تأملات في
شخص المسيح الحي
- 50 -



المسيح

عمل الخلاص الذي أتى المسيح ليُتمِّمه (18)

ثانياً: المسيح الكاهن الأعظم (11)

تقديم المسيح نفسه ذبيحة من أجل حياة العالم (6)

الصليب

خشـبة الصليب في نظـر اليهود ”لعنـة“، والمذبح الجديـد هـو ”نعمـة“: ”الخشبة“ أو ”الشجـرة“ صـارت استعارة غنيـة بالمعاني، وتشمل كِـلا ”الصليب“ و”المذبـح“ في كنيسة العهد الجديد: «وحَمَلَ هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرِّ، وبجراحه شُفيتُم» (1بط 2: 24 - ترجمة الروم الأرثوذكس بلبنان).

وهكـذا صـارت الصور العكسية مُذهلة: فخشبة الصليب صـارت هي خشبة المذبح في العهد الجديد. أمَّـا المُثير للعَجَب فقد كان، بما لا يُقارَن، أنَّ المسيح المصلوب هو رئيس الكهنة الحقيقي (بدلاً من قيافا رئيس الكهنة اليهودي)، وصار هو أيضاً الذبيحة الحقيقية (بدلاً من ذبائح اليهود من الحيوانات، في العهد القديم)!

على هـذه ”الخشبة“ ذُبِحَ المسيح، ثم قام مُنتصِراً على الموت: «الله قادرٌ على الإقامة من الأموات أيضاً» (عب 11: 19).

ومن الآن صار للبشرية ”مَذْبحٌ“. فالصليب صار منذ يوم الصَّلْب هو المذبح الحقيقي الذي قُدِّم المسيح عليه حاملاً خطايا البشرية كلها في جسده.

”خارج المحلَّة (البوَّابة)“: ومِن هناك، صار ذلك الامتداد المُذهـل للمذبح الجديـد كما في الرسـالة إلى العبرانيين: «لأن الحيوانـات التي يدخل رئيس الكهنة (اليهودي) بدمها إلى قُدْس الأقداس كفَّارة للخطيئة، تأكل النار أجسامها في خارج المحلَّة (أي خـارج البوَّابـة، أي خارج المدينة), ولذلك مـات يسوع في خارج بـاب المدينة (خـارج أبواب أورشليم) ليُقدِّس الشعب بدمه. فلنخـرج إليه، إذن، في خارج المحلَّة حاملين عاره. فما لنا هنا في الأرض مدينةٌ باقية، ولكننـا نسعى إلى مدينة المستقبل» (عب 13: 10-14 الترجمة العربية الجديدة).

شركة آلام المسيح: بهذه الصورة، صارت خشبة الصليب، ليست فقط لتقديم الذبيحة، بـل وأيضاً صارت هي المذبـح الذي قُـدِّم عليه المسيح، وكـذلك أيضاً صـارت هي عرش الملكوت الروحي. الصليب يقف ليس فقط في مركـز حياتنا المسيحية، ولكـن أيضاً وبالأكثر يقودنـا إلى معرفـة المسيح في آلامـه وموتـه وقيامته: «فـأعرف المسيح، وأعرف القوة التي تجلَّت في قيامته، وأُشاركه في آلامه، وأتشبَّه به في موته، على رجاء قيامتي مـن بين الأموات» (في 3: 11،10 - الترجمة العربية الجديدة).

هذا التفسير لموت الرب يحتاج إلى تفسير: فالذي لم يعرف خطية، جُعِلَ خطية: «لأنه (الله) جَعَلَ الذي لم يعرف خطيةً، (جعله) خطيةً لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (1كو 5: 21).

الازدراء بالصليب صار هو النعمة للمؤمنين: ”الصليب“، حسب لُغة ذلك العصر الذي صُلِبَ فيه المسيح، كان يُعتَبَر ”لعنة“ عاناها المسيح. ولكن مقابل ذلك، صار ”الصليب“ هو افتداءً وتخلُّصاً وخلاصاً من لعنة الخطية (التي هي الموت)، التي نحسُّ نحـن بها حينما نحاول - خطأً - أن نُخلِّص أنفسنا بأنفسنا! بخضوعنا تحت المطالب الشرعية الصعبة. لذلك أتى المسيح لكي يفتدينا من اللعنة: «إذ صار لعنةً لأجلنا، لأنه مكتوبٌ: ”ملعونٌ كلُّ مَن عُلِّق على خشبةٍ“» (عب 3: 13).

لذلك، لابد أن نكون «ناظرين (دائماً) إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع (المصلوب)، الذي مـن أجـل السرور الموضوع أمامـه، احتمل الصليب مُستهيناً بالخِزي، فجلس في يمين عرش الله» (عب 12: 2).

وبهـذا يكون المسيح قـد ألغى بهـذا العمل الخلاصي لعنة الشريعة القديمة «إذ محـا الصَّك الذي علينا (أي اللعنة)... مُسمِّراً إيَّاه في الصليب (رمزاً لتسمير يدَي المسيح بالمسامير)، إذ جرَّد الرياسات (الشيطانية) والسلاطين (أي سلاطين الظلمة) أشهرهم جهاراً، ظافراً (أي قَبَضَ عليهم وأهلكهم) بهـم فيـه (أي في الصليب)» (كـو 2: 15،14).

المسيح المنتصر والغالب

طريق الخلاص لابـد أن يكون متوافقاً مـع حكمة الله وسُلطانه وقداسته. والصليب يتناغم مع هذا ”الانتصار“. ولكن هـذا يُثير التساؤل عـن كيف يمكن للصليب أن يُعتَبَر ”انتصاراً“.

الانتصار كـان بالعدل والبرِّ، وليس بالقوَّة: يَعتَبِر القديس غريغوريوس اللاهوتي أنَّ ”منهج خلقتنا الجديدة“ يجب أن يكون هو منهج الحرية، بدون أي تعزيز بالكبرياء:

[فـأيُّ علاج بالعنف المُستَهجَن، وأيَّة أدويـة مُرَّة، مرفوضة ولا تصلح لإصلاحنا. ولكن الله يُدبِّر أموراً من أجل شفائنا بالدواء اللطيف الحنون، كوسيلة لشفائنا، كمثل أيَّة شجرة رهيفة يُحْنيها الزارع ببطء لئلا تنكسر](1).

الصليب يُظهِـر تـدبير الله غير العنيف في امتصاص العنف: ويكتب القديس إيـرينيئوس: ”لقد تعلَّمنا أنه لم يكن غير طريقٍ واحد لافتداء البشرية مـن الخطية والشرِّ، وذلك عـن طريق مـوت ابـن الله المُتجسِّـد علـى الصلـيب“. وباختصار، فإنَّ القديس إيرينيئوس يُفرِّق بين ”عنف“ الشيطان، وبين ”عدم عنف الفادي“:

[فمنذ أن تسلَّط علينا المُرتـدُّ (الشيطان) عن غير وجه حقٍّ، وبالرغم من أننا بالطبيعة في ملكية الله الكلِّي القدرة؛ فقد جعلنا نتحوَّل عن الله، وهذا ضد الطبيعة البشرية. ولكن كلمة الله أتى، وهـو صاحب السلطان على كـلِّ الأشياء، وجَعَلنا تلاميذه الخصوصيين، وهـو ليس ناقصاً البتَّة في عدالته. فقد تحوَّل، عن حقِّ، ضد المُرتدِّ (الشيطان)، وخلَّص خاصَّتَه مـن قبضة الشيطان، ليس بوسـائل العنف (مثلما يفعل الشيطان، إذ فَرَضَ سُلطانه علينا منذ البدء، عندما انتزع مَن هم ليسوا مِلْكه) عـن طريـق غوايته؛ وإنما إله المشورة لم يستخدم وسائل العنف ليسترجع الذين هم له، بل وسـائل الإقناع. فـالله هـو إله المشورة والنُّصح، الذي لا يستخدم وسائل العنف لينال مـا يُريده. وبهذا، فـلا العدالة انتُهِكَت، ولا خليقة الله هَلَكَت](2).

وهكذا، فبانقلاب سيطرة المُخادِع الظالم على البشرية، بسبب تجديفه وعصيانـه لله، فقـد اختار الله هـذه الطريقة العادلة، بـأن يسترجع الذيـن كـانوا خاصَّته، ليس بالعنف، ولا بالأمر الاستبدادي؛ بـل عـن طـريق الإقناع. وهـذا ما يتناسب مع شخص الله.

الله يُخلِّـص البشريـة، ليس بالقوَّة، بـل باتِّخاذه المسئولية تجاهنا ومن أجلنا، إذ يترك العدو يتعثَّر وتزلُّ قدماه في شرِّ أعماله.

الوسـائل العادلـة هي المطلوبـة: يُبرهن القديس أُغسطينوس في مقاله عـن ”الثالـوث القدوس“، على أنه لم تكـن هناك طريقة مُناسبة لتحرير البشرية مـن الخطية، سـوى التجسُّد والفداء، ولم تكن أيَّة وسائل أخرى؛ ولكن بتدبير الله الصالح لم تكن هناك وسيلة أخرى غير ذلك:

[فبالعدالة الإلهية، خلَّص كل الجنس البشري من سُلطان الشيطان، وذلك يرجع إلى نعمة الاختيار الشخصي الحُرِّ](3).

[إلاَّ أنه يجب ألاَّ نظن وكأنَّ الله هو الذي دبَّر هذا (أي صَلْب المسيح)، أو هو الذي أَمَرَ بأن يتمَّ موت المسيح هكذا بالصَّلْب؛ بل هو فقط ترك ذلك ليحدث حسب الواقع](4).

وحتى بتَرْك الله الحريـة تحدث وتأخـذ مجراها خلال محاكمة المسيح، فقد كـان يُواصل سَكْب بركاته على الخطاة بحسب العناية الإلهية.

القُوَى الشيطانية تقـع في شَـرَك شهوتها للتسلُّط على البشر: إنَّ مفتاح التدبير الإلهي هو في أنَّ ”الشيطان لابد من كَسْره، ليس بالسلطان الإلهي، بل بعَدْله (الإلهي)“. لأن الشيطان صار ”يَلْهَث وراء التسلُّط. وهكذا سُرَّ الله، مـن أجل إنقاذ البشر مـن سُـلطان الشيطان، أن يكسـر الشيطان، ليس بالقوَّة، بل بالعَدْل“(5)؛ وذلك ليس كأنَّ السلطان هو شرٌّ في جوهره، بل لأنه دائماً عُرْضة لإساءة الاستعمال.

التـوازن الـدقيق بين الصفـات الخاصَّـة المُميَّزة: لقد لاحَظ القديس غريغوريوس النيصي أنَّ:

[المـريض لا يَفْـرض على الطبيب وَصْفَ جُرعات الدواء له للعلاج...

(لأن) صـلاح الله واضحٌ في اختياره أن يُنقذ الذي ضلَّ وضاع. إنَّ حكمة الله نراهـا في ”كيف خلَّصنا“!](6).

[ومِن حيث إننا بإرادتنا قد بِعْنا أنفسنا، فالله الذي تعهَّد - بناءً على صلاحه - بأن يَرُدَّ لنا حُرِّيتنا، كـان عليه أن يُدبِّر طريقـة عادلة، وليست مُستبدَّة لإتمام ذلك](7).

[وهو (أي الله) في صلاحه تعهَّد خلاصنا، فكان لابد أن يجد طريقة لحريتنا، ليس اعتباطاً، بل بطريقةٍ عادلة، ليتحقَّق لنا هذا](8).

[الفداء لم يكن مُمكناً أن يحدث إلاَّ من خلال تاريخ حقيقي يشهد لطول أَناة الله](9).

[إنَّ صـلاح الله وعدله نـراهما في الطريقة التي خلَّصنا بها. وسُلطانـه واضحٌ في هـذا المبدأ، إذ أتى في شكل إنسان](10).

إنَّ هذا التشبيه الاستعاري الذي يستخدمه القديس غريغوريوس النيصي قد يبدو غريباً لدى البعض، لكنه يحمل المعنى الذي يُريده القديس من خلال شرحه: لماذا تجسَّد المسيح في صورة إنسان؟ ”اللاهـوت كـان مُستتراً تحت حجاب طبيعتنا البشرية، وكأنها سِنَّارة صَيْد السمك حين تبتلع السمكة الطُّعْم، فيصطادها صائـد السمك للموت“(11).

وبهـذه الطريقـة التي يشرحها القديس غريغوريوس النيصي، فـإنَّ المسيح ”اشترك في بشريَّـة الإنسان، لكي بموتـه، يُبيد الموت في شخص الشيطان“: «ولمَّا كان الأبناء شركاء في اللحم والدم، شاركهم يسوع كـذلك في طبيعتهم هذه، ليقضي، بموته، على الذي في يده سلطان الموت، أي إبليس، ويُحرِّر الذيـن كـانوا طوال حياتهم في العبودية خوفاً من الموت» (عب 2: 15،14 – الترجمة العربية الجديدة).

فالقديس غريغوريوس النيصي، في شرحه للفداء، يُركِّز على انتصار المسيح على الشيطان.

(يتبع)

(1) Orat. XLV,12; NPNF, 2, VII, p. 427.
(2) Ag. Her. , V. 11; ANF, I, p. 527.
(3) Trin., XIII. 12; FC 45, p. 391.
(4) Ibid, p. 392.
(5) Augustine, Trin., XIII. 13; FC 45, p. 393.
(6) Great Catech., XVII; NPNF, 2, V, p. 489.
(7) Gregory Nyssa, ARI 22; LCC III, p. 299.
(8) Gregory Nyssa, Great Catech., XXII; NPNF, 2, V, pp. 492-92.
(9) Gregory Nyssa, ARI 20; LCC III, p. 297.
(10) Gregory Nyssa, ARI 24; LCC III, p. 301.
(11) Gregory Nyssa, Great Catech., XXIV; NPNF, 2, V, pp. 494.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis