الله «لَمْ يُرْسِلِ... ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ» (يو 3: 17).

ويَظهر ذلك جليّاً في معجزة الشفاء التي أجراها الرب يسـوع للمولود أعمى: فقبـل أن يفتح الرب عينيه، أو بالحري يخلق له عينين جديـدتين، قـال: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5،4). وبعد أن فَتَحَ الرب عينَي المولود أعمى ورأى ردَّ فِعْل المعجزة عند الفرِّيسيين الذين أدانوا المسيح لأنه فَعَلَ المعجزة في يوم السبت، كما أدانوا الأعمى الذي أبصر لأنه شهد للمسيح قائلاً: «لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيئاً»!! كان تعليق الرب على ذلك قائلاً: «”لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِيـنَ يُبْصِرُونَ“. فَسَمِعَ هـذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِـنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: ”أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟“ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ”لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ“» (يو 9: 33، 39-41).

فمع أنَّ الرب يسوع قد جاء نوراً للعالم، وقد أعطى نور البصر والبصيرة للمولود أعمى، إلاَّ أنه في الوقت نفسه بسبب رَفْض الفرِّيسيين الإيمان بـه مـن خلال هذه المعجزة التي جعلت الأعمى يُبصر النور ويؤمن بالنور الحقيقي، لذلك فقـد عَمِيَ الذين يُبصرون. وقـد تأكَّدَت خطيَّتهم لأنهم لم يعترفـوا بعَمَى بصيرتهم، وظنُّـوا في أنفسهم أنهم مُبصرون. وهكذا صار مجيء النور الحقيقي إلى العالم دينونةً لمَن ظنُّوا في أنفسهم أنهم مُبصرون.

تجلِّينا في المسيح:

في ليلة آلام الرب يسوع، كـان جالساً وحوله تلاميذه الاثنا عشر بعد أن غَسَلَ أرجلهم وسلَّمهم سرَّ الجسد والدم، ثم أعلن لهم أنه ماضٍ ليُعدَّ لهم مكاناً، ثم أردف قائلاً: «وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 14: 3،2). لقد كان كلاماً عجيباً غير مفهوم قَصَدَ بـه الرب أن يؤكِّد لهم أنه لن يتركهم، حتى وإن مضى عنهم فإلى حين. ثم بعـد قليل بـدأ يكشف لهم أنه مزمع أن يطلب مـن الآب فيُعطيهم مُعزِّياً آخر ليمكث معهم إلى الأبد، وذلك قبل أن يقول لهم صراحةً: «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضاً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَـا فِيكُمْ. اَلَّذِي عِنْدُه وَصَايَـايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي... إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يو 14: 18-21، 23).

مِمَّا تقدَّم يتَّضح لنا: أولاً: إنَّ الرب يُريد أن نكون دائماً حيث يكون هو عن يمين الآب.

وثانياً: إنه لن يتركنا يتامَى بل يُعطينا مُعزِّياً آخر ليمكث معنا إلى الأبـد، وهو الروح القدس الذي وإن كُنَّا لا نراه جسديّاً مثل حضور الرب يسوع معنا جسديّـاً؛ إلاَّ أنـه سيكون معناً روحيّاً ويحـلُّ فينا ويمكث معنـا إلى الأبـد، ويأخـذ مِمَّا للمسيح ويُعطينا.

وثالثاً: إنـه يقـول لنا: «إِنِّي أَنَـا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ»، أي أنَّ الرب يسوع حيٌّ إلى الأبـد، كما جاء في قوله في سِفْر الرؤيا: «أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِيـنَ» (رؤ 1: 18،17)، فـالمسيح رغـم انطلاقه إلى السماء جسديّـاً إلاَّ أنـه حيٌّ يسكن بالإيمان في قلوبنا.

رابعاً: إن كـان التلاميذ لا يعلمون في ليلة آلامه كـلَّ أسرار الفداء والخلاص، إلاَّ أنهم بعد قيامته وصعوده وحلول الروح القدس عليهم سوف يعرفون أنَّ الابن في الآب كما أنهم فيه وهو أيضاً فيهم. وهـذه هي شركة الطبيعة الإلهية التي تكلَّم عنها بطـرس الرسـول: «... لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (2بط 1: 4).

خامساً: الذي يحبه الابـن يحبـه الآب، والرب يسوع يحبه ويُظهِر له ذاته؛ والذي يحب الابن ويحفظ وصاياه، يأتي إليه الثالوث وعنده يصنع منزلاً.

وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:

[إنَّ سـرَّ الأُلوهية سيُعلَن بوضـوح لأنقياء القلب، ويُعطيهـم الـرب نـوراً يُضيء لهم الطريق في كلِّ ما هو واجب، وذلك بواسطة روحه، ويكشف نفسه لهم...](2).

وقـد حدث هذا التجلِّي في العهد القديم لموسى النبي عند استلامه لوحَي العهد المكتوبَيْن بإصبع الله، وصار وجهه يلمع تعبيراً عن المجد الذي ناله الجسد بمواجهته لنور ضياء الله (خر 34: 30-35).

كما يحفظ لنا التقليد الاحتفال بتذكار صعود جسد القديسة العذراء مريم والدة الإله التي حملت في أحشائها كلمة الله، فيقول الأب متى المسكين:

[فـأيُّ مجدٍ نـاله جسد البتول؟ فتكريمنا لهذا الصعود هـو جـزءٌ لا يتجزَّأ مـن إيماننـا بالأُخرويـات... لأنـه معـروفٌ أنَّ قيامـة الأجساد مـن صميم عمل المسيح في الدهر الآتي، وإن كان صعود جسد العذراء ليس في حقيقته فِعْل قيامة؛ إلاَّ أنه حالة تجلٍّ ظهر فيها الجسد محمولاً على أيدي قوات ملائكية](3).

كما جاء في سِيَر القدِّيسين أنَّ القديس أنبا مقار شهد له سبعة آباء كبار، أنهم رأوه مُضيئاً داخل قلايته في ظلام الليل. والأب شيشوي ساعة نياحته، رأوا وجهه يشعُّ منه نـورٌ كالشمس. والأب بامو كـان يصعب أن يتطلَّع أحدٌ إلى وجهه بسبب المجد الذي كان يشعُّ منه، فكان يبدو كمَلِك على عرشه. والقديس أرسانيوس رآه تلاميذه مرَّةً وهو يُصلِّي وكأنه كالنار. والقديس يوسف الكبير رآه إخوته وهو يُصلِّي رافعاً يديه وإذا بأصابعه كعشر شُعلاتٍ من النار.

(يتبع)

(1) ”شرح إنجيل يوحنا“، المجلَّد الأول (مؤسَّسة القديس أنطونيوس)، ص 100.
(2) ”شرح إنجيل يوحنا“، المجلَّد الثاني، 14: 21.
(3) ”من الأدب الكنسي التقليدي في عيد صعود جسد السيدة العذراء إلى السماء“، (1973).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis