تأملات روحية



«والكلمة صار جسداً»
(يو 1: 14)

خلقة الله للإنسان:

منـذ الأزل يحيـا الثالـوث القدوس: الآب والابـن والـروح القدس، في شـركة المحبة الإلهية، مكتفياً بهذه الشركـة العميقة بين أقـانيم الثالـوث القدوس في الجوهـر الإلهي الواحـد، كمُحب ومحبوب ومحبة، فجوهـره الإلهي هـو المحبة: «الله محبة» (1يو 4: 8).

ولكـن الله مِـن فيـض محبتـه وعِظَـم جُـوده وصلاحه، خَلَـق الخليقة وأوجدها مـن العدم وبدون مادة موجودة سَلَفاً (كما كـان يُروِّج بعض الفلاسفة أنَّ المادة أزلية)، بل بكلمته الحيَّة، كما يقـول بـولس الرسـول: «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُـوَ ظَاهِرٌ» (عب 11: 3). ولأن الله هـو نبع الصلاح والمحبة، فقد خَلَقَ الإنسان واهباً إيَّاه نعمـة الخِلْقة على صورتـه ومثاله، مـانحاً إيَّاه الحيـاة الأبـديـة إن ظـلَّ الله في معرفـة الإنسان، طائعاً لأوامره الإلهية ووصاياه.

وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[الله صالحٌ، بل هـو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بـأيِّ شيء، وهـو لا يحسد أحداً حتى على الوجود. ولذلك خَلَقَ كلَّ الأشياء مـن العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وبنوعٍ خـاص تحنَّن على جنس البشر. ولأنـه رأى عـدم قُدرة الإنسـان أن يبقى دائماً على الحالة التي خُلِقَ عليها، أعطاه نعمةً إضافية، فلم يكتفِ بخَلْق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض؛ بـل خلقهـم على صـورتـه، وأعطاهم شركة في قوة كلمته، حتى يستطيعوا - بطريقةٍ ما، ولهم بعضٌ مـن ظِلِّ الكلمة، وقـد صاروا عُقـلاء - أن يبقـوا في سـعادةٍ ويَحْيَوْا الحيـاة الحقيقيـة، حيـاة القدِّيسين في الفردوس](1).

سقوط الإنسان:

ولأن الله خَلَق الإنسـان على صورته ومثاله، ومِـن سـمات هـذه الصـورة: العقل والحريـة والإرادة، دون سائر المخلوقـات الأرضية؛ أصبح الإنسان حُرّاً في اختياراته. فإن استمرَّ في طاعة الله وحِفْـظ وصايـاه سيَنْعَم بـالشركـة مـع الله، وسيصل حتماً ليكون على مثال الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها؛ ولكن إن خالَفَ وصايـا الله، ولم يكُن الله هـو مركـز حياتـه، بل ذاتـه وأنانيته هما محـور حياتـه، فحينئذ سيسقط مـن النعمة التي وُهِبَت له، وتُنزَع منه هـذه النعمة الإلهية الحافظـة له، ويُهيمن عليه الفساد، ويسود عليه الموت مع أنه خُلِقَ في البداية ليحيا: «إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَـةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ الْبِرَّ خَالـِدٌ. لكِـنَّ الْمُنَافِقِينَ هُـمُ اسْتَدْعَوُا الْمَـوْتَ بـِأَيْدِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ» (حكمة 1: 13-16).

وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[(لقد) خَلَقَ الله الإنسانَ، وكـان قصده أن يبقى في عدم فساد. أمَّا البشر، فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكَّـروا في الشـرِّ وابتدعـوه لأنفسهم... فقـد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم بـه. ومِن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلِقوا، بـل إنَّ أفكارهم قادتهم إلى الفساد، ومَلَكَ عليهـم المـوت؛ لأن تعـدِّي الوصيـة أعـادهم إلى حـالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِـدوا مِـن العـدم، هكـذا أيضاً بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن](2).

ولكـن القديس كيرلس الكبير يُصـرِّح أنَّ ما فَقَدَه الإنسان نتيجة لسقوطه، هـو الروح القدس عينه، ذلك الذي نَفَخَه الله في أنف آدم عندما خَلَقَه على صورتـه ومثالـه، وبـالتالي صـار الإنسان مُعرَّضاً لكلِّ عوامل الفساد والموت، فيقول:

[(لقـد) فـارَقَ الـروح القـدس الطبيعـة البشريـة التي صـارت مريضـة في كـلِّ البشر، ولكي تعـود الطبيعة البشريـة مـن جديـد إلى حالتها الأولى (التي خُلِقَـت عليها)، احتاجت إلى رحمة الله، لكي تُحسَـب بموجـب رحمة الله مُستحقَّة الروح القدس](3).

هل التوبة وحدها تكفي لعودة الإنسان

إلى حالته الأولى؟

إن الفساد الذي حـلَّ بالإنسان نتيجة للسقوط، وسيادة المـوت عليـه، قـد هيمَن على الكيـان البشري ككلٍّ. فقد تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان - ولم يفقدها - لكنه فَقَـدَ القدرة على مُشابهـة هـذه الصـورة الإلهيـة، وذلك بتَعَـرِّيـه مـن الـروح القـدس. فـأصبحت مجـرَّد التوبة، لا تكفي لعودة الكيان البشري إلى ما كـان عليه قبل السقوط، وبالتالي عـدم قدرة الإنسـان على اقتناء الروح القدس الذي فَقَده.

ويُوضِّح القديس أثناسيوس الرسولي هذا الأمر بقوله:

[لكن التوبة تعجز عن حِفْظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقاً إنْ لم يظلَّ الإنسان في قبضة الموت (لأنـه تعدَّى فحُكِمَ عليه بـالموت كقول الله)، ولا تقـدر التوبـة أن تُغـيِّر طبيعـة الإنسان، بل كـل ما تستطيعه هـو أن تمنعهم عن أعمال الخطية.

فلو كان تعدِّي الإنسان مجرَّد عملٍ خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أمَّا الآن بعد أن حـدث التعدِّي، فقد تورَّط البشر في ذلك الفساد الذي كان هـو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مُمَاثلة صورة الله](4).

ولكن، ليست التوبة فقط هي التي لا يمكن أن تُجدِّد كيـان الإنسان الذي تشوَّه بـالتعدِّي، ولكن ”بعـد أن خَلَق الله الإنسـان، وصـار موجـوداً، استدعت الضرورة علاج ما هـو موجود (فعلاً)، وليس مـا هـو غير موجود“. وأيضاً لا يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تكـون لديها القدرة على تجديـد خِلْقة الإنسـان على مثال الصورة التي جُبِلَ عليها. فـالإنسان مخلوقٌ على مثال تلك الصورة الإلهية، وليس هو الصورة عينها؛ كما أنَّ أيَّة خليقـة أخرى ليست هي صورة الله التي على مثالها خُلِقَ الإنسان.

هل يمكن تجديد كيان الإنسان بأَمرٍ إلهي؟

ويستطرد القديس أثناسيوس الرسولي في توضيح هذه النقاط قائلاً:

[في البدء لم يكـن شيءٌ موجوداً بالمرَّة. فكلُّ مـا كـان مطلوبـاً هـو مجرَّد نُطق مـع إرادة (إلهيـة) لإتمـام الخَلْق. ولكـن بعـد أن خُلِـقَ الإنسـان، واستدعت الضـرورة عـلاج ما هو موجودٌ، وليس مـا هـو غير موجود؛ عندئذٍ كـان مـن الطبيعي أن يَظهر الطـبيب والمُخلِّـص فيمـا هـو موجـودٌ، لكي يشفي الخلائق الموجودة (فعلاً)...

ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضاً، أنَّ الفساد الذي جرى (للطبيعة البشرية)، لم يكن خارج الجسد، بل كان مُلتصِقاً بـه. وكـان الأمر يحتـاج إلى أن تلتصـق بـه الحيـاة بـدلاً مـن الفسـاد، حتى كما صـار المـوت في الجسـد، تصـير الحياة في داخـل الجسـد أيضاً](5).

وهل يمكن لأيَّة خليقة أخرى

أن تُجدِّد كيان الإنسان؟

وفي مَثَلٍ واقعي يسرد القديس أثناسيوس الرسولي هذه القصة التي توضِّح مَقْصده:

[أيُّ مَلِكٍ، وهو مجرَّد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بـلاداً، (فهل) يترك مواطنيه لآخريـن يستعبدونهم؟ وهـو لا يَدَعهم يلتجئون لغيره؛ لكنه يُنذرهم برسائله، ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مـراراً، وإنْ اقتضـى الأَمـر يذهـب إليهم بشخصه، لكي يوبِّخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكـلُّ ذلك لكي لا يصيروا خُدَّاماً لغيره فيذهب عمله هباءً.

أَفـلا يُشفق الله بـالأَوْلَى على خليقته، كي لا تضلَّ عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يَظهر أنَّ هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟! وليس لائقاً أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرَّةً شركاء في صورة الله.

إذن، فما هـو الذي كـان مُمكناً أن يفعله الله؟ وماذا كـان يمكن أن يتمَّ سوى تجديـد الخليقـة التي وُجِـدَت على صـورة الله مـرَّةً أخرى...

ولكن كيف كـان مُمكناً لهـذا الأمـر أن يحدث إلاَّ بحضور نفس صورة الله، مُخلِّصنا يسوع المسيح؟ فذلك الأمر كـان مُستحيلاً أن يتمَّ بواسطة البشر، لأنهم هُم أيضاً خُلِقوا على مثال تـلك الصـورة (وليسوا هـم الصورة عينـها)؛ ولا أيضـاً بـواسـطة الملائكـة، لأنهـم ليسـوا صُوَراً (لله). ولهذا أتى كلمة الله بذاتـه، لكـي يستطيع، وهـو صـورة الآب، أن يُجدِّد خِلْقـة الإنسـان، على مثال الصورة (الإلهية)](6).

ضرورة تجسُّد كلمة الله ذاته:

رأينا أنه لا توجد وسيلة واحدة تستطيع أن تُحقِّق خلاص الإنسان، وتُجدِّد صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط، كمـا يقول القديس أثناسيوس: ”لـو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كـل هـذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عـن الله“. ويستطرد قائلاً: ”لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أمَّـا الآن، وبعد السقوط، فإنَّ هـذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هي غير مضمونـة، لأن البشر أهملوهـا سابقاً؛ بـل إنهم مـا عـادوا يرفعون أعينهم إلى فوق، بـل صاروا يشخصون إلى أسفل“(7).

فبسبب عدم نفع كل هـذه الوسائل، وأيضاً بسبب أن تجسُّد كلمة الله كان في فكر الله من قبل تأسيس العالم وخِلْقة الإنسان، لذلك يقول القديس كيرلس الكبير:

[صار الابـن الوحيد كلمة الله إنسانـاً، وظهر للذين على الأرض بجسدٍ مـن الأرض، ولكنه خـالٍ مـن الخطية، حتى فيـه وحـده تُتـوَّج الطبيعـة البشريـة بمجد عدم الخطية، وتغتني بـالروح القـدس، وتتجـدَّد بـالعودة إلى الله بالقداسة... وكما قلتُ، فـإن الطبيعة البشرية قد مُجِّـدَت فيه، وصارت فيـه مُستحقَّة للحصول على الروح القدس الذي لن يفارقها (فيما بعد) كما حدث في البدء، بـل صارت مسرَّتـه (أي الـروح القدس) أن يسـكن فينا. لـذلك أيضاً كُتِبَ أنَّ الـروح القدس حـلَّ... على المسيح واستقرَّ عليه (يو 1: 32). فالمسيح هو كلمة الله الذي لأجلنا صـار مثلنا، وفي صـورة العبد، ومُسِحَ كـإنسانٍ حسـب الجسد، ولكنـه كـإله يَمْسَح بروحه الذين يؤمنون به](8).

فلا يمكن أن تتجدَّد صورة الله التي تشوَّهت في الإنسان، إلاَّ بواسطة كلمـة الله نفسـه الذي جَبَل الإنسـان على مثـال هـذه الصورة. ولا يمكن أن يُغلَب الموت الذي تغلغل داخـل الكيان الإنساني إلاَّ بواسطـة مَـن هـو الحيـاة عينها، أي كلمة الله، فتتواجَه الحياة مع الموت السائد على الإنسان داخل الطبيعة البشريـة نفسها، والتي اتَّحد بها كلمة الله وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطية وحدها. ولكن كما نقول في مَرَد ثيئوطوكية الخميس من التسبحة اليوميـة: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“.

ويقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[لقـد تحدَّثنا، إذن، وبـاختصار... عـن سبب ظهوره (أي ظهور كلمة الله) في الجسد، وأنه لم يكُن مُمكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ المُخلِّص نفسه، الذي خَلَقَ منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكُن مُمكناً أن يُعيد خَلْقَ البشر ليكونوا على صورة الله إلاَّ هـو صورة الآب. ولم يكُن مُمكناً أن يجعل الإنسان غير مائتٍ إلاَّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها](9).

(1) ”تجسُّد الكلمة“، 3: 3.
(2) ”تجسُّد الكلمة“، 4: 4.
(3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1.
(4) ”تجسُّد الكلمة“، 7: 4،3.
(5) ”تجسُّد الكلمة“، 44: 4،2.
(6) ”تجسُّد الكلمة“، 13: 5-7.
(7) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 7،5.
(8) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1.
(9) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 1.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis